ولكن ما يحز في القلب أن يرى المسلم -في أيامنا هذه- أن همّ جماعات الدعوة إلى الله تبارك وتعالى -إلا من رحم الله منهم- قد انصرف إلى هدم بعضهم البعض، وأنهم ينفقون من أوقاتهم وأعمالهم في هذا الهدم أكثر مما ينفقون في البناء!
د- الشورى
أعتذر للقارئ من الإطالة في شرح الفروق السابقة وتعريف جماعة المسلمين وإمامهم والمهمات المنوطة به، وتعريف جماعات الدعوة وأمرائها والمهمات المنوطة بها وذلك حتى نستطيع أن نكون على وعي بالإطار الذي سننزل الشورى فيه. فنظام الشورى المنصوص عليه في القرآن والمعمول به في السنة وسيرة الخلفاء الراشدين هو النظام الواجب الإتباع في الإمامة، وأما جماعات الدعوة فهناك بعض الفروق كما سترى عند التمثيل والتطبيق إن شاء الله تعالى.
مبدأ الشورى ومرونة التطبيق
للشورى في الإسلام قاعدة من قواعد الحكم، ونظام صالح للجماعات وسيرة كريمة للأفراد، وإليك بيان لهذا الإجمال:
دل الكتاب، والسنة، وأقوال الخلفاء وسيرتهم، وأقوال السلف، وأقوال علماء العصر على أن الشريعة الإسلامية جاءت مقررة لمبدأ الشورى وإليك الأدلة على ذلك:
أولاً: الكتاب
قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159).
نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التي استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في الخروج إلى عدوهم أو البقاء في المدينة، فأشير عليه من جمهورهم وغالبيتهم بالخروج، وذلك من الذين لم يشهدوا بدراً وكان فيهم تحرق إلى لقاء العدو. ولقد كان ما كان من مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء فوق الجبل وهزيمة المسلمين واستشهاد سبعين منهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عقب هذه الغزوة بالعفو عمن صدر منهم خطأ كالرماة والذين فروا، والذين تعجلوا الخروج ولم يأخذوا بالرأي الأحكم وهو البقاء في المدينة، وأمر أيضاً أن يستغفر لهم، وأن يستمر على مشاورته إياهم في مثل هذه الأمور، التي هي سياسة الحرب، ومكايد العدو.. ونزول الأمر بالشورى في مثل هذه الظروف يؤكد حتميتها ولزومها. واعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ: {وشاورهم في الأمر}
ليبين أن الشورى ليست في كل الأمور، وسيأتي لهذا الأمر تفصيل إن شاء الله تعالى في مجالات الشورى.
واعلم أيضاً أن عامة السلف والفقهاء قالوا بأن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالشورى كان للوجوب وليس للندب أو الاستحباب، وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وقاس الأمر هنا على قوله صلى الله عليه وسلم: [البكر تستأذن] أي عند الزواج،
قال الشافعي: لو أجبرها أبوها على الزواج جاز!! وقد رد هذا القول الفخر الرازي في تفسيره (5/83) بقوله: القياس في مواجهة النص باطل.
وأن المقيس عليه عند الشافعي في هذه المسألة باطل أيضاً لأن الصحيح أنه لا يجوز للأب أن يجبر ابنته على الزواج لأن هذا مخالف لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف.
ولكن بعض السلف -مع قولهم بالوجوب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم- نفوا أن يكون هذا الوجوب عن حاجة عند الرسول للمشاورة، بل قالوا: لقد أغناه الله عن المشورة بما أوحى له وهداه ووفقه ولكن أمره بذلك ليقتدي به من بعده الأئمة والخلفاء، وليكون هذا سياسة دائمة في الأمة إذا رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو كان مأموراً بذلك ومطبقاً له.
ولكن الفخر الرازي نفى هذا القول بقوله: "والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}
وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلاً وذكاءً وهذا يدل على أنه كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة"
وخلاصة ذلك أن الشورى لازمة للاجتهاد ولا تقدح في شخص المستشير بل هي دلالة على رجاحة العقل، وأضيف هنا إلى كلام الفخر الرازي رحمه الله أن الشورى تكون أحياناً في أمور دنيوية صرفة، كالخبرة بشؤون القتال، ومنازل الحرب ومكايد العدو، وأصلح الناس للإمارة، ولا يقول أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بشؤون الدنيا ولذلك فهو مستغن عن المشورة فيها وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: [أنتم أعلم بشؤون دنياكم]
ليس نقصاً في حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ولا طعناً في منزلته أن يكون أمر الله في الآية السالفة الوجوب، وذلك لتتجمع له الخبرة التامة، والعلم الشامل لتصريف شؤون الأمة الإسلامية الناشئة وليكون هذا سنة للخلفاء بعده ليلتزموا هذا المنهج الكريم.
2- قال تعالى في مدح المؤمنين الذين ادخر لهم الخير: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى:38).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: {وأمرهم شورى بينهم}
أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها.
وفق ما جاء بالجملة الإسمية التي تفيد الإستمرار والثبوت وأنه جاء بعد الاستجابة لأمر الله وهي الإسلام ثم الصلاة وهي عماد الإسلام وجاء خلف الشورى الزكاة وإنفاق المال فوضع الشورى بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أكبر الأدلة على لزومها.
ثانياً: الحديث الشريف
جاء في السنة ما يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك المشاورة قط بل قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله لأصحابه".
أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص دائماً على مشاورة الشيخين أبي بكر وعمر، بل جاء في حديث الإمام أحمد رحمه الله أن الرسول قال لهما: [لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما]
وهذا الالتزام من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على تأكيد هذا الأمر ووجوبه. ومما جاء في شأن الوقائع التي شاور فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه: مشاورتهم يوم بدر في الخروج إلى العير، ومشاورتهم في منزل الحرب وهي ثلاث مشاورات كلها في غزوة بدر، وكذلك شاورهم في أحد القعود في المدينة أو الخروج للعدو وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، وقال في حديث الإفك: [أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء! وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليهم إلا خيراً].
ثالثاً: سنة الخلفاء وسيرتهم
أما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراشدون فإنهم ما تركوا المشورة خاصة في المسائل الهامة كتولية الإمام وشن الحروب وتصريف أمورها وتولية الأمراء على أقاليم الإسلام، فتولية أبي بكر وعمر وعثمان كلها كانت بمشورة وإن اختلفت صورها وظروفها. وحروب الردة وفارس والروم كلها كانت بمشورة المسلمين علانية في المسجد. وسأعرض لبعض هذه المشورات في الكلام على مجالات الشورى إن شاء الله تعالى. ولذلك جاء عن عمر بن الخطاب قوله: "من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا" (البخاري - الاعتصام ص75).
مرونة التطبيق
فيما سبق من آيات وسنة، وأقوال للخلفاء والأئمة دلالة واضحة على أن الشورى قاعدة من قواعد الشريعة، ومبدأ من مبادئ الحكم في الإسلام.
أن هذه القاعدة كانت من المرونة، والقابلية للتكييف بحيث لا تلزم المسلمين بصورة من الصور، ولا بكيفية من الكيفيات تكون واجبة التطبيق وجوب المبدأ نفسه. فليس في الآية ولا السنة بيان بعدد المستشارين ولا بكيفية استشارتهم، ولا في صفتهم، وليس فيها إلا أن الإمام يجب عليه أن يستشير الناس فيما يعرض لهم من شؤونهم، وأنهم إذا وصلوا إلى قرار أخير بعد الشورى فإنه لا يجوز العدول عنه، ويجب بعد ذلك التوكل على الله عز وجل وعدم التردد والخوف {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
ومعناه أن التحكم يجعل كيفية ما من الكيفيات أمراً شرعياً مقرراً تحكم باطل. إلا أن كانت مستندة إلى نص من النصوص، أو ما تقتضيه (المصلحة المرسلة) والصالح العام للمسلمين. وفي هذه الحالة الثانية الأمر خاضع للنظر والترجيح.
ولفهم ذلك ينبغي التفريق في فهم شريعة الإسلام بين أمرين: العبادات والمعاملات.
فالعبادات وهي القرب التي شرعها الله تبارك وتعالى ولنتقرب بها إليه كالصلاة والزكاة والصيام والحج الأصل فيها للتحريم.. ولا يجوز إثبات شيء منها إلا بنص وذلك أن الله لا يعبد إلا بما شرع هو سبحانه وتعالى وهذا أيضاً شأن كيفياتها، وحركاتها وسكناتها، ولذلك تكفل الشارع ببيانها أتم البيان فبين كلماتها وكيفياتها وأوقاتها، ومقاديرها وحركاتها وسكناتها، وكل عمل من هذه الأعمال في هذه العبادات ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على فاعله، ولا يقبله الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] متفق عليه.
وأما المعاملات فالأصل فيها الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمعاملات من بيع وتجارة وهبة، وولاية، وسياسة، وتنظيم لشؤون الدنيا الأصل في كل ذلك الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضاً أن يعطى شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضاً أن يعطى شيء من هذه المعاملات وغيرها صفة شرعية محددة لم ينص الله عليها، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فليس في تنصيب الأئمة مثلاً صفة شرعية محددة وكيفية واحدة بل الأصل فيها أن تكون عن شورى كما سبق ونص عمر بن الخطاب على ذلك.
وببيان هذا الأصل تعلم خطأ من ذهب من الفقهاء إلى أن البيع لا يجوز إلا بصيغة تفيد الإيجاب والقبول (بعت وقبلت) ولذا ذهب من قال بهذا إلى تحريم ما يعرف ببيع المعاطاة، وهو أن تعطي البائع مبلغاً من المال وتأخذ منه السلعة دون كلام يفيد الإيجاب والقبول، وهذا بيع جائز نفعله جميعاً فأنت تشتري الآن صحيفتك اليومية، وكثيراً من السلع المعلومة دون أن تلفظ بكلمة واحدة من البائع فهل هذا بيع باطل شرعاً؟! بل وأنت تضع عشرين فلساً في الآلة فتخرج لك (قارورة البارد) فتشربها وتنصرف والطرف الثاني في هذا العقد ليس إنساناً وإنما هو آلة، وكل هذه البيوع مباحة لأن الأصل في المعاملات هو الإباحة ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، فالذين نظروا إلى المعاملات نظرتهم إلى العبادة أخطأوا خطأ فاحشاً لأنهم حجروا على الناس استحداث الجديد منها، وضيقوا القديم بكيفيات وهيئات وشروط لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فالذين قالوا لا ينعقد النكاح إلا باللغة العربية قد حجروا واسعاً، والذين قالوا شركات المساهمة حرام لأنها لم تكن معروفة في عهود الفقهاء الأولى قد أخطأوا خطأ فاحشاً، وضيقوا على الناس حياتهم بل الأصل في هذه المعاملات هو الحل ولا يحرم منها إلا بنص.
يتبع >