ويبني رأيه هذا على ان الذين ينتخبونه انما هم اقلية ضمن المنتخبين لان بعض المنتخبين مرشحين انفسهم مثله وبالتالي يكون الناجحون من النواب قد حصلوا على اصوات اقلية الشعب وليس على اصوات اكثريته وبذلك يكونون مفوضين من هذه الاقلية ممثلين لها وليسوا مفوضين من الاكثرية الشعبية ولا ممثلين لها ، وهكذا يستنتج (ولهذا فان القول ان البرلمانات في البلاد الديمقراطية تمثل راي الاكثرية هو كذب وتضليل وان القول ان الحكام انما يختارون من اكثرية الشعب وانهم يستمدون سلطتهم من الشعب هو كذب وتضليل كذلك والتشريعات التي تسن في تلك البرلمانات والقرارات التي تصدرها تلك الدول تكون آخذة بعين الاعتبار مصالح هؤلاء الرأسماليين اكثر من اخذها مصالح الشعب او اكثريته بالاعتبارص16).
اما بالنسبة للشورى فيقول عنها انها غير الديمقراطية فالشورى هي اعطاء الرأي أما الديمقراطية فهي وجهة نظر في الحياة وهي تشريع للدساتير والانظمة والقوانين يضعه البشر من عقولهم ويشرعونه بناء على المصلحة التي تراها عقولهم لا بناء على وحي السماء لذلك يحرم على المسلمين اخذها او الدعوة اليها او اقامة احزاب على اساسها او اتخاذها وجهة نظر في الحياة او تطبيقها او جعلها اساسا للدستور والقوانين او مصدرا من مصادر الدستور والقوانين او جعلها اساسا للتعليم او لغاياته ويجب على المسلمين ان ينبذوها نبذا كليا فهي رجس وهي حكم طاغوت وهي كفر وافكار كفر وانظمة كفر وقوانين كفر ولاتمت الى الاسلام بأي صلة ص62)
وفي كتيب آخر لحركة اسلامية اخرى بعنوان (الشورى في الاسلام ومناقضتها للديمقراطية نجد التأكيد على رفض الديمقراطية والاشتراكية ويعتبر ان الديمقراطية كلها كفر في كفر بناء على ان اساس النظام الديمقراطي هو من وضع البشر في حين ان النظام الاسلامي من الوحي الالهي والنظام الديمقراطي ملكي او جمهوري في حين النظام الاسلامي هو الخلافة التي لا يجوز التحول عنها والديمقراطية تقوم على سيادة الشعب وانه مصدر السلطات الثلاث في حين في الاسلام السيادة للشرع والحاكم في الديمقراطية مدته محدودة في حين في الاسلام مدته حتى الوفاة ما دام قادرا مستقيما وفي الديمقراطية يجوز التمرد على الحاكم ورفض طاعته والعصيان عليه وفي الاسلام لا يجوز ذلك الا في حالة واحدة حينما يأمر الخليفة بالمعصية والديمقراطية تبيح تشكيل الاحزاب العلمانية والاسلام يرفض الا الاحزاب الاسلامية وفي الديمقراطية نظام للمعارضة والموالاة في الاسلام تقوم الامة بمحاسبة الحاكم وان استحق العزل فتتولى ذلك محكمة المظالم والديمقراطية ليست الشورى بل هي طريقة حكم مختلفة كليا فالشورى ليست طريقة حكم لها كليات وجزئيات ولا اصلا من اصول الحكم بل هي مجرد اخذ الرأي الذي قد يكون غير ملزم في حالات عديدة والديمقراطية تفصل الدين عن الدولة والاسلام لا يفعل ذلك، وفي الاسلام يكون الحكم للشرع حتى ولو كانوا اقلية وهناك حالة واحدة يؤخذ فيها بالاكثرية وهو معرفة الرأي في الاقدام على عمل مباح او عدم الاقدام عليه والديمقراطية تقدس الحريات بمفهومها الغربي كحرية المعتقد والرأي والملكية والحرية الشخصية اما الاسلام فلايبيح للمسلم ان يغير معتقده لانه يعتبر مرتدا اما حرية الرأي فهو مقيد بالاحكام الشرعية وليس حرا فلا يسمح بحرية الغيبة والنميمة وقذف المحصنات ومهاجمة الاسلام وبالنسبة لحرية التملك فلا يسمح الاسلام ان يتملك المسلم كما يشاء دون بذل الجهد فيه كالزراعة والتجارة واذا كانت الحرية الشخصية في الديمقراطية قد قادت الى الانفلات من كل قيد حتى الشذوذ الجنسي الا ان هذه الحرية في الاسلام مقيدة بحدود عدم ايذائها للآخرين ولا حرية الانتحار او اقتراف الزنا فكلها مقيدة شرعا
على ان هناك ملاحظة دقيقة في ممارسة الحق وممارسة الاكثرية حيث ترى هذه الحركة ان الاكثرية بالنسبة للديمقراطية قد يكون على خطأ أي ان الحكم هنا للاكثرية حتى لو كانت على باطل في حين في اصول الاسلام يكون الحكم للشرع حتى لو وقف معه الاقلية ومهما كان صغر حجم الاقلية
على ان هذا التطرف الاسلامي ليس هو دائما الغالب على الحركات الاسلامية فهناك بعض الحركات الاسلامية لها موقف مختلف من الديمقراطية مما يعطينا تنوعا كبيرا في الفهم الاسلامي الاجتهادي للديمقراطية ويقول الاستاذ ضياء الشكرجي في كتابه (الديمقراطية ..رؤية اسلامية )( اقول اذا كانت الديمقراطية المصطلح المرفوض عند البعض تعني لغة وليس بالضرورة مضمونا حكم الشعب فقد عرفنا ان الجمهورية المقبولة عند اغلب الاسلاميين تعني ايضا لغة دولة الجمهور واذا تطلبت مصلحة الدعوة ان تستنند في تشكيل الحكومة وتسيير شؤون البلاد على ارادة الشعب فهذا لا يعني حقيقة ان النظام الاسلامي الذي يدعو اليه الاسلامي هو الذي يملك عند الله وعند المؤمنين الشرعية ،وقد كلفنا الله بالدعوة الى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة ولم نكلف باكراه الناس على قبول هذه الدعوة ، الاسلامي يتخلص من الاشكال الشرعي في كونه لا يتحمل مسؤولية تبني النظام الديمقراطي من حيث المبدأ واتخاذه بديلا للنظام الاسلامي ،بل انه يقبل به بكونه يمثل ميثاقا بينه وبين الآخرين ولكونه يعتبر الديمقراطية إما أنه أهون الخيارين بينهما وبين الانظمة المستبدة او كتمهيد لإقامة الحكم الاسلامي باختيار شعبي واذا ما خلص الاسلاميون الى ضرورة تبني ذلك المشروع فلا بد ان يكون ذلك مقترنا بمنهج توعوي على حقيقة ان هذا التبني لا يعني تحويل مصدر الشرعية من الاسلام الى الديمقراطية حيث ان قبولنا بالديمقراطية كعقد مصالحة وكوسيلة تعايش وكأسلوب دعوة لا يعني تنازلنا عن حقيقة ان الشرعية بالنسبة لنا تكمن في الاسلام فكرا وقيما ونظاما وتشريعات ، هنالك فرق بين ان نقبل بالديمقراطية وان ندعو اليها بديلا عن الاسلام وهناك فرق بين ان ندعو للاسلام ونكره الناس عليه ، اننا نقبل بالديمقراطية ولاندعو اليها وذلك لا يعني اننا لا ندعو الى منهج القبول بها ونوعي عليها اذا ما شخصنا المسوغ الشرعي او حتى الوجوب ربما أي المصلحة بتعبير آخر اننا ندعو الى الديمقراطية كاسلوب عملي لا كمشروعية مضمونية هناك بين الاسلاميين من يركز على مفاسد الديمقراطية لانها تبيح الكثير من الاشياء التي يحرمها الاسلام ، بالنسبة لي تكون العلمانية الديمقراطية موضع قبول اذا ما قورنت بمفسدة العلمانية الديكتاتورية بل حتى يمكن القول اننا اذا كنا بين خياري مفسدة افراز النظام الديمقراطي للحالة العلمانية ومفسدة افراز النظام الاسلامي للحالة الاستبدادية أي بين خطر علمنة المجتمع من غير ان يتحول بالضرورة الى حالة عداء للاسلام وخطر استعداء المجتمع الاسلامي تجاه الاسلام في ظل نظام اسلامي مستبد او مفروض دون قبول جماهيري له هنا يقرر كل دعاة الاسلام العقلاء بان اختيار المفسدة الاولى اكثر فائدة للاسلام ، والحكم الاسلامي لا يمثل غاية بحد ذاته وانما وسيلة ووسيلة مهمة جدا لقضية الدعوة ورسالة التغيير ) ويضيف (ان مفاسد الديمقراطية وفق النموذج الغربي الذي لا يصلح استنساخه للمجتمع الاسلامي يمكن درؤها بالوعي الاسلامي ومن خلال ممارسة الديمقراطية نفسها فتمارس لانه حق وضع الاستثناءات بقرار ديمقراطي ؤلان من شان النظام الديمقراطي ان تحترم ارادة ومصلحة وحرية الاكثرية دون ممارسة التعسف تجاه الاقلية الديمقراطية لاتعني التغريب للمجتمع لانها ليست مفهوما مطلقا حتى عند اشد المتحمسين لها من رواد المدرسة الليبرالية الغربية وذلك من خلال وضع الحدود على بعض الحريات التي تضر بالمجتمع من خلال القرار الديمقراطي وهذا يسمح للاسلاميين بتحريكه لوضع الضوابط التي تضمن عدم تجاوز الحد الادنى من ضرورات احكام الشريعة والقيم الاخلاقية،
اذن من خلال آليات الديمقراطية نستطيع نحن الاسلاميين ان ندرأ بعض ما نجده من مفاسد يمكن ان تنشأ من الديمقراطية ، –كما يقوله الشكرجي- وحينما يسأل الشكرجي عن امكانية اعتماد الشعب كمصدر للتشريع يجيب ( بالنسبة لي فان مصدر التشريع هو الله ولا تطلب مني ان اغير فلسفتي ولكني من الناحية العملية اقبل كمعاهدة سلام وطنية ان يكون المصدر هو الشعب بعنوان ثانوي ينبغي التوافق ونبذ الاكراه ، يمكن للمجتمع ان يعصي امر الله كما يمكن للمؤمن ان يعصي امر الله ولايمكن ملاحقة واضطهاد المجتمع اذا عصى اما معصية الفرد فتلاحق عندما يترتب عليها اعتداء على المجتمع ).
اما فيما اشار اليه الكاتب سيف الدين هادي علي في بحثه المعنون ( السياسة الشرعية في جواز الديمقراطية والبرلمان في ظروف خاصة ) وكأنه يدافع عن المشاركة في اللعبة الديمقراطية في اطار حكم ديمقراطي لا يكون النظام الاسلامي دليله ومصدره ، ويبدأ الباحث موضوعه بأثبات الاساسيات الشرعية الاسلامية فيقول ( الاصل الاول للسياسة الشرعية الاسلامية في مجال العمل السياسي انه لا يجوز ان يتنازل عن شيء من الحق او ان يخلط الدين الذي انزله الله بباطل المشركين وذلك ان الدين من الله سبحانه وتعالى وهو الحكيم فيما يشرع وهذا يعني انه كله حق وانه لا يجوز اعتقاد نقصه او خطئه –ص4) ويضيف بأن(عقيدة الدين لا يجوز خلطها بغيرها وشريعة الاسلام لا يجوز كذلك خلطها بغيرها والانتقاء منها حسب الهوى والمصلحة المزعومة بل لا اسلام الا لمن اسلم قلبه وعمله ووجهه لله سبحانه و تعالى ومعنى ذلك انه لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف التنازل الاعتقادي عن شيء من الدين والرضا القلبي بان ناخذ من الاسلام ومن غيره ، وأما الرضوخ والجبر لشيء مخالف من الدين في ظرف من الظروف فهذا امر آخر كما جاء في صلح الحديبية مثلا حيث قبل الرسول صلى الله عليه وسلم برد المسلمين الى الكفار مع ما فيه من قبول اسلام المسلم لأعدائه ), وفي اطار تفسير الباحث لمعنى هذا التنازل يشير الى انه ليس تنازلا عن عقيدة او شريعة من الدين ولكنها ( قبول بموقف تفرضه الظروف وتحتمه الملابسات ومثل هذا ليس تبديلا للدين ولا تغييرا للتشريع ولا ردا لاحكام الله وانما هو موقف يقابل فيه المسلم ظروفا وضرورة ص6) ،
الا ان الباحث حينما يريد ليؤسس موقفه بالرضا باللعبة الديمقراطية وتشكيل الاحزاب والمشاركة في البرلمان الديمقراطي ينطلق من مسألة انه لاتحريم لوسيلة الا بنص او استدلال شرعي صحيح ولما كان في الدين حقائق ثابتة الا ان فيه ايضا وسائل متغيرة ويجوز الاستفادة من هذه المتغيرات ولايجوز التغيير في الثوابت الحقيقية ويضرب مثلا على الحقائق الثابتة بالقران وعلى الوسائل المتغيرة بوسائل نقله وحفظه وتعهده ودراسته فهذه وسائل متغيرة حسب العصر ووسائله ، كل ذلك ليصل الكاتب الى مسألة المصالح المرسلة والتي مفادها ( ان كل امر لم تأت الشريعة بالغائه أو بإيجابه ورأينا فيه مصلحة ما ، جاز لنا فعله بشرطين
1-الا يفوت ما هو اعظم منه مصلحة ونفعا
2-الا يؤدي الى ضرر مماثل له او اكبر منهويدخل الباحث بعد ذلك في مسألة العمل الحزبي والجمعيات الاسلامية وشرعيتها في أي نظام ديمقراطي ليقول (ان اقامة احزاب او جمعيات او تجمعات في أي نظام ديمقراطي يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات لا يعني بالضرورة اقرار المخالفين ولا الرضا بما هم عليه من الباطل وانما يعني فقط الرضا بالطريق السلمي والدعوة العلنية سبيلا ومنهجا للتغيير والتخلي عن سياسة العنف والسرية وهذا في حد ذاته محمود في الدين بل الاصل في الدعوة الى الله –ص8) ويصف النظام الديمقراطي حينما يؤكد هذه الحقيقة بقوله( وبالتالي فالنظام الذي يسمح للرأي المخالف ان يعلن ويسمح للمسلمين بأن يؤلفوا حزبا لدعوتهم او جمعية لتحقيق بعض اهداف دينهم كنشر العلم والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وانشاء الجامعات والمدارس والمعاهد والعناية باليتامى والمساكين …الخ أقول النظام الذي يسمح بذلك يجب التمسك به والحرص عليه لان بديل هذا النظام هو الحكم الاستبدادي عسكريا كان او غيره )
ويخلص الباحث الى انه (اذا كان النظام الديمقراطي الحر يسمح كذلك لاعداء الدين ومخالفي الاسلام بإظهار مخالفاتهم ومعتقداتهم وآرائهم وتغيير المجتمع بوسائلهم فان الحق دائما اقوى والمسلمون في بلاد الاسلام بوجه عام يستندون الى قاعدة عريضة من البشر وعقيدة قائمة في النفوس وواقع طيب في كثير من جوانبه ولاشك انهم اذا استطاعوا ان يستخدموا امكانياتهم بشكل طيب فانهم سيصلون الى اهدافهم في صبغ الحياة بصبغة الاسلام في وقت قليل جدا –ص9).
وعلى الرغم من انتقاد الباحث للعالم الرأسمالي بادعائه الديمقراطية لانه يخالفها اذا ما وجد ان المسلمين سيصلون الى سدة الحكم فيها كما حصل في الجزائر وغيرها ، الا ان الباحث بوافق على استغلال الهامش الديمقراطي للحرية الذي يسمح له بالعمل في نشر الدين في أي دولة وتشكيل الاحزاب والجمعيات الدينية ويقول (ان الحزب السياسي والجمعية الخيرية والتجمع والنقابة والاتحاد هذه المؤسسات التي يسمح اليها واتخاذها سبيلا وطريقا لنشر دينهم وتمكين عقيدتهم وتجميع قواهم وتدريب وتعليم عناصره ، بل يجب على المسلمين ان يسعوا الى مثل هذا التشريع الذي يسمح بذلك بل واجب من واجباتهم ان يتعاونوا على البر والتقوى وان يكونوا جمعيات وجماعات واحزاب تدعو الى الله وتنشر دينه وتعلي كلمته –ص10)
وهكذا يخلص الباحث الى استغلال المتغيرات في الوسائل التي سمح بها الدين لتحقيق الهدف الاسلامي الكبير في الدعوة الى الله ويختم بحثه بالقول (فالظروف متغيرة وبالتالي يجب ان تكون الوسائل متطورة متغيرة والمسلم الداعي عليه ان يسير في حدود المستطاع ( لا يكلف الله نفسا الا وسعها –البقرة 286ولا يجوز رفض وسيلة مستطاعة بحجة ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعملها –ص16)
ان جميع هذه الاشكاليات النظرية والفكرية لعلاقة الاسلام يالديمقراطية اخذت مجالا في الممارسة الواقعية والتطبيقات العملية سواء لاحزاب سياسية او ديمقراطية او ديمقراطية اسلامية ومن هنا فان الحكم على الاشكالية النظرية والتناقضات القائمة في اطار تفسير العلاقة بين الاسلام والديمقراطية انعكس على هذه الممارسة نفسها ولم تقف الممارسة الواقعية لترى الى أي مدى تصل العلاقة بين الاسلام والديمقراطيةعبر هذه الطروحات النظرية بل دخلت الممارسة تطبيقها الواقعي في مجتمعات متعددة ومختلفة فمرة يطبق النظام الديمقراطي في مجتمع اسلامي ومرة تطبق الممارسة الاسلامية في مجتمع ديمقراطي وقد نجد لدى المطبقين تبريرات اسلامية وديمقراطية ولكن الحكم النهائي لم يصدر بعد على نجاح او فشل أي من الممارستين المذكورتين وهذا ما يجعلنا نبحث الاشكالية الواقعية لهذا التطبيق واحتمالاته المستقبلية.
2- الاشكالية الواقعية والتطبيقية:
كلما زادت الطروحات النظرية والفكرية شمولا كلما قلت التحديدات الواقعية للممارسة المعبرة عنها الا ان هذه الشمولية الكبيرة تقود الى التجريد اكثر فاكثر مما يبعد ويزيد الفرق بين النظرية والممارسة ، ولاشك ان الطرح النظري يكون نموذجيا ومثاليا للمارسة الواقعية وبمقدار اقتراب هذه الممارسة الواقعية من المبدأ النظري المخطط له كلما تقاربت العلاقة اكثر فاكثر ، وإذا كانت النظرية مغلقة على نفسها ومحددة كل سماتها فانها من الصعوبة بمكان ان يتقبلها الواقع المتحرك المفتوح دون ان يدخل عليها التغيرات المناسبة والحيثية والمكان والزمان المطبق فيه .
ان تكيفات الواقع للوصول الى النظرية النموذجية هي مسألة طبيعية حياتية ومن هنا فلكل واقع ظروفه الخاصة في مقاربته للنظرية ونموذجيتها ، من هنا تعددت اشكال الممارسة الديمقراطية على ارض الواقع حتى امكن وصف كل ممارسة باسم معين يتعلق بجغرافية ومكان هذه الممارسة ودين شعوبها وعرقيتها وكل ظرف من ظروفها، ومن هناايضا امكن القول بشكل علمي ان لكل مجتمع سمات خاصة تتلبسها الديمقراطية فيما اذا ارادت ان تنجح في تطبيقها،لذا من غير الممكن الحديث عن ديمقراطية واحدة صالحة لكل زمان ومكان ولكل شعب ودين وقومية ..الخ .
ان هذا التنوع الديمقراطي في الممارسة الواقعية حسب المجتمعات التي تطبقها جعل مكتب البيت الابيض عام 1993 يحدد خمس مباديء فقط يجب توفرها في هذه الممارسة كي توصف بانها ديمقراطية ، وجعل الإضافات مفتوحة لأي شعب بما يناسب ظروفه الخاصة هذه المبادئ الخمسة هي :حرية ونزاهة الانتخابات ،حقوق المعارضين السياسيين في العمل بحرية كاملة ، وضع قيود على السلطات التعسفية للدولة وبخاصة أعمال القبض والاحتجاز والتعذيب ضمن أشياء أخرى،وحقوق المواطنين في التنظيم في اقليات في العمل آو حول اهتمامات أخرى ، وقضاء مستقل للرقابة على سلطة الدولة .
ان هذه المرونة الواقعية للتطبيق الديمقراطي فتح مجالا واسعا لاستحداث آليات وسلوكيات وممارسات مستجدة ومبتكرة بما يناسب المجتمعات التي تطبقها ونماذج تطبيق الديمقراطية في شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تختلف بالتالي الواحدة عن الأخرى مع ان الطرح النظري والفكري هو واحد في أي مفهوم شمولي عن الديمقراطية في العالم كله .
من هذا المدخل يمكن الحديث عن إشكالية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في حالة التطبيق ومسيرتها خلال سنوات عديدة وما ادخل عليها من سمات وصفات فما هي صورة هذه العلاقة في التاريخ الحديث وكيف عبر عنهاالفكر السياسي العربي والإسلامي قبل نماذج تطبيقها؟
شيء من التاريخ:-- حينما نراجع قرنا من الزمان من تاريخنا العربي الحديث نجد ان مقولة الديمقراطية كانت في مقدمة ما بشر به رواد النهضة العربية الحديثة وانهم جميعا وصفوا الديمقراطية وما في معناها في مقدمة النهضة ذاتها وشرطا لها ، فمع بدء الاحتكاك مع اوربا طرح رواد الفكر السلفي الاصلاحي شعار الديمقراطية وقارنوه بالشورى الاسلامية واعتبروها من عوامل نهضة الاسلام الاولى وبالتالي فلا بد ان تكون من اسباب نهضته الثانية –الخطاب العربي المعاصر –الجابري ص 87-على ان المعنى المتفق عليه في التشابه بين معنى الشورى والديمقراطية كان كامنا –كما يضيف الجابري-في رفض –الاستبداد المطلق-الذي كان يعني تصرف الواحد في الكل على وجه الاطلاق في الارادة ان شاء وافق الشرع والقانون وان شاء خالفهما ، ولما كان الاستبداد المطلق ممنوع في الاسلام لان الشرع اوصى بالشورى الا ان الاستبداد المقيد غير ممنوع في الشرع ولا في العقل بل هما على وجوبه لانه الشورى بالذات ، هذه الشورى التي تقوم على مناصحة الامراء وهي واجب شرعي أما طريق تنفيذها فمفتوح وليكن الوسيلة الديمقراطية ،على انه طرحت وجهة نظر اخرى الى جانب الطرح الاسلامي هذا هي وجهة نظر الليبرالي العربي –كما يسميه الجابري-الذي لا يناقش ألمسألة نظريا وفكريا وانما يحتكم الى التطبيق الحقيقي للاسلام عبر تاريخه حيث لا نجد ممارسة الشورى نفسها بالشكل الاسلامي الصحيح الا في فترة قليلة ،وهنا طرح مفهوم المستبد العادل كتعبير عن مشكلة الديمقراطية والشورى والعلاقة بينهما ولكن هل يئس الفكر العربي من امكانية الممارسة الديمقراطية الصحيحة ؟
يجيب الجابري بالنفي ومن هنا كانت مطالبة الليبرالي العربي والسلفي الاسلامي بدعم الطبقة الوسطى لكي يمكن تطبيق الديمقراطية كما فعلت في اوربا .ونمضي مع التاريخ العربي الحديث حيث نجد ان الممارسات الديمقراطية في بعض البلدان العربية جاءت بعد حصول انقلابات عسكرية وفرز الخنادق بين وصف الدول التقدمية الناتجة عنها بانها ديمقراطية مع ان الواقع الحقيقي لهذه الانظمة كان ابعد ما يكون عن المعنى الحقيقي للديمقراطية وهذا ما جعل الجابري يقول مقيما هذه الديمقراطيات (ان الديمقراطية اذا كانت مزيفة كاذبة في ظل الحكومات التقليدية فهي في ظل الحكومات التقدمية أقرب الى ان تكون مخنوقة غائبة وهكذا اتخذ بعض التقدميين من التزييف والاخطاء التي رافقت الديمقراطية في ظل العهود الرجعية والبرجوازية مبررا لنسف الحياة الديمقراطية من جذورها )
فاذا ما جئنا الى الربع الاخير من القرن العشرين نجد ان هناك توصيفات خاصة بالديمقراطية المطلوبة للوطن العربي حيث عقدت ندوة خاصة بعنوان –اشكالية الديمقراطية في الوطن العربي – شارك فيها العديد من المفكرين العرب جاء في توصياتها ما يلي :-
1-اجمع المشاركون على محورية قضية الديمقراطية وموقعها الحاسم في العملية النضالية لتحقيق اهداف الامة العربية في التحرر والتقدم المجتمعي وعلى دورها في بناء القاعدة الشعبية كما اعتبروا ان الديمقراطية شرط مصيري لتحقيق وحدة التراب العربي ووحدة الامة العربية .
2-اجمع المشاركون على رفض التضحية بالديمقراطية بحجة مقتضيات التنمية الاقتصادية واكدوا على مشاركة الجماهير في التنمية وانجازها في اطار من الحرييات الفردية والجماعية وبالارتكاز على سيطرة الامة العربية على مواردها الطبيعية .
3-ورأى المشاركون ان للديمقراطية دورا حاسما في تجديد النهضة العربية واطلاق كل طاقات الخلق والابداع للامة العربية واحياء تراثها من منظورعلمي
4-لاحظ المؤتمرون وجود انظمة لازالت تفتقد لاي من البديهيات والمؤسسات التمثيلية وتحرم شتى انواع النشاط الحزبي والنقابي وترفض الاعتراف بالحقوق الديمقراطية- ص97
وهكذا اكدت التداخلات عن تساؤل ورغبة لدى المؤتمرين يتعلقان بالبحث عن صيغة ديمقراطية جديدة تسعى للتوفيق بين واقع التعدد والتنويع وبين الالتزام باهداف التحرر الوطني والتوحيد القومي والتقدم الاجتماعي
ولما كانت الديمقراطية تعني حقوق الاقليات واللامركزية في الحكم وحق تقرير المصير …الخ فقد نظر اليها على انها تخدم التجزئة وبالتالي يخاف منها على الاهداف القومية كيف يمكن اقامة الديمقراطية التي قد تقود الى التجزئة في جو الدعوة للوحدة العربية ويصل الجابري الى القول ( ان الطابع الاشكالي لقضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر يتجلى وبصورة اكثر حدة في ذلك (التلازم الضروري )الذي يقيمه الخطاب العربي بين القضية ونقيضها او ما يقدم نفسه في لحظة من اللحظات كبديل او مناوب عنها …كذلك الامر بالنسبة للديمقراطية التي تطرح اما على انها الشورى الاسلامية بعد ان يتحدد ( كيفها) الجديد ( بالاجتهاد) واما على انها الجمع بين اله الديمقراطية الليبرالية السياسية والديمقراطية الاشتراكية الاجتماعية وفي كلتا الحالتين لا تتحدد مقولة الديمقراطية الا من خلال احد بدائلها الملازمة لها –ص195)
على ان الجابري يرجع مسألة هذا التناقض بين الطرح الليبرالي والطرح السلفي الى مسألة اساسية اعقد هي مسألة ( الاصالة والمعاصرة)حيث يرى ان الخطاب العربي لم يستطع ان يتقدم خطوة واحدة على طريق صياغة (مشروع نهضة ثقافية) سواء على مستوى حلم مطابق او على صعيد التخطيط العلمي بل ظل ينوس بين طرفي معادلة مستحيلة الحل ، معادلة (الاصالة والمعاصرة) التي تطمح الى تحقيق التوافق والتكامل بين سلطتين مرجعيتين مختلفتين تماما متنافستين ومتصدعتين بحكم انتمائهما الى زمنين مختلفين ونمطين حضاريين متباينين سلطة النموذج العربي الاسلامي الوسيطي وسلطة النموذج الاوربي المعاصر .
وفي ندوة اخرى عن الاسلام والديمقراطية في بدء القرن الحادي والعشرين عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان بالتعاون مع مركز الاسلام والديمقراطية في امريكا طرح السؤال عن انه هل هناك مقاييس دينية خاصة للديمقراطية يمكن تطبيقها في مجتمعات تدين اغلبيتها بالاسلام ؟وقد دار الحديث عن الاسلاميين الذين يقولون الديمقراطية الليبرالية اقرب الحلول الى الاسلام ) وعن اليساريين الذين يقولون ( بدائلكم تعيدنا للوراء ويجب مراعاة حقوق الاقلية ) وجرى جدل واسع بين اطراف اسلامية ويسارية حول الاسلام والديمقراطية فهذا الدكتور عصام العريان القيادي في جماعة الاخوان المسلمين يقول ( ان الاخوان هم الذين يقبلون قواعد الديمقراطية ولابد من تحديد ذلك منذ البداية بوصفهم التيار الموجود على الساحة الذي يقبل ذلك ، اني احدد ذلك حتى لا ننجرف الى تيارات اخرى ترفض الديمقراطية نفسها ) ويضيف( ان الاخوان هم التيار العريض الاكثر حضورا على الساحة الاسلامية ومراحل عملهم على مدى تاريخهم الطويل تدعم ما اقول فقد اعلن المرشد العام ومؤسس الجماعة حسن البنا بوضوح في مؤتمر عام لهم ان نظام الحكم الدستوري النيابي هو اقرب النظم الى الاسلام ولايعدل له بديلا وهذا لا يعني ان الاخوان جامدون فكريا لانهم يقبلون ما ياتي لهم من امم اخرى غير اسلامية )
يتبع >
__________________