الفصل الثالث
شبهات واهية
الذين يعارضون التعدد ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة ، هي زاوية مصلحة الزوجات دون مراعاة لأحوال مئات الملايين من البائسات الوحيدات اللائي يعج بهن العالم كله .. وقد تأكد لي ذلك من خلال مناقشات مع كثير من الرجال والنساء في دول مختلفة زرتها منها العراق وسوريا ولبنان وتونس وأذربيجان و تركيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وسويسرا والبوسنة والهرسك وكرواتيا والولايات المتحدة الأمريكية وقبرص والمملكة العربية السعودية .. وفى مصر بطبيعة الحال .و معظم من تحدثت معهم ممن يرفضون التعدد قالوا : إن الاقتران بأخرى فيه ضرر وظلم يقع على الزوجة الأولى .. فهي تخسر نصف زوجها إذا تزوج بأخرى ، ولا يبقى لها إلا ثلثه إن تزوج بثالثة ، في حين يتضاءل نصيبها إلى ربع رجل إذا تزوج بأربع !!
ويزعمون أيضا أن العدل مستحيل مستشهدين بأول الآية ( وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( الآية 129 من سورة النساء. فهم يقولون :لقد أكدت هذه الآية استحالة تحقيق العدل ، ويتجاهلون بقية الآية ( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة ، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ). وسوف نتناول فيما بعد ما أورده المفسّرون في شرح هذه الآية الكريمة وأحكامها بما يوضح المقصود بها – على غير ما يذهب إليه معارضو نظام تعدد الزوجات .(9)
ونرد الآن على من يركّزون على ما يلحق بالزوجة الأولى من ضرر .. فليس صحيحا أن مجرد الزواج من أخرى يشكل ظلما للأولى ، إذ هي تعلم يقينا أن الإسلام يعطيه هذا الحق في الاقتران بأخريات في حدود الأربع زوجات ، وما لم تشترط – مسبقا – في عقد الزواج ألا يتزوج عليها فليس من حقها أن تمنعه مما أحلّ الله له.. صحيح سوف ينقص حظها منه ، ولكنها لن تفقده نهائيا كما في حالة اتخاذه عشيقة أو أكثر ..
ثانيا : قيّد الشارع الحكيم التعدد بضرورة العدل .. وهذا يعنى أن الزوجة لن تحرم من زوجها في حالة اقترانه بأخرى ، إذ هو ملتزم بالإنفاق على كل الزوجات والقسم بينهن في كل الأمور ، بما في ذلك المبيت عند كل واحدة كما يبيت عند الأخرى أو الأخريات.
ثالثا : إن ضرورات الحياة تفرض على كل زوج وزوجة التضحية ببعض ما يحب في سبيل المصلحة المشتركة لكليهما أو المصلحة العليا للمجتمع ، أو حتى مصلحة الآخر إذا كان يحبه حقا .. والإسلام يبغض الأنانية ويدعو إلى الإيثار وليست الأثرة القبيحة ..وفى عصرنا هذا نرى ملايين الرجال يسافرون للعمل في الخارج تاركين زوجاتهم وأطفالهم أعواما أو أكثر في سبيل لقمة العيش ..والغريب أن أولئك الذين يتباكون على نقص حظ الزوجة من رجلها حين يقترن بأخرى لا يعترضون على حرمانها الكامل سنوات و سنوات في حالة سفر الزوج للعمل بالخارج ، بل يدعون إليه ويشجّعونه بحجة الرغبة في زيادة موارد الدولة من العملة الصعبة ، ولو على حساب الأطفال والزوجات !!
وهناك أيضا من يسافرون للتجارة أو للدراسة في جامعات دول أخرى ، وبطبيعة الحال يضطّر المتزوّجون منهم إلى ترك زوجاتهم في مواطنهم إلى حين الانتهاء من الدراسة بعد أعوام .. فما بال المعترضين على التعدد هنا لا يفتحون أفواههم بكلمة هناك ، رغم أن الزوج في حالة التعدد يعود إلى أحضان زوجته بعد يوم أو يومين أو حتى أسبوع ،و لا يبتعد عنها أعواما ، كما يحدث في مثل هذه الحالات التي أشرنا إليها ؟!!!
وهناك فترات الولادة والنفاس التي تمتد إلى أربعين يوما لكل مرّة ، ويحظر الجماع خلالها ، وكذلك قد يمرض الزوج ويبتعد فترة تطول أو تقصر عن فراش زوجته ، وقد تمرض الزوجة نفسها فيبعدها المرض عن أحضان الزوج ، وتلك سنّة الحياة التي لا سبيل إلى تجاهلها أو المكابرة بشأنها ..
ولا ننسى الدورة الشهرية التي قد تطول من أسبوع إلى أسبوعين عند بعض النساء ، ويعتزلهن الرجال خلالها حتى يطهرن تماما ..
و الخلاصة أنه لا يوجد - في الواقع - ذلك الرجل الذي يبقى ملتصقا طوال الوقت بزوجته ، وحتى المقيم صحيح البدن يضطر الآن إلى الالتحاق بعمل آخر بعد الظهر ، ليزيد دخله ويمكنه الإنفاق على أسرته ، ومثل هذا الرجل يعود إلى المنزل متعبا في ساعة متأخرة من الليل .. وهكذا نرى أنه لا مفر من التسليم بعدم تفرّغ الكثير من الرجال لنسائهم في هذا العصر .
ولا داعي إذن إلى المبالغة في التهويل وتضخيم الضرر الذي يلحق بالزوجة الأولى بسبب التعدد .
رابعا : ما الأفضل في حالة تعلق الرجل المتزوّج بأخرى ؟! أن يطلّق الأولى المريضة أو المتقدمة في السن أو العاقر ، أم يستبقيها معزّزة مكرّمة في إطار الزوجية ولها مثل ما للأخرى أو الأخريات من حقوق على قدم المساواة ؟
خامسا : أليس اتخاذ الرجل تلك التي تعلق بها زوجة أكرم وأطهر من اتخاذ عشيقة في الظلام لا حقوق لها ولمن تنجب من أطفال يكون مصيرهم الملاجئ أو الشوارع ؟!! وما ذنب أمثال هؤلاء المساكين من الأطفال غير الشرعيين حتى يفقدوا الفرصة في الحياة الكريمة مثل إخوتهم ثمار النكاح الحلال ؟
سادسا : إذا كانت الإحصاءات الرسمية في معظم أنحاء العالم تثبت بصفة قاطعة التزايد المستمر في أعداد النساء بأضعاف أعداد الرجال ، وتسهم الحروب في زيادة الفارق الهائل بين أعداد كلا الجنسين – فكيف نعالج هذا الخلل الخطير ؟! وما مصير مئات الملايين من المسكينات اللائي فقدن الزوج و العائل ، أو فقدن الفرصة في الاقتران لقلة عدد الرجال ومقتل الملايين منهم في هذه الحروب المجنونة التي لا تتوقف ؟!! هل نحرمهن من حق مشروع في الزواج ، لأن عددا أقل من الزوجات تتغلب عليهن الأنانية النسائية ولا يطقن مشاركة من أخريات في أزواجهن ؟!! أو نتركهن عرضة للشذوذ أو المخادنة أو الكبت والحرمان ؟!!
إن التشريعات التي تطرح للتطبيق في المجتمعات المختلفة تستهدف تحقيق التوازن المطلوب بين مصالح الفئات المتنافسة ، مثلا التوازن بين العمال وأصحاب رءوس الأموال ، والتوازن بين الملّاك و المستأجرين . وبذات المنطق فإن التشريع الإسلامي العظيم يستهدف تحقيق التوازن الاجتماعي بين الكثرة الكثيرة غير المتزوّجة وأولئك اللاتي تزوّجن ..فليس من العدل ( في مصر مثلا ) أن تراعى مصالح ثمانية أو حتى عشرة ملايين من الزوجات على حساب عشرة ملايين امرأة وفتاة ينتظرن حظا من الحياة ، وإنما الأقرب إلى العدل والرحمة والإنسانية أن يشاركن المتزوّجات في التمتع بالحياة وبعطف ورعاية الأزواج ..
وهناك نقطة أخرى يثيرها معارضو التعدد ، وهى أن التعدد لا يحقق الإشباع لدى الرجل ، وهى مغالطة واضحة تنافى الواقع الملموس وطبائع الأشياء .. فالرجل إذا كانت له زوجتان أو ثلاث أو أربع يصل إلى مرحلة من الارتواء العاطفي والجنسي غالبا ، ويكون أقل من غيره استعدادا للوقوع في الخطيئة .
والأهم من ذلك أن التعدد لا يستهدف في المقام الأول أو الوحيد مجرد إشباع الشهوة .. فكما سيأتي – في موضع أخر - يقرر الطب النفسي أن الإشباع العاطفي أهم بكثير من مجرد الإشباع الغريزي والارتواء الجنسي ..
وليس الغرض الوحيد من الزواج هو ممارسة الجنس .. فالسكون العاطفي والمودة والرحمة وإنجاب الذرية الصالحة والترابط الاجتماعي بالمصاهرة ورعاية النساء والأطفال والقيام على شئونهم والإنفاق عليهم – كلها مقاصد أسمى بكثير من مجرد إشباع الشهوة .. والرجال يتفاوتون في القدرات الجنسية ، كما يتفاوتون في مقدار الحاجة إلى الأكل .
ثم إنه ليس مطلوبا من نظام كتعدد الزوجات أن يرتقى بالناس إلى مصاف الملائكة الأطهار الذين لا يخطئون ويفعلون ما يؤمرون . والشريعة الغرّاء لا تطالب الناس بهذا ، فنحن أولا وأخيرا بشر نخطئ ونصيب .. و المستهدف هو تجنيب المجتمع أسباب الرذائل بقدر الإمكان ، وتحصين المسلم بالوسائل التي تساعده على غض البصر وحفظ الفرج ، ومن هذه الوسائل المساعدة إباحة تعدد الزوجات - بشرط العدل - حتى نساعد الزوجات أيضا على الالتزام بالعفة وحفظ الفرج وغض البصر بدورهن . ورغم هذا قد ينحرف البعض . تماما مثلما أن الدولة الحديثة توفر فرص العمل للناس ، إلا أن هذا لم يمنع ولن يمنع انحراف البعض للسرقة أو السطو أو الاتجار بالمخدرات لتحقيق مكاسب غير مشروعة رغم وجود فرص الكسب المشروع .. فقط تحاول الدول المختلفة الحد من الظاهرة وتقليل أعداد المنحرفين ما أمكن .. هذا هو بالضبط ما تستهدفه أحكام الشريعة الإسلامية الغراء ( ومنها حق الرجال في تعدد الزوجات بضوابط وشروط معينة ) فالمطلوب دائما الإقلال من الجريمة والانحرافات وليس القضاء التام عليها ، لأن ذلك مستحيل في عالم البشر الضعفاء الخطّاءين ، وخيرهم بالطبع هم التوّابون الذين يجتهدون لمقاومة نزعات النفس الأمارة بالسوء.
ثم إن الرجال الذين لا تكفيهم أربع زوجات هم حالات شاذة نادرة ، والنادر لا حكم له ، فالأحكام الشرعية تبنى على الغالب من أحوال الناس وليس الشواذ.
وتجدر الإشارة إلى أن من الأرامل والمطلقات – وأعدادهن كما أسلفنا يقدر بعشرات الملايين – من يبحثن فقط عن عائل يقوم بدور الأب الحنون لأطفالهن ، حتى ولو لم يمارس أي دور كزوج ..
والواقع الملموس خير شاهد على ذلك .
***
وأما ما نشاهده على أرض الواقع من أخطاء يرتكبها بعض معدّدي الزوجات فهو ليس من الإسلام ، بل هو مخالفة واضحة لأحكامه. وعلاج هذه الأخطاء لا يكون بإلغاء مبدأ التعدد ذاته ، وإنما يكون بمزيد من التوعية وإرشاد الناس إلى التزام العدل والتقوى في كل شئ في الحياة .. ثم إن هذه الأخطاء لا يجوز أن تحتسب على الإسلام ، لأنها تمثل انحرافا عنه وخروجا عليه .والاستثناء يؤكد القاعدة العامة ولا ينفيها.
والحقيقة أن ما يفعله بعض العوام من ظلم النساء وتفرقة بين الأبناء هو نتاج غياب المفاهيم الإسلامية الصحيحة عن الساحة .. كما أن وسائل الإعلام تزيد الطين بلّة بما تنشره من انحلال وقيم أبعد ما تكون عن الإسلام العظيم .
***
شاب يسأل بانفعال شديد : عن أي تعدد تتحدثون ونحن لا نجد عملا أو شقة متواضعة أو مهرا ندفعه لواحدة فقط ؟! الشاب منا يمكث عشر سنوات في المتوسط حتى يستطيع التقدم لخطبة واحدة بالكاد .. فكيف تطالبونه بالبحث عن أخرى ؟!
والجواب على هذا أبسط مما يظن صاحبنا الذي نلتمس له بعض العذر نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها الشباب في العالم الإسلامي ذي المحن والمتاعب الاقتصادية ، ونسأل الله أن يرفعها عنا بحوله وقوته.
إن حديث التعدد يوجّه بداهة إلى القادرين عليه ، وليس الشباب من الناشئين محدودي الدخل الذين نسأل الله أن يعينهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون .. فشرط القدرة ضروري لأي راغب في الزواج ، سواء بواحدة أو أكثر .
ونطالب أولياء الأمور بعدم المغالاة في المهور ، فإن تيسير الزواج واجب ، سدّا لأبواب الحرام وصيانة لأبناء وبنات المسلمين من الفواحش. والسنّة المؤكّدة هي قبول أي مهر يدفعه الخاطب – على قدر استطاعته- مهما كان قليلا. ويكفى هنا أن نشير- على سبيل المثال وليس الحصر - إلى ما تواتر ذكره في كل كتب السيرة من أن مهر السيدة فاطمة البتول بنت سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم كان مجرد (درع) ذكر علىّ رضي الله عنه أنها لم تكن تساوى أكثر من أربعة دراهم ، وكان أبوها هو الذي أعطاه تلك الدرع من قبل !! وكذلك زوّج النبي عليه السلام رجلا إحدى الصحابيات الجليلات بلا أي مال دفعه ، وإنما كان مهرها هو قيامه بتعليمها بعض سور القراّن الكريم .
و نذكّر الجميع بقوله تعالى
وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( سورة النور الآية 32.
و كان سيدنا عمر رضي الله عنه يذكر هذه الآية ويقول : عجبت لمن لا يلتمس الغنى في النكاح !
وهو الواقع الملموس أيضا ، في كل زمان ومكان ، فما من فقير تزوّج - بواحدة أو أكثر - إلا أغناه الله من فضله.
ومن أغرب ما قيل للطعن على نظام تعدد الزوجات أنه ضد مصلحة الأمة ! لأنه يهدّد الأسرة ويزيد من عدد الأطفال ، في حين أن الدولة تعمل الآن على الحد من عدد السكان ، أو تنظيم النسل لتفادى الانفجار !!
والحقيقة أن هؤلاء يقلبون الآية ويعكسون المنطق تماما ..
فالذي يهدد كيان الأسرة والمجتمعات هو حظر التعدد ، على ضوء الأرقام التي تؤكد أن عدد العوانس يبلغ أضعاف عدد الزوجات . فإذا لم نسمح بالتعدد الشرعي ، فسوف يفشو الانحراف والشذوذ والأمراض النفسية والانتحار والدعارة واتخاذ العشيقات على غرار المجتمعات الأوروبية المنحلة ..
وأما زيادة عدد الأطفال بسبب التعدد فالواقع أن كل نسمة كتب الله لها أن تولد لن يمنعها بشر ولا جان من
المجئ إلى الدنيا . كل ما في الأمر أن الطفل الذي نحاول منع إنجابه - من أمه الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة - سوف يولد ( هذا الطفل ) سفاحا ، ويتخذ طريقه إلى الملجأ أو الشارع ، ليصير بعد بضع عشرة سنة مجرما محترفا يهدد الأمن الاجتماعي في الصميم . فهل يرى خصوم التعدد أن هذه النتيجة أفضل من سابقتها ثمرة التعدد ؟!!
وعلى سبيل المثال ذكرت إحصائية رسمية أمريكية : أنه يولد سنويا في مدينة نيويورك طفل غير شرعي من كل ستة أطفال .ولا شك أن العدد على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا يبلغ الآن عشرات الملايين من مواليد السفاح كل عام .وأخيرا : فإن الكثرة البشرية إذا نجحنا في تربيتها وتهذيبها وصقلها ستكون قوة منتجة نافعة على غرار الصين واليابان وباقي النمور الآسيوية .
• ولماذا لا يتعدد الأزواج للمرأة الواحدة كما تتعدد زوجات الرجل الواحد ؟1 سؤال بالغ الطرافة والسذاجة في آن واحد .. وهو ينطوي على تجاهل لطبائع الأشياء وما أودع الله في كيان المرأة وتكوينها الجسدي والنفسي من اختلافات جذرية عن الرجل .
• ونشير هنا إلى ما هو معروف في تكوين كل الكائنات من ذرات .وهذه الذرة – الوحدة الأساسية - تتكون من مركز " موجب " تدور حوله الكترونات عديدة " سالبة" وليس العكس !! فلا يوجد مخلوق واحد تجد فيه نواة "سالبة" للخلية تدور حولها الكترونات "موجبة" ، وتلك حقيقة علمية لا يمكن إنكارها.
وقد رفض علماء النصارى تعدد الأزواج للمرأة الواحدة ، وعلل القديس أوغسطين ذلك بأنه " لا يكون للمرأة سيدان" ".
. وهناك أسباب كثيرة أخرى تحول دون اقتران المرأة بأكثر من رجل . إذ يستحيل تحديد هوية الجنين ونسبه إذا كانت المرأة تضاجع عدة رجال في فترة زمنية واحدة .ولا يقولن أحد أن العلم الحديث يمكنه الآن تحديد الأب عن طريق الجينات الوراثية وغيرها ،لأنه سيظل هناك دائما احتمال للخطأ ولو بنسبة قليلة ، وبالتالي يظل الشك في النسب قائما ، و الأحكام تبنى على اليقين وليس الشك أو الاحتمال. ويمكن تخيل حجم الفوضى الشاملة التي تصيب الأنساب والعلاقات الاجتماعية والقانونية في مثل هذه الحالة الشاذة . وعلى سبيل المثال ممن يرث هذا المولود ؟ وممن يتزوّج وهو لا يعرف له أبا ولا عائلة ؟! ومن يتولى رعايته والإنفاق عليه من بين كل هؤلاء الذين تضاجعهم أمه ؟!! وما الحل لو رفضوا جميعا تبنّيه أو الإنفاق عليه لأن كل منهم ليس متأكدا من أنه ابنه هو ؟!!
وكذلك كشف العلم الحديث أنواعا عديدة وخطيرة من الأمراض الفتّاكة التي تصيب النساء نتيجة تعدد مصادر المنى داخل الرحم الواحد ، ومنها سرطان الرحم وسرطان المهبل والإيدز – والعياذ بالله .
إنه نظام خالد وضعه الله الخالق المدبّر للكون ، ويستحيل الخروج عليه أو مخالفته بغير اضطراب في الحياة وخراب وكوارث لا قبل للبشر بها .ماء واحد فقط للرحم الواحد ، والقول بغير ذلك يعنى الخلل والمرض والهلاك المحقق .
ثم كيف يدخل عدد من الرجال مخدعا واحدا في وقت واحد ؟! والله إن الحيوانات في الغابات لتتعفّف – بفطرتها - عن هذا ، فما بالنا بالإنسان الذي كرّمه الله على سائر خلقه ؟!! وكيف تتصرّف هذه الزوجة إذا أرادها كل أزواجها للجماع في ذات اللحظة ؟!!
* وليس صحيحًا ما زعمه البعض من أن الأصل في الكون هو وحدة الزوجة لأن آدم - عليه السلام - لم يتزوج سوى حواء. ونرد عليهم بأن الأصل - بهذا المنطق غير الدقيق - ليس الزواج بواحدة بل العزوبة .
لأن آدم - عليه السلام - خلقه الله أولاً , وظل فترة من الزمن وحيدًا.. فهل نقول بناء على ذلك أن الأصل هو عدم الزواج؟!!
و يقولون :إن كل رجل يتزوّج بواحدة أولا وقد لا يتزوج غيرها طوال حياته . ونرد عليهم بأن هذا الرجل كان وحيدا سنوات من عمره قبل زواجه من الأولى ، فهل يكون الأصل هو الوحدة وحرمان كلا الجنسين من الأخر ؟!!
وقد أباح الله لآدم أن يزوّج أولاده من بناته, فكان ابن آدم يتزوّج أخته التي ولدت في بطن آخر وليست معه في ذات البطن... فهل نقول أيضًا - استنادًا إلى ذلك - أن الأصل هو إباحة زواج الأخ من أخته الشقيقة ، أم أن هذه كانت حالة ضرورة فقط لعدم وجود بشر غيرهم , ثم حَرَّم الله - تعالى - زواج الأخت بعد أن تكاثر البشر؟!
بل إن الاستدلال هنا يكون لمصلحة أنصار التعدد وليس خصومه . لأن هذا يؤكّد أن تعدد الزوجات جاء في سياق التطور الطبيعي للبشرية ، وكلما تقدّمت الحضارة الإنسانية وازدهرت وتكاثر البشر سوف تزداد الحاجة إلى التعدد ويتسع نطاق تطبيقه بمرور الزمن .
وأخيرًا فإن الأصل عندنا هو ما كانت عليه الأغلبية الساحقة من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وهو تعدد الزوجات. ومَن لا يعجبه أسلوب حياة سادة البشر فلا فائدة من الكلام أو الحوار معه أصلاً !! أم يظن أولئك أن الرسل - وهم خير خلق الله - قد فعلوا خلاف الأصل أو خلاف الأولى ؟!!!
حديث السيدة فاطمة بنت الرسول
معظم المعارضين لتعدد الزوجات يحاولون استغلال واقعة رفض النبي ( ) السماح لعلىّ بن أبى طالب – كرم الله وجهه – زوج ابنته السيدة فاطمة رضي الله عنها – بالزواج من ابنة أبى جهل عمرو بن هشام .. وهؤلاء يزعمون أن الرسول ( ) عندما رفض أن يتزوج علــىّ ضرّة للسيدة فاطمة فإنه بذلك قد عطّل قاعدة التعدد ، أو على الأقل أقرّ بالضرر والأذى الذي يسببه التعدد للزوجة الأولى .
والرد على هؤلاء يقتضى أن نورد هذا الحديث كاملا ليتبيّن لنا علل وأسباب الرفض .. ففي الحديث الذي رواه الستة (10) عن على بن الحسين عن المسور بن مخرمة – رضي الله عنه - : أن علىّ بن أبى طالب خطب بنت أبى جهل على فاطمة .. فسمعت رسول الله ( ) وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ، وأنا يومئذ محتلم فقال ( ) : (( إن فاطمة منى وإني أتخوّف أن تفتن في دينها )) . قال: ثم ذكر صهرا له من بنى عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن ، قال عليه السلام عنه : (( حدّثني فصدقني ووعدني فأوفى لي – يقصد أبا العاص بن الربيع – وإني لست أحرّم حلالا ، ولا أحلّ حراما ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله ( ) وبنت عدو الله
مكانا واحدا أبدا )) .
وفى رواية أخرى : (( إن بنى هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علىّ بن أبى طالب ، فلا إذن لهم ، ثم لا إذن لهم ، ثم لا إذن لهم ، إلا أن يحب ابن أبى طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة منى ، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) صدق صلى الله عليه وسلم . والآن نستعرض ما جاء بكتاب ( صحيح مسلم بشرح النووي) تفسيرا لهذا الحديث : ( قال العلماء : في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي ( ) بكل حال وعلى أي وجه حتى وإن تولّد هذا الأذى عن أمر كان أصله مباحا وهو حي .. وقد أعلم ( ) بإباحة نكاح بنت أبى جهل لعلىّ بقوله () : (( لست أحرّم حلالا )) ولكنه نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوص عليهما ، إحداهما أن ذلك يؤدى إلى أذى فاطمة ، فيتأذى حينئذ النبي ( ) فيهلك من آذاه ، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علــىّ وفاطمة- بل وعلى المرأة الأخرى أيضا - .. والعلة الثانية خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة .. وقيل : ليس المراد بالحديث النهى عن الجمع بينهما ، بل إن معناه أن الرسول ( ) علم من فضل الله أنهما لن تجتمعا ( أي مجرد إخبار بالمستقبل ) .
وقال آخرون : ويحتمل أن المراد تحريم جمعهما ، فيكون من جملة محرّمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله ( ) وبنت عدو الله أبى جهل ، ويكون معنى (( لست أحرّم حلالا )) أي لا أقول شيئا يخالف حكم الله ، فإذا أحلّ شيئا لم أحرّمه ، وإذا حرّمه لم أحلّه ولم أسكت عن تحريمه، لأن السكوت تحليل له ) . انتهى ما قاله العلماء شرحا للحديث الشريف (11) .
وإذا كان لنا أن نضيف شيئا فإننا نرجّح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشترط على أزواج بناته عدم الزواج عليهن ، بدليل قوله عن أبى العاص:"وعدني فأوفى لي" .
فإذا اشترطت المرأة أو وليّها في عقد الزواج ألا يتزوّج عليها ، فإن على الزوج احترام الشرط وعدم الاقتران بأخرى إلا برضا الزوجة الأولى وتنازلها عن الشرط .. ففي الحديث الشريف : (( إن أحق الشروط أن توفّوا ما استحللتم به الفروج )) رواه البخاري ومسلم .. ومعنى الحديث الواضح أن الشروط المدرجة في عقد الزواج هي أولى الشروط بالاحترام والالتزام بها .
وعلى ضوء هذا يتبيّن لنا أن مدحه عليه السلام لأبى العاص بن الربيع زوج ابنته زينب سببه هنا أنه التزم بما وعد به النبي من عدم الزواج عليها . ويؤيد هذا ما نلاحظه من أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يتزوّج على رقية بنت النبي حتى ماتت ، وتزوّج بعدها أختها أم كلثوم ولم يتزوّج عليها أيضا حتى ماتت بدورها . وذلك يقطع بأن بنات النبي لهن حكم استثنائي خاص لا ينطبق على غيرهن.
ثم أن الرسول ( ) قد أكد – بوضوح تام - أحد أسباب اعتراضه على زواج على بن أبى طالب من الأخرى ، وهو أنها ابنة عدو الله أبى جهل الطاغية الذي حارب الإسلام والمسلمين بكل شراسة ووحشية حتى الرمق الأخير من حياته الآثمة الشقية .. ومن الطبيعي ألا تتساوى ابنة عدو الله بابنة حبيب الله ورحمته للعالمين .
كما أنه لا يمكن قبول أن تكون ابنة خاتم المرسلين ( وهى قطعة منه ) في موضع تنافس دنيوي على قلب الزوج مع أخرى ، وما يترتب على ذلك من غيرة كل منهما من الأخرى ، والمشاحنات التي لا يكاد يخلو منها بيت .. فرسول الله ( ) وابنته أرفع وأسمى من ذلك الصراع الدنيوي الذي نشهده بين النساء في كل مجتمع وفى كل زمان ومكان للفوز بقلوب الأزواج .وكذلك يخشى أن يقع بين فاطمة وضرتها ما يحدث عادة من بعض المشاحنات النسائية ، فتسبّ فاطمة أبا الضرة فترد الأخرى بسبّ والد فاطمة– النبي عليه السلام - فتهلك، لأن من يسب النبي يكفر بالإجماع ، و من رحمة الله بمثل تلك الضرّة إذن أن يمنع إتمام تلك الزيجة ، والرجال - غير علىّ رضي الله عنه- كثيرون ، وسوف تجد بسهولة صحابيا جليلا آخر يتزوجها .
كما أن ابنة محمد ( ) هي قدوة نساء العالمين ، ولابد من حمايتها من منافسة أخرى لها ، حتى تتفرغ مع أبيها للدعوة النبيلة إلى السلام والإسلام ..
أيضا نقول : هناك أحكام استثنائية خاصة بالأنبياء والمرسلين ، وأولادهم وبناتهم قطع منهم ، ولا بد من مراعاة هذه الأحكام ، لأنها من صلب الإسلام والعقيدة .و مثال تلك الأحكام : اختصاصه عليه السلام بالزواج من أكثر من أربع ، وتحريم الزواج بنسائه بعد وفاته.
ونحن نرى أن السيدة فاطمة تعتبر أختا لكل المسلمين ، لأن أمها السيدة خديجة رضي الله عنها هي" أم المؤمنين"- طبقا لنص القرآن الكريم - و هو عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فهو بمنزلة الأب لكل مسلم ومسلمة ،وعلى هذا الأساس تعتبر ابنته فاطمة أختا لكل المسلمات، ولا يجوز الجمع بينها وبين أي أخت لها كزوجتين لعلى – كرم الله وجهه – أو غيره .
و لأن حالة السيدة فاطمة استثناء له حكم خاص- مثل حكم أمهات المؤمنين- فإنه لا يجوز القياس عليها ولا امتداد حكمها إلى حالات أخرى غير مذكورة بالنصوص .
وأخيرا فليس من المنطقي أبدا أن يقرّر الله تعالى حكما بنص قرآني – كإباحة التعدد – ثم يخالفه الرسول ( ) أو يهدره بنفسه في التطبيق العملي .. والقول بذلك هدم لصلب الدين وتشكيك إجرامي في أفعال النبي صلى الله عليه وعلى اّله وصحبه وسلم.