رابعـاً: استطلاع الدراسات السابقة
تعدُّ هذه الخطوة بدايةَ مرحلةٍ جديدة من مراحل البحث يمكن أن يُطْلَقَ عليها وعلى لاحقتها الإطارُ النظريُّ للبحث أو للدراسة وهي المرحلة الثالثة، فبعد الخطوات الإجرائيَّة السابقة اتِّضحت جوانبُ الدراسة أو البحث فتبيَّنت الطريق للباحث وعرف طبيعة البيانات والمعلومات والحقائق التي ستحتاجها دراسته أو بحثه، وبما أنَّ البحوث والدراسات العلميَّة متشابكة ويكمل بعضُها البعضَ الآخر ويفيد في دراساتٍ لاحقة، ويتضمَّن استطلاع الدراسات السابقة مناقشة وتلخيص الأفكار الهامَّة الواردة فيها، وأهميَّة ذلك تتَّضح من عدة نواحٍ، (غرايبة وزملاؤه، 1981م، ص22)، هي:
1- توضيح وشرح خلفيَّة موضوع الدراسة.
2- وضع الدراسة في الإطار الصحيح وفي الموقع المناسب بالنسبة للدراسات والبحوث الأخرى، وبيان ما ستضيفه إلى التراث الثقافيِّ.
3- تجنُّب الأخطاء والمشكلات التي وقع بها الباحثون السابقون واعترضت دراساتهم.
4- عدم التكرار غير المفيد وعدم إضاعة الجهود في دراسة موضوعات بحثت ودرست بشكلٍ جيِّد في دراسات سابقـة.
فمن مستلزمات الخطَّة العمليَّة للدراسة دراسةُ الموضوعات التي لها علاقة بموضوع الباحث؛ لذلك فعليه القيام بمسحٍ لتلك الموضوعات؛ لأنَّ ذلك سيعطيه فكرة عن مدى إمكانيَّة القيام ببحثه، ويثري فكره ويوسِّع مداركه وأفقَه، ويكشف بصورة واضحة عمَّا كتب حول موضوعه، والباحث حين يقوم بمسحه للدراسات السابقة عليه أن يركِّز على جوانب تتطلَّبها الجوانبُ الإجرائيَّة في دراسته أو بحثه، ((Haring & Lounsbury, 1975, pp.19-22، وهي:
1- أن يحصرَ عدد الأبحاث التي عملت من قبل حول موضوع دراستـه.
2- أن يوضِّحَ جوانب القوَّة والضعف في الموضوعات ذات العلاقة بموضوع دراسته.
3- أن يبينَ الاتجاهات البحثيَّة المناسبة لمشكلة بحثه كما تظهر من عمليَّة المسح والتقويم.
ويمكن للباحث عن طريق استقصاء الحاسبات الآليَّة في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وفي مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة، وفي مكتبة الملك فهد الوطنيَّة، وعن طريق الاطِّلاع على بيبليوغرافيا الرسائل العلميَّة في الدراسات العليا وبيبليوغرافيا الدوريَّات المحكَّمة التي تنشر الأبحاث في مجال موضوعِ دراسته أن يستكشفَ كلَّ ما كتب عن موضوع دراسته ويتعرَّف على مواقعها وربَّما عن ملخصاتٍ عنها.
كما تعدُّ النظريَّاتُ ذات العلاقة بموضوع الدراسة ممَّا يجب اطِّلاع الباحث عليها وفحصها بتطبيقها فيما يتَّصل بموضوعه، أو إثبات عدم صلاحيَّتها في ذلك في مدخلاتها ومخرجاتها، وأن يسلك في ذلك المنهج العلميَّ، ويجب ألاَّ ينسى الباحث أنَّ الدوريَّات العلميَّة تعدُّ من أهمِّ مصادر المعلومات والبيانات الجاهزة ولا سيما الدوريَّات المتخصِّصة منها والتي لها علاقة بموضوع بحثه، وتخصِّص المكتباتُ العامَّة عادة قسماً خاصّاً بالدوريَّات، وأهمُّ ميزة للدوريَّات أنَّها تقدِّم للباحث أحدث ما كتب حول موضوعه، وأنَّها تلقي الأضواء على الجوانب التي تعدُّ مثارَ جدلٍ بين الباحثين بمختلف حقول التخصُّص، وتلك الجوانب تعدُّ مشكلاتٍ جديرة بإجراء أبحاث بشأنها، (غرايبة وزملاؤه، 1981م، ص32).
خامساً: صياغة فرضيَّات البحث
يجب على الباحث في ضوء المنهج العلميِّ أن يقوم بوضع الفرضيَّة أو الفرضيَّات التي يعتقدُ بأنَّها تؤدِّي إلى تفسير مشكلة دراسته، ويمكن تعريف الفرضيَّة بأنَّها:
1- تفسير مؤقَّت أو محتمل يوضِّح العوامل أو الأحداث أو الظروف التي يحاول الباحث أن يفهمَـها، (دالين، 1969م، ص22).
2- تفسيرٌ مؤقَّت لوقائع معيَّنة لا يزال بمعزل عن اختبار الوقائع، حتى إذا ما اختبر بالوقائع أصبح من بعد إمَّا فرضاً زائفاً يجب أن يُعْدَلَ عنه إلى غيره، وإمَّا قانوناً يفسِّر مجرى الظواهر كما قال بذلك باخ: هي ذكر في: (بدوي، 1977، ص145).
3- تفسيرٌ مقترح للمشكلة موضوع الدراسة، (غرايبة وزملاؤه، 1981م، ص22).
4- تخمينٌ واستنتاجٌ ذكيٌّ يصوغه ويتبنَّاه الباحث مؤقَّتاً لشرح بعض ما يلاحظه من الحقائق والظواهر، ولتكونَ هذه الفرضيَّة كمرشد له في الدراسة التي يقوم بها، (بدر، 1989م، ص71).
5- إجابةٌ محتملةٌ لأحد أسئلة الدراسة يتمُّ وضعها موضع الاختبار، وذلك كما عرَّفها عودة وملكاوي، (1992م، ص43).
وعموماً تتَّخذ صياغـةُ الفرضيَّة شكلين أساسيَّين:
1- صيغة الإثبات: ويعني ذلك صياغة الفرضيَّة بشكلٍ يثبتُ وجود علاقة سواءٌ أكانت علاقة إيجابيَّة أم كانت علاقة سلبيَّة، مثال: توجد علاقةٌ إيجابيَّة بين وظيفة المدرسة الثانويَّة في بيئتها الخارجيَّة وفي مجتمعها المحيط بها وبين أعداد معلِّميها، أو توجد علاقةٌ سلبيَّة بين وظيفة المدرسة الثانويَّة في بيئتها الخارجيَّة وفي مجتمعها المحيط بها وبين نوعيَّة مبناها.
2- صيغة النفي: ويعني ذلك صياغة الفرضيَّة بشكلٍ ينفي وجود علاقة سواءٌ أكانت علاقة إيجابيَّة أم كانت علاقة سلبيَّة، مثال: لا توجد علاقةٌ إيجابيَّة بين وظيفة المدرسة الثانويَّة في بيئتها الخارجيَّة وفي مجتمعها المحيط بها وبين أعداد معلِّميها، أو لا توجد علاقةٌ سلبيَّة بين وظيفة المدرسة الثانويَّة في بيئتها الخارجيَّة وفي مجتمعها المحيط بها وبين نوعيَّة مبناها.
ومن العسير أن يُرْسَم خطٌّ فاصلٌ بين كلٍّ من الفرضيَّة والنظريَّة، والفرق الأساسيُّ بينهما هو في الدرجة لا في النوع، فالنظريَّة في مراحلها الأولى تسمَّى بالفرضيَّـة، وعند اختبار الفرضيَّة بمزيدٍ من الحقائق بحيث تتلاءم الفرضيَّة معها فإنَّ هذه الفرضيَّة تصبح نظريَّة، أمَّا القانون فهو يمثِّل النظام أو العلاقة الثابتة التي لا تتغيَّر بين ظاهرتين أو أكثر، وهذه العلاقة الثابتة الضروريَّة بين الظواهر تكون تحت ظروف معيَّنة، ومعنى ذلك أنَّ القوانين ليست مطلقة، وإنَّما هي محدودة بالظروف المكانيَّة أو الزمانيَّة أو غير ذلك، كما أنَّ هذه القوانين تقريبيَّة؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على مقدار معرفة الباحثين بالظواهر التي يقومون بدراستها في وقتٍ معيَّن، وبالتالي فمن الممكن أن تستبدل القوانين القديمة بقوانين أخرى جديدة أكثر منها دقَّةً وإحكامَا، (بدر، 1989م، ص71).
أهميَّة الفرضيَّة:
تنبثق أهميَّة الفرضيَّة عن كونها النور الذي يضيء طريقَ الدراسة ويوجِّهها باتِّجاهٍ ثابت وصحيح، (غرايبة وزملاؤه، 1981م، ص23)، فهي تحقِّق الآتي:
1- تحديد مجال الدراسة بشكلٍ دقيق.
2- تنظيم عمليَّة جمع البيانات فتبتعد بالدراسة عن العشوائيَّة بتجميع بيانات غير ضروريَّة وغير مفيدة.
3- تشكيل الإطار المنظِّم لعمليَّة تحليل البيانات وتفسير النتائج.
مصادر الفرضيَّة:
تتعدَّد مصادر الفرضيَّة، فهي تنبعُ من نفس الخلفيَّة التي تتكشَّف عنها المشكلات، (بدر، 1989، ص72)، فقد تخطر على ذهن الباحث فجأة كما لو كانت إلهاماً، وقد تحدث بعد فترة من عدم النشاط تكون بمثابة تخلُّصٍ من تهيؤ عقليٍّ كان عائقاً دون التوصُّل إلى حلِّ المشكلة، ولكنَّ الحلَّ على وجه العموم يأتي بعد مراجعةٍ منظَّمة للأدلَّة في علاقاتها بالمشكلة وبعد نظرٍ مجدٍّ مثابر، (جابر، 1963م، ص ص57-59)، ولعلَّ أهم مصادر الفرضيَّة كما قال بها غرايبة وزملاؤه (1989م، ص23) المصادر الآتيـة:
1- قد تكون الفرضيَّة حدساً أو تخميناً.
2- قد تكون الفرضيَّة نتيجة لتجارب أو ملاحظات شخصيَّة.
3- قد تكون الفرضيَّة استنباطاً من نظريَّاتٍ علميَّة.
4- قد تكون الفرضيَّة مبنيَّة على أساس المنطق.
5- قد تكون الفرضيَّة باستخدام الباحث نتائج دراسات سابقـة.
وتتأثَّر مصادر الفرضيَّات ومنابعها لدى الباحث بمجال تخصُّصه الموضوعيِّ، وبإحاطته بجميع الجوانب النظريَّة لموضوع دراسته، وقد يتأثَّر بعلوم أخرى وبثقافة مجتمعه وبالممارسات العمليَّة لأفراده وبثقافاتهم، وقد يكون خيال الباحث وخبرته مؤثِّراً مهمَاً لفرضيَّاته، ولعلَّ من أهم شروط الفرضيَّات والإرشادات اللازمة لصياغتها، (بدوي، 1977م، ص151)؛ (بدر، 1989م، ص74)؛ (عودة؛ ملكاوي، 1992م، ص43)، هي الشروط والإرشادات الآتية:
1- إيجازها ووضوحها: وذلك بتحديد المفاهيم والمصطلحات التي تتضمَّنها فرضيَّاتُ الدراسة، والتعرُّف على المقاييس والوسائل التي سيستخدمها الباحث للتحقُّق من صحَّتها.
2- شمولها وربطها: أي اعتماد الفرضيَّات على جميع الحقائق الجزئيَّة المتوفِّرة، وأن يكون هناك ارتباطٌ بينها وبين النظريَّات التي سبق الوصول إليها، وأن تفسِّرَ الفرضيَّات أكبر عدد من الظواهر.
3- قابليَّتها للاختبار: فالفرضيَّات الفلسفيَّة والقضايا الأخلاقيَّة والأحكام القِيَمِـيَّة يصعب بل يستحيل اختبارُها في بعض الأحيان.
4- خلوها من التناقض: وهذا الأمر يصدق على ما استقرَّ عليه الباحثُ عند صياغته لفرضيَّاته التي سيختبرها بدراسته وليس على محاولاته الأولى للتفكير في حلِّ مشكلة دراستـه.
5- تعدُّدها: فاعتماد الباحث على مبدأ الفرضيَّات المتعدِّدة يجعله يصل عند اختبارها إلى الحلِّ الأنسب من بينها.
6- عدم تحيُّزها: ويكون ذلك بصياغتها قبل البدء بجمع البيانات لضمان عدم التحيُّز في إجراءات البحث، (عودة؛ ملكاوي، 1992م، ص43).
7- اتِّساقها مع الحقائق والنظريَّات: أي ألا تتعارض مع الحقائق أو النظريَّات التي ثبتت صحَّـتُـها، (فودة؛ عبدالله، 1991م، ص234).
8- اتِّخاذها أساساً علميّاً: أي أن تكون مسبوقة بملاحظة أو تجربة إذْ لا يصحُّ أن تأتي الفرضيَّة من فراغ، (فودة؛ عبدالله، 1991م، ص235).
وغالباً ما يضع الباحث عدَّة فرضيَّات أثناء دراسته حتى يستقرَّ آخر الأمر على إحداها وهي التي يراها مناسبة لشرح جميع البيانات والمعلومات، وهذه الفرضيَّة النهائيَّة تصبح فيما بعد النتيجةَ الرئيسة التي تنتهي إليها الدراسة، (بدر، 1989م، ص72)، علماً أنَّ نتيجة الدراسة شيءٌ يختلف عن توصياتها، فتوصيات الدراسة هي اقتراحات إجرائيَّة يقترحها الباحث مبنيَّة على نتائج الدراسة، وأنَّ الفرضيَّات المرفوضة أو البدايات الفاشلة هي من جوانب الدراسة التي لا يستطيع القارئ أن يطَّلع عليها، فالباحث استبعدها من دراسته نهائيّـاً.
ومن الضروري جدّاً أن يتمَّ تحديد فرضيَّات البحث بشكلٍ دقيق، وأن يتمَّ تعريف المصطلحات الواردة في الفرضيَّات تعريفاً إجرائيّاً، فذلك يسهِّل على الباحث صياغة أسئلة استبانة دراسته أو أسئلة استفتائه أو أسئلة مقابلته للمبحوثين صياغة تمنع اللبسَ أو الغموضَ الذي قد يحيـط ببعض المصطلحات، (غرايبة وزملاؤه، 1981م، ص ص23-24)، فصياغة الفرضيَّة صياغة واضحة تساعد الباحث على تحديد أهداف دراسته تحديداً واضحاً، (فودة؛ عبدالله، 1991م، ص37)، وإذا تعدَّدت الفرضيَّات التي اقترحت كحلولٍ لمشكلة البحث بحيث يكون أحدها أو عدد منها هو الحلُّ فلا بدَّ في هذه الحالة أن يكون اختيار الفرضيَّة التي ستكون هي الحلُّ والتفسير لمشكلة البحث اختياراً موضوعيّاً؛ أي أن يأتي هذا الاختيار عن دراسة وتفهُّم للفرضيَّات جميعها، ثم اختيار فرضيَّة منها على أنَّها هي الأكثر إلحاحاً من غيرها في إيجاد المشكلة، أو في حلِّ المشكلة بحلِّها، (القاضي، 1404هـ، ص51)، وتجب الإشارة إلى أن بعض الأبحاث قد لا تتضمَّن فرضيَّات كالبحث الذي يستخلص مبادئ تربويَّة معيَّنة من القرآن الكريم، (فودة؛ عبدالله، 1991م، ص235)، أو البحث الذي يكتب تاريخ التعليم في منطقة ما، أو الذي يكتب سيرة مربٍّ وتأثيره في مسيرة التربية والتعليم.
سادساً: تصميم البحث
يعدُّ تصميمُ البحث المرحلة الرابعة من مراحل البحث وتشتمل على الخطوات الآتية:
أ - تحديد منهج البحث.
ب- تحديد مصادر بيانات ومعلومات البحث.
جـ- اختيار أداة أو أدوات جمع بيانات البحث.
أ - تحديد منهج البحث:
يقصد بذلك أن يحدِّد الباحث الطريقة التي سوف يسلكها في معالجة موضوع بحثه لإيجاد حلولٍ لمشكلة بحثه، وتسمَّى تلك الطريقة بالمنهج، ولا بدَّ من الإشارة في الجانب النظريِّ والإجرائيِّ من الدراسة إلى المنهج أو المناهج التي يرى الباحثُ أنَّها الأصلح لدراسته، فلا يكفي أن يختارها ويسير في دراسته وفقها دون أن يشير إليها، لذلك يجب عند كتابة منهج البحث أن يراعي الباحث ما يلـي:
1) أن يكون منهج البحث منظَّماً بحيث يتيح لباحث آخر أن يقوم بنفس البحث أو يعيد التجارب ذاتها التي قام عليها منهج البحث.
2) أن يوضِّح الباحثُ للقارئ ما قام به من إجراءات وأعمال ونشاطات ليجيبَ عن التساؤلات التي أثارتها المشكلة موضوع البحث.
والمقصود هنا أن يحدِّد الباحث بدقَّة وموضوعيَّة المشكلة التي قام بدراستها وأن يحدِّد الأساليب والطرق والنشاطات التي اتَّبعها لإيجاد حلولٍ لها بحيث لا يترك لبساً أو غموضاً في أيٍّ من جوانبها؛ وهذا يتطلَّب معرفة الإجراءات التي عملها وقام بها قبل إنجازه بحثه أو دراسته، وهي:
1) تخطيط كامل لما سيقوم به وما يلزمه من أدوات ووقت وجهد.
2) تنفيذ المخطَّط بدقَّة بحسب تنظيمه مع ذكر ما يطرأ عليه من تعديلات بالزيادة أو بالحذف في حين حدوثها.
3) تقويم خطوات التنفيذ بصور مستمرَّة وشاملة حتى يتعرَّف الباحث على ما يتطلَّب تعديلاً دونما أيِّ تأخير أو ضياع للوقت أو الجهد.
وعلى هذا فعليه ألاَّ يحذف الباحث أيَّة تفصيلات مهما كانت غير مهمَّة أو غير لازمة من وجهة نظره، لأنَّ حذفها ربَّما أثَّر على عدم إمكانيَّة باحث آخر بإعادة عمل البحث؛ وهذا يعدُّ من المآخذ التي تؤخذ على البحث وعلى الباحث، (القاضي، 1404هـ، ص52)، فقد أشار إلى ذلك أندرسون Anderson (1971) بقوله: إنَّ ممَّا يدلُّ على أن أفضل الاختبارات التي تستعمل لتقويم أيِّ بحثِ بصورة عامَّة والمنهج المستخدم فيه بصورة خاصَّة هو الاختبار الذي يجيب على السؤال الذي يتساءل عن استطاعة باحث آخر أن يكرِّر عمل البحث الذي قام به الباحث الأوَّل مستعيناً بالمخطَّط الذي وضعه الباحث الأول وما وصفه من طرق اتَّبعها في تطبيقه أم لا، (pp.138-139).
ومن هنا تظهر أهميَّة الاهتمام بمنهج البحث المتبَّع من قبل الباحث إذْ لا بدَّ من شرحه الكيفيَّةَ التي يطبِّق بها منهج دراسته فيصف أموراً، (محمود، 1972م، ص71) منها الآتي:
1) تعميم نتائج بحثـه.
2) المنطق الذي على أساسه يربط بين المادة التجريبيَّة والقضايا النظريَّة.
3) أفراد التجربة أو مفردات مجتمع البحث.
4) العيِّنة في نوعها ونسبتها وأساليب اختيارها وضبطها.
5) وسائل القياس المستخدمة في البحث.
6) أدوات البحث الأخرى.
7) الأجهزة المستخدمة في البحث.
وعموماً إنَّ وصف تلك الأمور يساعد الباحثين الآخرين على تتبُّع طريق الباحث الأول وتفهُّم ما يرمي إليه وما يتحقَّق لديه من نتائج وما صادفه من عقبات ومشكلات وكيفيَّة تذليلها من قبله، (القاضي، 1404هـ، ص53).
مناهج البحث:
استخدم الإنسان منذ القدم في تفكيره منهجين عقليَّين، هما:
1- التفكير القياسيُّ:
ويسمَّى أحياناً بالتفكير الاستنباطيِّ، استخدم الإنسان هذا المنهج ليتحقَّقَ من صدق معرفة جديدة بقياسها على معرفةٍ سابقة، وذلك من خلال افتراضِ صحَّة المعرفة السابقة، فإيجاد علاقة بين معرفةٍ قديمة ومعرفةٍ جديدة تُسْتَخْدَمُ قنطرةً في عمليَّة القياس، فالمعرفـةُ السابقة تسمَّى مقدّمة والمعرفة اللاحقة تسمَّى نتيجة، وهكذا فإنَّ صحَّة النتائج تستلزم بالضرورة صحَّة المقدِّمات، فالتفكير القياسيُّ منهج قديم استخدمه الإنسان ولا يزال يستخدمه في حلِّ مشكلاته اليوميَّة.
2- التفكير الاستقرائيُّ:
استخدم الإنسان أيضاً هذا المنهجَ ليتحقَّق من صدق المعرفة الجزئيَّة بالاعتماد على الملاحظة والتجربة الحسيَّة، فنتيجةً لتكرار حصول الإنسان على نفس النتائج فإنَّه يعمد إلى تكوين تعميمات ونتائج عامَّة، فإذا استطاع الإنسان أن يحصرَ كلَّ الحالات الفرديَّة في فئة معيَّنة ويتحقَّق من صحَّتها بالخبرة المباشرة عن طريق الحواس فإنَّه يكون قد قام باستقراءٍ تامٍّ وحصل على معرفة يقينيَّة يستطيع تعميمها دون شكٍّ إلاَّ أنَّه في العادة لا يستطيع ذلك بل يكتفي بملاحظة عددٍ من الحالات على شكل عيِّنة ممثِّلة ويستخلص منها نتيجةً عامَّة يفترض انطباقها على بقيَّة الحالات المشابهة وهذا هو الاستقراء الناقص الذي يؤدِّي إلى حصوله على معرفةٍ احتماليَّة، وهي ما يقبلها الباحثون على أنَّها تقريب للواقع، (عودة؛ ملكاوي، 1992م، ص ص11-12).
ويرى وتني Whitney أنَّ المنهج يرتبط بالعمليَّات العقليَّة نفسها اللازمة من أجل حلِّ مشكلة من المشكلات، وهذه العمليَّات تتضمَّن وصف الظاهرة أو الظواهر المتعلِّقة بحلِّ المشكلة بما يشمله هذا الوصف من المقارنة والتحليل والتفسير للبيانات والمعلومات المتوفِّرة، كما ينبغي التعرُّفُ على المراحل التاريخيَّة للظاهرة، والتنبؤ بما يمكن أن تكون عليه الظاهرة في المستقبل، وقد يستعين الباحث بالتجربة لضبط المتغيِّرات المتباينة، كما ينبغي أن تكون هناك تعميمات فلسفيَّة ذات طبيعة كليَّة ودراسات للخلق الإبداعيِّ للإنسان؛ وذلك حتى تكون دراسة المشكلة بشكل شامل وكامل، وتكون النتائج أقرب ما تكون إلى الصحَّة والثقة، ذكر في: (بدر، 1989م، ص181)، فإذا كان منهج البحث بوصفه السابق وبمعناه الاصطلاحيِّ المستعمل اليوم هو أنَّه الطريق المؤدِّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامَّة التي تهيمن على سير العقل وتحدِّد عمليَّاته حتى يصلَ إلى نتيجة معلومة، فإنَّ المنهج بحسب هذا المفهوم قد يكون مرسوماً من قبل بطريق تأمُّليَّة مقصودة، وقد يكون نوعاً من السير الطبيعيِّ للعقل لم تحدَّد أصوله سابقاً، ذلك أنَّ الإنسان في تفكيره إذا نظَّم أفكاره ورتَّبها فيما بينها حتى تتأدَّى إلى المطلوب على أيسر وجه وأحسنه على نحوٍ طبيعيٍّ تلقائيٍّ ليس فيه تحديد ولا تأمُّل قواعد معلومة من قبل فإنَّه في هذا سار وفق المنهج التلقائيِّ، أما إذا سار الباحث على منهج قد حدِّدت قواعده وسنَّت قوانينُه لتتبيَّن منها أوجهُ الخطأ والانحراف من أوجه الصواب والاستقامة، فإنَّ هذا المنهج بقواعده العامَّة الكليَّة يسمِّى بالمنهج العقليِّ التأمُّليّ، (بدوي، 1977م، ص ص5-6).
وعموماً تتعدَّد أنواع المناهج تعدُّداً جعل المشتغلين بمناهج البحث يختلفون في تصنيفاتهم لها، فيتبنَّى بعضهم مناهج نموذجيَّة رئيسة ويعدُّ المناهج الأخرى جزئيَّة متفرِّعة منها، فيما يعدُّ هؤلاء أو غيرهم بعض المناهج مجرد أدوات أو أنواع للبحث وليست مناهج، (بدر، 1989م، ص181)، ومن أبرز مناهج البحث العلميِّ كما أشار إليها بدر (1989م) بعد استعراضه لتصنيفات عدد من المؤلِّفين والباحثين المنهجُ الوثائقيُّ أو التاريخيُّ، المنهجُ التجريبيُّ، المسحُ، دراسةُ الحالة، والمنهجُ الإحصائيُّ. (ص186)
فيما صنَّف وتني Whitney، مناهج البحث إلى ثلاثة مناهج رئيسة، هي:
1- المنهج الوصفيُّ: وينقسم إلى البحوث المسحيَّة والبحوث الوصفيَّة طويلة الأجل وبحوث دراسة الحالة، وبحوث تحليل العمل والنشاط والبحث المكتبيِّ والوثائقيِّ.
2- المنهج التاريخيُّ: وهذا المنهج يعتمد على الوثائق ونقدها وتحديد الحقائق التاريخيَّة، ومن بعد مرحلة التحليل هذه تأتي مرحلة التركيب حيث يتمُّ التأليف بين الحقائق وتفسيرها؛ وذلك من أجل فهم الماضي ومحاولة فهم الحاضر على ضوء الأحداث والتطوُّرات الماضيـة.
3- المنهج التجريبيُّ: وينقسم إلى: المنهج الفلسفيِّ الهادف إلى نقد الخبرة البشريَّة من ناحية الإجراءات المتَّبعة في الوصول إليها وفي مضمون الخبرة أيضاً، والمنهج التنبؤيِّ الساعي إلى الكشف عن الطريقة التي تسلكها أو تتَّبعها متغيِّراتٌ معيَّنة في المستقبل، والمنهج الاجتماعيِّ الهادف إلى دراسة حالات من العلاقات البشريَّة المحدَّدة كما يرتبط بتطوُّر الجماعات البشريَّة، ذكر في: (محمَّد الهادي، 1995م، ص ص98-100).
والتربية تستفيد في دراساتها من تلك المناهج الرئيسة وتستخدم مناهج َمتفرِّعة منها وتصبغ بعضها بصبغة تربويَّة تكاد تجعلها قاصرةً على موضوعاتها، وسترد إشارةٌ إليها لاحقَا، ولا يقف الباحثون في التربية الإسلاميَّة عند تصنيفات الكتب المتخصِّصة في طرق البحث في ميدان التربية وعلم النفس عند الطرق السابقة بل يتعدَّونها ليضيفوا الطريقةَ الاستنباطيَّة، تلك الطريقة التي كانت أسلوب البحث في استنباط الأحكام الفقهيَّة لدى الفقهاء المسلمين، (فودة؛ عبدالله، 1991م، ص41).
اختبار الفرضيَّات واستخدام مناهج البحث:
إنَّ ما يهمُّ الباحثين في دراساتهم هو عمليَّات اختبار فرضيَّاتهم، وهي ما تركِّز عليها طرق ومناهج البحث، فالطرق والمناهج المستخدمة في حلِّ مشكلات البحوث ذات أهميَّة بالغة؛ لأنَّ استخدام المناهج الخاطئة لا توصِّل الباحث إلى حلٍّ صحيح إلاَّ بالمصادفة، وعلى ذلك فإنَّ الباحثَ يجب أن يتقن المناهج التي ثبت نجاحها في مجاله العلميِّ، وأن يكتسب مهارةَ استخدامها بالممارسة العمليَّة بالدرجة الأولى، واختيار المناهج الصحيحة يعتمد على طبيعة مشكلة الدراسة نفسها؛ ذلك أن المشكلات المختلفة لا يتمُّ حلُّها بنفس الطريقة، كما أنَّ البيانات المطلوبة للمعاونة في الحلِّ تختلف بالنسبة لهذه المشكلات أيضاً، ونتيجة لذلك فينبغي قبل اختيار المنهج البحثيِّ الصحيح أن يدرس الباحث مشكلة دراسته في ضوء خواصِّها المميِّزة والبيانات والمعلومات المتوفِّرة، (بدر، 1989م، ص188).
ومناهج البحث باعتبارها لازمة لاختبار الفرضيَّات تتضمَّن الخطوات الرئيسة التالية:
1) تحديد وتعيين مكان البيانات والمعلومات الضروريَّة وتجميعها فهي تشكِّل الأساس لأيِّ حلٍّ لمشكلة الدراسة.
2) تحليل وتصنيف البيانات والمعلومات المجموعة وذلك للوصول إلى فرضٍ مبدئيٍّ يمكن اختباره والتحقُّق من صحَّته أو من خطئه.
وتنبغي الإشارة إلى أنَّه من المرغوب فيه في أي دراسة استخدام منهجين أو أكثر من مناهج البحث لحلِّ مشكلة الدراسة، فليس هناك من سبب يحول بين الباحث ومحاولة الوصول إلى حلِّ مشكلة دراسته بدراسة تاريخها عن طريق فحص الوثائق وهو ما يعرف بالمنهج الوثائقيِّ أو التاريخيِّ ثمَّ تحديد وضع المشكلة في الحاضر بنوع من المسح وهو ما يعرف بالمنهج الوصفيِّ، (بدر، 1989م، ص189).
وعموماً يجب التأكيد على مبدأ معيَّن وهو أنَّ الفرضيَّات لا يتمُّ اختبارُها والمشكلات البحثيَّة لا تتمُّ حلولُها بمجرد ومضات البداهة برغم أهميَّتها وقيمتها، ولا بمجرد الخبرة، وبمعاملتها بالمنطق والقياس وحدهما، فمشكلات البحث تتطلَّب اتِّباع مناهج للدراسة يتمُّ التخطيط لها بعناية لتحاشي أخطاء التقدير أو التحيُّز أو غير ذلك من الأخطاء، وحتى يـبنى البحثُ على أساس متين من الدليل المقبول الذي يخدم النتائج التي ينتظر الوصول إليها، (بدر، 1989م، ص ص189-190)، لذلك يجب أن يكونَ المنهجُ الذي يختاره الباحثُ كامل الوضوح في ذهنه، وأن يكونَ ذلك المنهج محدَّداً في تفاصيله بحيث يكون الباحث مستعدّاً لشرح خطواته في سهولة ووضوح، فإذا لم يستطع الباحث ذلك فإنَّ ذلك يعني غموض خطَّته ومنهجه في ذهنه؛ وهذا يعني أنَّ وصوله إلى نتائج مُرْضِيَةٍ أمرٌ بعيد الاحتمال.
يتبع >