ولوحظ أيضاً، خلال العديد من السنين، في فترة المنافسة شرق- غرب، الاجتياح الايديولوجي للقانون الدولي. ووجه آخرون النقد إلى القانون الدولي، سواء لإفراطه في الاستخفاف بدول العالم الثالث، أم لأنه يؤدي خدمة لهيمنة دول الغرب. واعترض رجال القانون الماركسيون جميعهم، على القانون الدولي، مع تكهنهم بـ"سقم الدولة" عندما أرادوا تحديد "قانون التعايش السلمي" من أجل مصارعة الحرية الليبرالية. كما اعترض قانونيو العالم الثالث من جانبهم على القانون الدولي، محددين بصورة رئيسة عن طريق البلدان النامية، وبحثوا عن نزع الاستعمار عن طريق القانون المشروع "حق الشعوب في تنمية نفسها بنفسها" وأشادوا نظاماً اقتصادياً دولياً جديداً، وأصبح لهذه النظريات ميل لكي تزال اليوم، أمام هيمنة القيم التي يطلق عليها اسم الليبرالية.
2-احترام القانون الدولي
تفوق القانون الدولي على القانون الوطني ضرورة نظرية
تعتمد طبيعة القانون الدولي، على العلاقة بين القانون الدولي والقوانين الداخلية للدول.
ويشكل القانون الدولي والقانون الداخلي، خطاباً قانونياً واحداً، حسب عقيدة الواحديين (Monistes): بعبارة أخرى، لا يطبق القانون الدولي إلا إذا اندمج بالنظام القانوني الداخلي للدولة، والتقارب الثنائي، ليس مفاجئاً فقط، بل هو شكل عام محفوظ من قبل الوضعيات.
نظرياً، فلا يمكن أن يكون له صفة القانون الدولي، دون أولوية على القانون الداخلي. ولأن الدولة ذات سيادة، يجب أن يكون لديها قانون ولأنها تلتزم بالقانون الدولي، يجب أن تحترم التزاماتها، إذن فإنه منطقي بأن تتكيف مع حقها الخاص بالالتزامات التي اتخذتها حيال الدول الأخرى. ولا تستطيع دولة ما الادعاء بعدم كفاية تشريعاتها الداخلية من أجل إعفائها من مسؤولياتها الدولية. واعترفت محكمة العدل الدولية بالقانون الداخلي كـ"مبدأ معترف به بشكل عام". وأعادت محكمة العدل الدولية عام (1945) التأكيد على هذا المبدأ، كـ"مبدأ أساس ـ"مبدأ أساس في القانون الدولي"، بصورة منتظمة. بالمقابل لا يطبق القانون الدولي على الأشخاص، كما اعترفت بذلك محكمة العدل الدولية الدائمة في مسودة محاكمات دانزيغ عام (1928). واعترفت أن الدولة تقوم كوريثة بين القانون الدولي وتابعيها.
تعترف معظم الدول بتفوق القانون الدولي، وهذا حسب التوازن الأنجلو-ساكسون بأن "القانون الدولي جزء من قانون الأرض" طبقاً للعقيدة المقترحة من قبل بلاكستون Blackstone (1765). وهذه قاعدة معترف بها في البلاد التي فيها دستور مكتوب: وهنالك صعوبة بإنكار القانون الدولي العام، "خصوصاً القانون غير المكتوب" مع ذلك، ويمكن أن يتردد ذلك بالالتزام على الأرض التي لا تعترف به، ويجب عليها أن تخضع للتفسير الإداري.
فالمعاهدة إذن ليست مقبولة شرعاً إلا إذا طبقت بطريقة متبادلة، وليس تقدير شرط التبادل من شأن القاضي الذي يمكنه أن يرد الموضوع إلى مستوى وزارة الخارجية. ولقد أكد المجلس الدستوري، بأن ليس هنالك من شرط من أجل مطابقة القوانين مع الدستور. وهنا، على السلطة التنفيذية أن تستخلص النتائج من غياب التبادل "على سبيل المثال، بإلغاء المعاهدة".
بالمقابل، فعلى القاضي أن يبطل المادة المخالفة للمعاهدة، فالقانون الدولي يجب أن يطبق على الأفراد عند غياب قابلية التطبيق المباشرة، وعلى القاضي الداخلي أن يضمن هذا التطبيق. فالقاضي القضائي، يقبل تفسير اتفاق ما عندما يكون خالياً من الغموض11؛ أو عندما تكون بعض المصالح الخاصة موضع رهان، ويطلب القاضي الإداري من جانبه تدخل وزارة الخارجية أحياناً، لكن بعد أن يعتبر هذا التفسير كـ"عمل حكومي" غير قابل لأن يعترف به من قبل قسم قضايا الدولة.
الطبيعة الإجبارية للقانون الدولي، تفترض مشكلة التصديق:
نادراً ما تقبل الدول تحديد سيادتها في النقطة التي يمكن أن يصبح خرق القياس مقراً من قبل المجموعة الدولية. والإقرار ضد الدولة التي تعتدي على السلم الدولي، خاضع لمزلاج مزدوج، تستطيع القوى وحدها رفعه إما سياسياً بالتصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإما عسكرياً ومالياً بوضعه موضع التنفيذ- هذا ما حدث في كوريا عام (1950) والعراق عام (1990)، وسمح بشن مثل تلك الميكانيكيات في شروط مطابق لميثاق الأمم المتحدة، لحد ما "من الفصل الثامن.
يضاف إلى ذلك، تكون الإجراءات التقليدية، نتيجة الاتهام عن مسؤولية الدولة، وآليات التصديق، متوقعة في المنظمات الدولية، في بعض الأحيان: حوارات متناقضة، نشر التقارير، آليات قانونية، إمكانية الطرد من معظم المنظمات الدولية، تعليق حق التصويت "خصوصاً في حالة عدم رفع المساهمة المالية"، وهذا من الأمور النادرة لتكون فعالة. لهذا، تفضل الدول استخدام الدبلوماسية واتخاذ إجراءات معاكسة، يراد بها الإقرار.
ج-تحليل المجتمع الدولي: بين النظام والقوة
يقسم المؤرخ جان بابتيست دو روزيل Jean Baptiste du Roselle العلاقات الدولية إلى بابين:السياسة الدولية التي هي حصة الدول"حرباً أم سلماً"، والحياة الدولية التي هي من فعل الفاعلين الخاصين"سياحة، رياضة، تجارة دولية" يبدو أن هذا التمييز يخفي ما يفعل القانون الدولي العام "أو بين الدول" عن القانون الدولي، الخاص "حيث تتواجه الأنظمة القانونية الداخلية، دون تدخل الدول".
والحالة هذه، فإنه في تناقض من حيث الملاءمة بين معارضة العلاقات الدولية العامة والخاصة. وتؤدي العولمة إلى تعزيز التعاون الدولي في جميع المجالات، في حين تنظم الدول الحياة الدولية، ويجب على مفهوم (القوة) معاد التقييم أن يؤخذ بالاعتبار على ضوء هذا التطور.
1- هل نهاية التاريخ هي نهاية التقدم
لقد أدت نهاية الحرب الباردة، كما في جميع الانقلابات التاريخية، إلى فقدان المعالم، وفتحت حقبة ش****ة، ويبدو أن رجال السياسة، وكذلك المثقفون، حائرون في مواجهة "العولمة" التي تغير العالم دون أن يتغيروا. ربما هذه الاستفهامات الحياتية الخاصة بحياة الإنسان ليست سوى العودة الأزلية للتفكير حول صيرورة الإنسانية ومصير الإنسان.
والتنبؤ "بنهاية التاريخ" ليس جديداً، كما يعتقد، طبقاً للضجة التي أثيرت حول فرضية فرانسيس فوكوياما:
بعد سقوط جدار برلين بوقت قصير، هذا الأستاذ الأمريكي، هو الذي أطلق أن القيم الليبرالية"الديموقراطية، السوق، حقوق الإنسان"هي من الأمور التي لا غنى عنها، ويجب أن تحكم العالم بعد الآن. بالنتيجة،إن التاريخ قد ينتهي12.إذا أعطيت هذه الفرضية سبباً لليبراليين الذين يتوقعون السلام السرمدي عن طريق التضامن الدولي والأمن الجماعي. ومن قَبْل، في القرن التاسع عشر، رأى الفيلسوف الألماني، هيغل، في التاريخ العام تقدماً في وعي الحرية. ويجب أن تكون عبارته عن الدولة الحديثة،هي التي سينمي فيها الإنسان وعيه كمواطن حر ومناسب. وإذا كان مفهوم الدولة لدى هيغل قريب من نماذج عصره"امبراطورية نابوليون، بروسيا" فإنه من الواضح، أنه سوف لن تحدث "نهاية التاريخ" فجأة، إلا عندما تصبح الدولة نموذجاً.
وتنبأ الأب تلهارد دو شاردان Teilhard de Chardin، الفيلسوف والعالم الفرنسي، تنبأ عام (1955)، بنهاية دينية وجماعية للتاريخ، فقد خرج الجنس البشري من الكائنات الحية "منطقة الحياة غير المُعْقلنة" من أجل الدخول في النوسفير (Noosphere) أي "منطقة الحياة المعقلنة"، وهنا ستبلغ مرحلة الإنسانية المتفوقة. بعبارة أخرى، سيطرة وتطور الكائنات الحية، ستصل بجميع الأرواح والكون في المسيح.
يجب أن تكون هيمنة القيم نسبويَّة مع ذلك:
لقد خلق القرن العشرون نوعاً مختلفاً من الايديولوجيات العالمية الثلاث الكبيرة، الموروثة عن القرن التاسع عشر: التحررية والقومية والاشتراكية. والتحررية هي الرابح الأكبر على الساحتين في السياسة مع دَمَقْرطة أكبر اتساعاً، وأكثر على الساحة الكونية، وفي الاقتصاد. منذ زوال الفرضيات الكنيسة (Keynesienne) والمتعلقة بمذهب كَينِس الاقتصادي القائل بالتدخل الرسمي لإنماء الإنتاج والوظائف- وتعرضت الاشتراكية للإخفاق كتنظيم سياسي، مع أنها استرجعت جزئياً من قبل الديموقراطيات الليبرالية، حتى ابتعدت عن الكينسية، وهي تحافظ على بعد اجتماعي غاب عن البلدان الرأسمالية الليبرالية من القرن التاسع عشر.
توجيه الاتهام للتقدم ليس جديداً أيضاً:
لقد قدر بول فاليري Paul Valery القول: "نحن، الحضارات، إننا نعلم أننا ميتون، من بعد" وذلك غداة الحرب العالمية الأولى.
ووصف زكي العائدي، العالم بأنه "محروم من الإحساس" بعد الآن في حين دوَّن كل واحد من المتخاصمين في الحرب الباردة- الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- عملهما مع توقع غائي- حسب النظرية القائلة بأن كل شيء في الطبيعة، موجه لغاية معينة- وأدى انتصار ديموقراطية السوق، إلى اختفاء كل توقع لـ"أفق للتوقع"13. وأصبحت فكرة التقدم التي أدخلت بواسطة القديس أوغسطين، في القرن الرابع من عصرنا، التي تجسد فيها "الدولة الأرضية، دولة الرب"، أصبحت موضع شك، وحلت العولمة محل النظام بين الدول (Interétatique) الكلاسيكي بواسطة "نظام اجتماعي عالمي"، نزعت فيه الدولة عنها حيازة سلطتها، ومن أجل أن تحافظ الدولة على شرعيتها، وجب عليها التقشف.
جرى الإعلان عن انحطاط الغرب منذ مطلع القرن العشرين:
نشر الفيلسوف الألماني أوزوالد سبينغلر Oswald Spengler عام(1918) كتاباً بعنوان: "انحطاط الغرب"، يعلن فيه، أن أوربا قد اجتازت مرحلة "الثقافة" المتميزة بالنشاط العفوي للروح، خصوصاً في "الفن" إلى مرحلة "الحضارة" المسيطر عليها بالثقافة العقلية والمَكْننة.
وعدلت نهاية الحرب الباردة من العلاقة بين الغرب والعالم. ولاحظ كلود ليفي- ستراوس Claude Levi-Straus، في كتابه "النسب والتاريخ" الصادر عام (1968) أن الماركسية والتحررية، طريقتين لفرض الفكر الغربي على العالم14. ويؤكد جان كريستوف روفان Jean Christophe Rufin، أن المنافسة شرق- غرب، قد نظّمت الحرب، التي ستحددها وعينت لها الأسس15 في كتابه "الامبراطورية والبربريات الجديدة" الصادر عام (1991)، حيث انطوى (الجنوب) على نفسه، واسترجع أحياناً بعض نشاطه- لكن على شكل نزاعات داخلية.
ويطرح البروفيسور صامويل هانتنغتون Samuel Huntington في مقالة داوية، نشرت في مجلة شؤون خارجية Forein Affairs ، طرازاً جديداً من النزاعات. فبعد الحرب بين الإمارات، من ثم بين الدول/الأمم، ثم بين الايديولوجيات "الفاشية، الشيوعية، الرأسمالية"، جاء دور "صدام الحضارات".
والحضارة هي كيان أو جوهر ثقافي، يتميز بالتاريخ وباللغة والتقاليد، وخصوصاً الدين ويُعْتبر صِدام الحضارات، كنتاج لتقسيم الحضارات، وسيحدث بين الدول الممثلة للحضارات المختلفة. ويُعدّد صامويل هانتنغتون، سبع حضارات أو ثمانية: الغربية، الكونفوشيوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، السلافية-الأرثوذكسية، الأمريكية-اللاتينية، أخيراً، الأفريقية. ويعتبر الأزمة البوسنية، بأنها تعارض أو تصادم، بين المسلمين "مدعومين من قبل البلدان الإسلامية" على سبيل المثال، مع الأرثوذوكسية "مدعومين من الصرب وروسيا". ويعتبر الأزمة في القوقاز، على أنها صراع بين المسلمين والمسيحيين، وسيقود الصعود القوي للكونفوشيوسية إلى صراع يؤدي إلى تصادم حضارتين: الحضارة الهندية "البوذية" واليابانية الشنتوويك Shintoique. ويذهب هانتنغتون بعيداً بالتذكير بالتلاحم "الإسلامي"- "الكونفوشيوسي" ضد الغرب، الذي يتوضح في مجال الأسلحة، خصوصاً: ستصبح سياسة عدم تكاثر الأسلحة ذات الدمار الشامل، المصممة من قبل الغرب، مُعارضة من قبل الصين وستتصدى لها ببيع الأسلحة للبلدان الإسلامية دون تحفظ.