في عام 1950م ظهر أول كتاب لي، وكان عنوانه: (من هنا نبدأ). وكان ينتظم أربعة فصول، كان ثالثها بعنوان: (قومية الحكم).
وفي هذا الفصل ذهبت أقرِّر أن الإسلام دين لا دولة، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة ... وأن الدِّين علامات تضيئ لنا الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم في الناس، وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل. ما على الدِّين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهُدى وحسن ثواب.
وقلتُ: إن الدِّين حين يتحول إلى (حكومة)، فإن هذه الحكومة الدِّينية تتحول إلى عبء لا يطاق. وذهبت أعدد يومئذ ما أسميته: (غرائز الحكومة الدِّينية) وزعمت لنفسي القدرة على إقامة البراهين على أنها -أعني- الحكومة الدِّينية في تسع وتسعين في المائة من حالاتها جحيم وفوضى، وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفذت أغراضها ولم يعد لها في التاريخ الحديث دور تؤديه.
وكان خطئي أنني عممت الحديث حتى شمل الحكومة الإسلامية.
وهكذا ذهبت أنعت وأهدم ما أسميته يومها بالحكومة الدِّينية! ولم أكن يومئذ أخدع نفسي ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك والحمد لله من طبيعتي. إنما كنت مقتنعا بما أكتب مؤمنا بصوابه.
وحين أرجع بذاكرتي إلى الأيام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات لا أخطئ التعرف إلى العوامل التي تغشتني بهذا التفكير ... والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيدا عن ظلام التعصب وغواشي العناد، فإنه يستطيع دائما أو غالبا أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد، وحبور أكيد، ونحن مطالبون بأن نفكر دائما، ونراجع أفكارنا، وننكر ذواتنا ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة ...
وأود -أولا- أن أشير إلى أن تسمية (الحكومة الإسلامية) بالحكومة الدِّينية فيه تجنّ وخطأ. فعبارة (الحكومة الدِّينية) لها مدلول تاريخي يتمثل في كيان كهنوتي قام فعلا، وطال مكثه. وكان الدِّين المسيحي يستغل أبشع استغلال في دعمه وفي إخضاع الناس له.
فالحكومة الدِّينية مؤسسة تاريخية نهضت على سلطان ديني بينما كانت أغراضها سياسية، وأَصلَت الناس سعيرا بسوء تصرفاتها وتحكمها ... وهي في المسيحية واضحة كل الوضوح، بينما الإسلام لم يشهد في فترات استغلاله ما شهدته وما تكبدته المسيحية، ولا سيما في العصور الوسطى، عصور الظلام!!
ولعل أول خطأ تغشَّى منهجي الذي عالجت به قديما قضية الحكومة الدِّينية، كان تأثري الشديد بما قرأته عن الحكومات الدِّينية التي قامت في أوربا، والتي اتخذت من الدِّين المسيحي دثارا تغطي به عريها وعارها ...
إلى هذا السبب الجوهري أرد خطئي فيما أصدرته -قديما- من حكم ضد الحكومة في الإسلام، هذه التي أسميتها بالحكومة الدِّينية) [28].
________________________________________
[1]- يقول الإمام القرافي في الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة: (اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته ...) إلخ. الفروق: 1/205، 206 طبعة دار المعرفة بيروت.
[2]- انظر: العقد الفريد (5/368)، والخبر في الطبري (5/203)، وتاريخ بغداد (10/189)، وتاريخ دمشق (36/374)، والبداية والنهاية (10/276)، وغيرها.
[3]- رواه البخاري في العلم (59) عن أبي هريرة، وأحمد في المسند (8729).
[4]- رواه مسلم في الإمارة (1851) عن ابن عمر، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/156).
[5]- انظر: عنوان (تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء) من هذا الكتاب.
[6]- انظر: (الإحكام) للقرافي صـ86 - 106، و(الفروق) له أيضا جـ1 صـ 205 - 209، وانظر: كتابنا (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) صـ116 وما بعدها طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.
[7]- إن بديل الهجرة إلى الدولة المسلمة اليوم هو: الانضمام إلى الجماعة المسلمة التي تعمل لإقامة دولة الإسلام، فهو فريضة على كل مسلم بحسب وسعه، إذ العمل الفردي لا يُمكِّنه من تحقيق هذا الهدف الكبير.
[8]- رواه الطبراني في الكبير (20/90) عن معاذ، وفي الصغير (2/42)، وفي مسند الشاميين (1/379)، وأبو نعيم في الحلية (5/165)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان، وغيره، وبقية رجاله ثقات (5/428).
[9]- انظر: الدين والدولة صـ60 – 63.
[10]- إشارة إلى حديث: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وقد رواه البخاري في الأذان (723) عن أنس، ومسلم في الصلاة (433)، وأحمد في المسند (12813)، وأبو داود في الصلاة (668)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (993).
[11]- إشارة إلى حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ..."، وقد رواه أحمد في المسند (17138) عن أبي مسعود الأنصاري، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والترمذي في أبواب الصلاة (235)، والنسائي في الإمامة (780)، والطبراني في الكبير (17/218)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8011).
[12]- رواه الطبراني في الكبير (9/185) عن ابن مسعود موقوفا، وابن الجعد في المسند (1/78)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5/449)، وحسن العراقي إسناده في تخريج أحاديث الإحياء (2/217).
[13]- رواه أبو داود في الجهاد (2608) عن أبي سعيد الخدري، والطبراني في الأوسط (8/99)، والبيهقي في الكبرى كتاب الحج (5/257)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2272).
[14]- رواه أحمد في المسند (6647) عن عبد الله بن عمرو، وقال مخرجوه: صحيح لغيره إلا حديث الإمارة فحسن، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (4/145).
[15]- رواه البيهقي في الشعب (6/18) عن أنس، وفي الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/162)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3349).
[16]- السياسة الشرعية، ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ28 صـ390، 391.
[17]- البداية والنهاية (2/10).
[18]- مجموع الفتاوى (28/264).
[19]- إحياء علوم الدين (1/71) كتاب العلم، وقد روى مسكويه في كتابه (تهذيب الأخلاق) هذه العبارة عن أزدشير ملك الفرس. ويبدو أن الغزالي اقتبسها وضمنها كلامه، ولم ينسبها.
[20]- مقدمة ابن خلدون جـ2 صـ518 طبعة لجنة البيان العربي بتحقيق د. علي عبد الواحد وافي.
[21]- تاريخ الطبري (2/401).
[22]- انظر: شمول الإسلام صـ55 - 63.
[23]- في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم).
[24]- في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم).
[25]- في كتابه (الإسلام والخلافة في العصر الحديث) طبعة الدر السعودية للنشر. جدة.
[26]- في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي).
[27]- في كتابه (معركة الإسلام وأصول الحكم) طبعة دار الشروق. القاهرة.
الفصل الثاني
من حق الإسلاميين أن يكون لهم حزب سياسي
ومما يتصل بقضية الدِّين والسياسة: ما انتهجته بعض الأنظمة الحاكمة وحرض عليه العلمانيون، أو رحبوا به، من حرمان الاتجاهات الإسلامية من تأسيس حزب سياسي، وتحريم ذلك عليهم تحريما مطلقا، متذرعين بحجج ليست في الواقع إلا شبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت.
1. قالوا -أولا- إن الدِّين أطهر وأنقى وأعلى من أن يتدنس بالسياسة، لهذا لا يجوز إنشاء حزب سياسي على أساس الدِّين.
2. وقالوا -ثانيا- إن هذا الحزب لو سمح له أن ينشأ، سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، وباسم السماء، فلا يجوز لأحد أن ينقده أو يعارضه، وإلا كان كافرا أو فاسقا.
3. وقالوا -ثالثا- إننا لو سمحنا للإسلاميين بتكوين حزب إسلامي، لا بد في بلد كمصر: أن تسمح للأقباط بتكوين حزب مسيحي. وهذا سيكون مدعاة لإثارة الفتن الطائفية، التي لا تؤمن عواقبها.
4. وقالو -رابعا- إن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية، في حين لا يستخدمها غيره.
وهذه كلها مردود عليها، ولا تثبت على محكِّ النقد.
1. فاعتقاد أن السياسة دنس ورجس من عمل الشيطان: اعتقاد لا أساس له من الدِّين ولا من العلم.
وإذا كانت السياسة عمل العقل في تدبير شؤون الخَلق بما يصلحهم ويرقى بهم في ضوء الشريعة، أو كما عرفها بعضهم: كل عمل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فليست في ذاتها دنسا ولا رذيلة ولا حراما ولا رجسا، إنما الدنس في نفوس الذين يستغلون السياسة للإثراء الحرام، والإفساد في الأرض، والطغيان على عباد الله.
وكم رأينا من الساسة والقادة من أقام العدل، وأيد الحق، ودعا إلى الخير، وأحيا الله به البلاد، وأصلح به العباد.
2. ودعوى أن الحزب الإسلامي سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، ويتكلم باسم السماء: دعوى غير صحيحة ولا صادقة. والحزب الإسلامي لا يرخص له بتكوين حزبه إلا بعد أن يقدم برنامجه، ويحدد فيه رؤيته ورسالته، ويبين أهدافه ووسائله، ومناهجه في إصلاح المجتمع من نواحيه المختلفة (اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية وأخلاقية ... إلخ) فإذا كان في هذا البرنامج دعوى الحكم بالحق الإلهي: رفض طلبه. وإن كان شأنه شأن غيره من الأحزاب يعمل في ظل الدستور، ويستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية السمحة، مقرونة بالاجتهاد والتجديد، المرتبط بفقه المقاصد والموازنات والأولويات، فليس من حقنا أن نُقوِّله ما لم يقل، ونرميه بتهمة ليس عليها دليل ولا برهان.
إن علي بن أبي طالب سمح لجماعة الخوارج المعارضين لحكمه: أن يكون لهم وجودهم الحزبي والسياسي، مع أفكارهم المعارضة، بشرط أن لا يبدأوا المسلمين بقتال.
3. ودعوى أن إعطاء الإسلاميين حق تكوين حزب: يفتح الباب لمطالبة الأقباط بحزب لهم: دعوى مرفوضة أيضا، فما المانع أن يكون للأقباط حزب سياسي يعمل في وضح النهار، بدل أن يتهمهم من يتهمهم بأنهم يعملون بالسياسة من خلال الكنيسة، بدون حزب مرخص.
4. وادعاء أن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية: ليس مُسلما، فالمسجد ليس للإسلاميين وحدهم، إنما هو مسجد المسلمين جميعا. ويجب أن يتجنب المسجد الدعاية للأشخاص، والمهاترات الحزبية والشخصية.
لكن لا نستطيع أن نمنع المساجد وخطباءه أن يؤيد من يتبنى الشريعة الإسلامية، وأن يرفضوا من رفضها، دون تحديد ولا تعيين. فهذا من باب النصيحة في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة.
وأخشى أن يزيد العلمانيون في دعاواهم لحرمان الإسلاميين من حزب سياسي: أنهم يستدلون بآيات القرآن وأحاديث الرسول، التي تؤثر في جماهير الشعب، على حين لا يستطيع خصومهم أن يفعلوا ذلك.
هذا، مع أن القرآن قرآن الجميع، والرسول رسول الجميع، ولا يقدر أحد أن يمنع أي مسلم من استعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تأييد وجهته، ما دام يضعها في موضعها الصحيح.
على أن هذه الدعاوى قد سقطت من الناحية العملية، فهناك عدد من البلاد فيها أحزاب إسلامية: في الأردن، وفي المغرب، وفي اليمن، وفي فلسطين، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي إندونسيا، وفي غيرها، وقد خاضت معارك الانتخابات، وحصلت على نسبة كبيرة من المقاعد، ولم يشتك الشاكون من وقوع هذه الاتهامات التي ألصقوها جزافا بالحزب السياسي الإسلامي.
إضاءات ضرورية:
وأود أن أذكر بعض الإضاءات في هذه القضية:
الأولى: أنه لا يجوز أن يحرم بعض المواطنين من حقهم في المشاركة السياسية في بناء وطنهم وإصلاحه وتطويره، لمجرد أنهم متدينون، أو لأن لهم رؤية في الإصلاح والتغيير منبثقة عن دينهم وتراثهم.
وقد أعطينا الحق للتيارات المختلفة لإنشاء أحزاب سياسية: العلمانيين والليبراليين والقوميين والشيوعيين وغيرهم، فلماذا يحرم الإسلاميون من هذا الحق دون غيرهم؟
إن هذا يخالف الدستور الذي قرَّر المساواة بين جميع المواطنين، وهذه تفرقة لا مبرِّر لها.
وهو أيضا مخالف للمواثيق الدولية، وميثاق حقوق الإنسان، وغيرها.
الثانية: أنهم يقولون: لا يجوز تكوين أحزاب دينية، والإسلاميون لا يريدون إنشاء حزب ديني، بل حزب إسلامي. وفرق بين الدِّيني والإسلامي. فالدِّين في عرف الناس يعني الجانب العقدي والتعبدي والروحي، أما الإسلامي فهو أشمل وأجمع، وهو يضم الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والإدارة ... إلخ.
ولا مانع لدى الإسلاميين أن يدخل في هذا الحزب أشخاص من غير المسلمين، لأن برنامجهم للجميع لا للمسلمين وحدهم.
الثالثة: أن الأحزاب السياسية تمثل قوى شعبية سياسية موجودة على أرض الواقع، من حقها أن يكون لها رأي في سياسة بلدها.
والإسلاميون قوة سياسية موجودة وبارزة، وظاهرة التأثير، ومسموعة الكلمة.
وقد أثبتت الانتخابات في أكثر من بلد: أنها القوة الأولى المؤيَّدة من جماهير الشعوب في منطقتنا.
فكيف يمكن تجاهلها، وإهالة التراب عليها حية، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8،9]، في حين يعطى حق الشرعية لأحزاب لا يكاد يسمع لها صوت، أو يحس لها بأثر؟!
الفصل الثالث
دولة الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام
ومما يلزم مما اتفق عليه العلمانيون من حرمان الإسلام من حق إقامة دولة: ما نفَّقوه من مزاعم حول طبيعة هذه الدولة المرجوة، فقد تقولوا عليها الأقاويل، وصوروها تصويرا مليئا بالأخيلة والتهاويل.
قالوا إنها دولة (دينية) ويعنون بالدِّينية: أنها دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله، ويدعون أن (حاكمية الله) التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر: توجب أن تكون هذه الدولة دينية. كدولة الكنيسة الأوربية فيما سمي: (العصور الوسطى).
وهذه الدولة في رأيهم، إنما يملك زمامها (رجال الدِّين) الذين ليس لأحد غيرهم أن يفسر الدِّين أو يصدر الأحكام، وهم يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة.
وهذه كلها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان.
فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
ومعنى (مدنية الدولة): أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه.
إن الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: إني وليت عليكم ولست بخيركم [1]. وكما قال عمر بن عبد العزيز: إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا [2].
هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].
وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقومه إذا اعوج، وتعزله إذا أصر على عوجه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" [3]، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النساء للنبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قيد ذلك بقوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]. هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي، فغيره أولى أن تكون طاعته مقيدة.
ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ الإسلام، أضفى على نفسه، أو أضفى عليه المسلمون: نوعا من القداسة، بحيث لا ينقد ولا يُقَوَّم، ولا يؤمر ولا ينهى.
بل تراهم جرَّأوا الناس على أن ينصحوهم ويقوّموهم، كما قال أبو بكر في أول خطبة له: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم [4].
وكان عمر يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر. مرحبا بالناصح غدوا وعشيا [5]. وقال قولته المعروفة: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني [6].
أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها، وهؤلاء أفرادها- دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر غير معصومين، تقيدهم شريعة الله، وتراقبهم الأمة، وتحاسبهم، وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية [7]. وقد نظم ذلك أبو العلاء بقوله:
مُلَّ المقامُ فكم أعاشرُ أمـــةً.. أمرَتْ بغير صلاحِها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها.. وعدَوْا مصالحها وهمُ أُجَراؤها
وقولنا: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، قاله من قبلنا الإمام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في كتابه الأصيل المعروف: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). قال الأستاذ الإمام:
(إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدِّينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الأفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة -بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدِّينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَلِّ أصول الإسلام؟!) [8].
لكن نفي (الوصف الدِّيني) -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي بواسطة طبقة بعينها- لا يعني نفي (الوصف الإسلامي) عنها. فهي دولة (مدنية) مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
وذلك (لأن الإسلام -كما يقول الأستاذ الإمام: دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا ... ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة ... والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله ... فكان الإسلام: كمالا للشخص ... وألفة في البيت ... ونظاما للمُلك) [9].
يتبع >
__________________