4-الطريق الثالث بين الاشتراكية والديمقراطية:
لاشك أن بلوغ الحد الأقصى في الطرح الاشتراكي أدى إلى ما أدى إليه من سلبيات حتى ضياع النموذج الكبير للاشتراكية الماركسية في الاتحاد السوفيتي ، كما ان بلوغ الحد الأقصى في الديمقراطية الليبرالية قاد إلى العديد من السلبيات على الواقع التطبيقي حتى في الولايات المتحدة الأمريكية ، من هنا كان إعادة طرح نموذج جديد دعي الطريق الثالث علما ان هذا النموذج كان مطروحا منذ عام 1936 وكان يوصف بأنه(أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي ) ويقول عنه أحد الكتاب بأن له جاذبية تنبع من كونه لا يتبنى السقف الأعلى او الحد الأقصى لكل نظرية أي انه جسر بين الأيدلوجيات ، وقد صدر كتاب جديد عن هذا الطريق عام 2001 للكاتبة غادة موسى بعنوان –الطريق الثالث …تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية-استعرضت فيه إيجابيات وسلبيات هذا الطريق ومما جاء في كتابها :انه على الرغم من ان الاشتراكية الثورية لم تحظ بأي قبول داخل الولايات المتحدة فان القيم والمثل الاشتراكية –خاصة قيمة العدل الاجتماعي-تغلغلت بشكل قوي في توجهات الديمقراطيين الليبراليين واليساريين على حد سواء ، كما لا يخفي على معظم المفكرين حقيقة إصابة المجتمعات الأوربية والمجتمع الأمريكي بخسائر من جراء تطبيق الأفكار الليبرالية المحضة ، وبغض النظر عن النتائج المؤسفة من جراء تطبيق القيم الاشتراكية في ظل المركزية الشيوعية فإنها تظل لها جاذبيتها في وجدان الأغلبية المستضعفة ، وترجع الكاتبة أسباب طرح مفهوم الطريق الثالث مجددا اليوم إلى عدة عوامل وظروف دولية ومحلية أبرزها ما يلي :
1- سقوط القطبية الثنائية بتهاوي الاتحاد السوفيتي وسيادة الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمي متجاوزة الأطراف الأخرى ليس فقط الدول النامية ولكن بعض الدول الأوربية كذلك .
2- الوعي بخطورة سياسات الجات على الدول النامية والدول الصناعية خاصة الآسيوية ، وسعي بعض الدول الأوربية لتفادي كارثة دولية تتمثل في صراع قد ينشب بين الشمال الغني والجنوب الفقير وذلك بمحاولة إيجاد حوار بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة لعلاج المشاكل التي تواجه الجميع في عالم واحد وهو ما جسدته الأحداث الأخيرة في سياتل عام 2000وغيرها .
3- ظاهرة الدمج بين الشركات العملاقة والوحدات الكبيرة على حساب الأسواق المحلية والشعور بالحاجة إلى دولة قوية ومجتمع قوي في آن واحد ، أي صيغة جديدة لعلاقة شراكة وليس تنافس بين الدولة وقوى المجتمع .
4- انحسار دور دول عدم الانحياز وتضاؤل الفكرة ذاتها وانكماش مجموعة ال 77 بحيث اقتصرت مؤخرا على خمسة عشر دولة تمثل ثلاث قارات –آسيا- إفريقيا -أمريكا اللاتينية-واخفقت تلك الدول في عرض مطالبها في مفاوضات الجات ، كما ان بعض الدول النامية كان الغبن عليها كبيرا ، إذ لم تجد من يمثلها التمثيل الذي يحقق مطالبها في مواجهة الدول المتقدمة لذلك فقد تولدت لدى هذه الدول الحاجة لتبني مبدأ يتجاوز سلبيات التخطيط المركزي ومساوئ الرأسمالية وأثرهما على الطبقات الفقيرة تحديدا .
بعد ذلك تتعرض الكاتبة إلى مظاهر صعود الطريق الثالث حتى في الحركات الاشتراكية الديمقراطية في أوربا وكذلك في أدبيات وخطابات الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية سواء في ألمانيا –الأحزاب المسيحية –او في إيطاليا في الفاتيكان وتعزي ذلك الصعود إلى وجود اهتمام لدى هذه الأحزاب الدينية للتقليل من حدة آثار الرأسمالية الشرسة ، كذلك نجد أيضا ان معظم أحزاب يمين الوسط قد تبنت تصورا للرفاهية الحديثة في مقابل مصالحة الأحزاب السياسية الأخرى مع الرأسمالية والسوق الحر ،وتقول الكاتبة ( يجد المتأمل للساحة الأوربية ان معظم الأحزاب السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم حاليا هي أحزاب يسارية ترفع شعار الاشتراكية الديمقراطية وضرورة التغير المستمر بشكل سلمي بدءا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا مرورا بالحزب الاشتراكي في فرنسا ثم حزب العمال في إنجلترا –العمال الجديد كما يقول بلير-وهي يسارية جديدة تتخلى عن الدوجماتية وتطور رؤاها بما يتفق مع الطريق الثالث وتقدم اطروحات هامة في مجال المرأة ومجال البيئة ،ومع قوة المجتمع المدني في هذه الدول واتساع هامش الحريات وحرية الصحافة أوصل الناخبون غير الموالين لأي أيدلوجية هذه الأحزاب التي يطلق عليها –الوسط الجديد- والتي تعتنق الفكر الاشتراكي الديمقراطي الى مقاعد البرلمان بأغلبية لافتة ، فبالنسبة لرجل الشارع فان هذا الطريق هو الذي يطبق –حسب تعبير المستشار الخاص لشرودر – مبدأ المساواة في البداية والمساواة في النهاية ، أي المساواة في الفرص وفي الدخل حتى وان كان ذلك حلما يسعى الجميع إلى تحقيقه ).
ان مفهوم الطريق الثالث هذا يطلق عليه –اقتصاد بلا أيدلوجية-لأنه يسعى لتحقيق غايات أساسية منها :
1- وضع اقتصاد بعض الدول على المسار الصحيح من حيث تغليب الصالح الاقتصادي الوطني بعيدا عن الارتباط بأيدلوجية بعينها ،أي تحرير الاقتصاد من الأيدلوجيا وهو ما رآه المعارضون تحريرا في ظل السيادة الرأسمالية الشرسة بما يعني الوقوع الحتمي في براثنها.
2- تمكين بعض الدول الآخذة في النمو من الفرص التي يتيحها هذا الأسلوب كأسلوب بديل في ظل الأحادية الموجودة والرأسمالية الطاغية .
3- اتباع نهج اقتصادي واجتماعي يمكن من مواجهة المثيرات السلبية للاحا دية السياسية والاقتصادية للحصول على حد أدنى من المكاسب الديمقراطية في الواقع الاستبدادي .
4- تعظيم درجة تخصيص الموارد وخاصة الناجمة عن الخصخصة لصالح البعد الاجتماعي من جهة وأيضا تعظيم زيادة قاعدة التملك للطبقات العاملة ومحدودة الدخل في الوحدات التي تتم خصخصتها –وهو ما يثور الخلاف بشأن إمكانية تحققه في ظل سياسات التكليف الهيكلي التي يديرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي - .
5- تبني المبادئ التي تنادي بان دور الدولة يجب ان يوجه أساسا لخدمة الأهداف الاجتماعية جنبا إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية أي وضع الدول أمام مسؤولياته في الرفاهية الواجبة تجاه مواطنيها .ان تقويم مرحلة التقدم في هذا الجانب جعل الكاتبة تضع الدول الأوربية في المقام الأول وعلى رأسها الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وفرنسا التي تحاول إيجاد الحلول اللازمة للتقدم على هذا الطريق وفيما يراه بعض المراقبين محاولة من الأنظمة الرأسمالية لتطوير نفسها وسد فجوات التطبيق وثغراته والطريق الثالث عند هذه الدول يعد مقياسا يتم به قياس مدى نجاحها في المواءمة بين متطلبات الاقتصاد والحد من تنافس ومبادرة وحريات فردية ومتطلبات الرفاهة الاجتماعية من خدمات وتعليم وصحة وتأمين اجتماعي واعانة المسنين والمتبطلين .
أما سبب هذا فيعود إلى ان هذه الدول وجدت نفسها في مأزق حقيقي ، فهي مازالت عاجزة عن الحفاظ على معدل إنتاج ملائم ،وفي الوقت نفسه خلق فرص عمل جديدة وأيضا تدبير نفقات تمويل الخدمات الاجتماعية خاصة للذين لا يشاركون في سوق العمل مما شكل عبءا كبيرا على كاهلها ، وتبرز هذه الأزمة في دول مثل فرنسا وألمانيا أخذا بالاعتبار هبوط الميزان الديموغرافي لصالح من هم فوق 65 سنة والمهاجرين الذين لا يجدون فرصة عمل مناسبة ويدخلون في البطالة .
لاشك ان هذا المفهوم جديد على الساحة وبالتالي فالاختلاف قائم حول طريقة الوصول إليه فهو بحاجة إلى مهلة زمنية حتى يتم تفصيله وحتى يمكن تطبيق مبادئه بشكل براجماتي لخدمة مصالح الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل ليس فقط في دول العالم المتقدم بل أيضا في دول العالم النامي فالوسط الجديد يحتاج الى دولة ولكن أي شكل من أشكال الدولة؟
هناك من يراها الدولة التي تتبنى النهج الاشتراكي الديمقراطي وتؤمن بالمنافسة العالمية لان المعلومات في مجال التكنولوجيا كما أنها تؤمن بالابتكار وتحد من سطوة جهازها البيروقراطي وتلجأ إلى حلول مبتكرة فإنها تستلهم من قوى المجتمع المختلفة للتوفيق بين الحاجات المتصارعة ،ولا يمكن القول ان هذه الأمنيات سوف تتحقق بمعزل عن مشاركة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية فالأحزاب السياسية يجب في المرحة القادمة ان تعكس مصالح الطبقة الوسطى وان تتبين برامج براجماتية وتطور قدرات بحيث تجتذب الأجيال الشابة ، كما ان على الدولة القيام بوضع سياسات عملية تطرح حلولا جديدة مثل تحرير سياسة العمل لتسمح بالعمل الجزئي او الموسمي أو العمل المنزلي ومشاركة صاحب العمل في أعباء الضمانات الاجتماعية وان تزيد من مسئوليتها في مجال إعادة التدريب والتعليم ولكن على الجانب الآخر يرى بعض الاقتصاديين ان الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة يتمثل في رفع يد الدولة عن الاقتصاد حتى تتمكن من تمويل نفقاتها الاجتماعية بعبارة أخرى ان تقوم الدولة باتخاذ بعض الإجراءات الليبرالية الجديدة للخروج من هذه الأزمة وتتمثل هذه الإجراءات في الآتي :
تحرير المشروعات الخاصة من أية قيود تفرضها الحكومات بغض النظر عن الآثار الاجتماعية التي ستنجم عن ذلك –مزيد من الانفتاح على التجارة والاستثمار العالميين –حرية كاملة لحركة رأس المال والسلع والخدمات –تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية ولا تشمل تلك الخدمات فقط خدمات الصحة والتعليم بل تمتد إلى أدوار الدولة الأساسية في الحفاظ على الأمن وتعبيد الطرق والإمداد بالمياه وهي الأدوار التي ظلت تلازم الدولة حتى في ظل سيادة مفهوم العولمة –إلغاء مفهوم الخدمة العامة او الخدمة الاجتماعية واحلال محله مفهوم المسؤولية الفردية وذلك من خلال الضغوط على الطبقات الدنيا لتبحث عن حلولها لمشاكلها التعليمية والصحية وتأمين نفسها بعيدا عن موارد الدولة.
يتضح مما سبق ان هذه الليبرالية الجديدة وان كان أنصارها يدعون انها على المدى الطويل تخدم فكرة تطبيق الطريق الثالث او الاشتراكية الديمقراطية في تدبيرها التمويل اللازم لنفقات الدولة الاجتماعية فإنها تعبر عن ضغط من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي ،هذه الليبرالية الجديدة ظهرت آثارها واضحة في الضغط الذي مورس على دول مثل شيلي والمكسيك من اجل خفض أجور العمال بمعدلات تتراوح بين 40-5% في الوقت الذي زادت فيه تكلفة المعيشة بمعدل 80% ونتج عن ذلك إفلاس اكثر من عشرين ألف مشروع صغير ومتوسط ، بل حتى في الولايات المتحدة تضغط الشركات متعددة الجنسيات مستهدفة الحد من الإنفاق على برامج الرفاهية الاجتماعية والهجوم على حقوق العمال ويخشى الشعب الأمريكي ان يكون العقد الاجتماعي للجمهوريين في الألفية الثالثة هو ليبرالية محضة ،فالليبراليون الجدد يبذلون مجهودا كبيرا للحد من برامج الحماية الاجتماعية للأطفال وللمسنين والمتبطلين أي المعاناة إلى ما لا نهاية .
أما قصة الطريق الثالث مع الدول النامية فتشرحه الكاتبة بقولها بان هذه الدول تعيش مأزقا منذ نصف قرن يظهر بعدم قدرتها على استلهام نموذج سياسي اقتصادي يلائم ظروفها وطبيعتها مع ثبوت فشلها في تبني سياسات اشتراكية ماركسية وليبرالية ديمقراطية لغياب العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ أي من هاتين النظريتين ،
لقد بدأت الدول النامية خطواتها الأولى نحو الانفتاح على السوق العالمية وتحرير اقتصادها وخصخصة مشاريعها خاصة عقب انهيار النظام الاشتراكي وفقدانها الحماس للأفكار والقيم الاشتراكية ، وفي الوقت الذي تحاول فيه ان تلعب دورا في الاقتصاد العالمي وان تشارك في فعالياته نجدها تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي وتوفير الخدمات الاجتماعية في حدودها الدنيا ،أي الحفاظ على دولة الرفاهة مع عدم التخلف عن الركب العالمي ، فمن الناحية النظرية يبدو هذا الطريق الثالث مجديا لهذه الدول محققا لآمالها وطموحاتها دون الالتزام بالانحياز لأي فكر او أيدلوجية ما .أما من الناحية البراجماتية –النفعية- فان هذه الفكرة قد يصعب تحقيقها دون مشاركة مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل اكبر لدور الأحزاب السياسية واحياء الطبقة الوسطى بحيث تعبر الأحزاب عن احتياجاتها وفكرها دون الضغط على موازنة الدولة او جرها للعب الدور الرئيس المركزي والحاكم في الاقتصاد الوطني مرة أخرى ،وفي الوقت ذاته دون دفعها الى مزيد من الاقتراض بحيث تصبح مثقلة بالديون ومطالبة بسداد فوائدها المرتفعة عن طريق الاستقطاع مرة أخرى من نفقات دولة الرفاهة .فكيف هي صورة تحديات الديمقراطية في هذه الدول المتنوعة المختلفة والتي بدأت تتجاوز كل السياقات الديمقراطية في الغرب إلى تكيفات وابتكارات تناسب مجتمعاتها ودرجة تطورها وطابعها العشائري والعرقي والاثني والديني …الخ .
ثانيا-مستقبل الديمقراطية في العالم الثالث :
اذا كانت الديمقراطية في الغرب المتقدم قد توصلت إلى بحث المستقبل لها على ضوء معطيات العولمة والمعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة حتى أطلق مصطلح النتوقراطية على المفهوم الذي قد ينبع واقعه من علاقة المعلوماتية ووسائل الاتصال الذي قمته في الإنترنت ومن ثم وجدت تأزمات جديدة على المستوى التنظيري لهذه الديمقراطية وخاصة في علاقتها بالليبرالية والمجتمع المدني ، إلا ان الواقع في العالم الثالث الذي بدأ يتحول الى الديمقراطية في التسعينات عكس تحديات كبرى أمام الديمقراطية في المجال الميداني ،.
لقد كان المؤتمر الدولي لأساتذة أكاديمية سلام العالم المنعقد في لندن عام 1989قد حدد بعض تحديات الديمقراطية الليبرالية في ظروفها الجديدة فأشار إلى ان ( الديمقراطية الليبرالية تنمو نموا بطيئا معتمدة على قبولها لأفكار وعواطف وعادات معينة وعلى وجود ممارسات اقتصادية وسياسية يتطلب تأسيسها الكثير من الوقت وربما قرون وكذلك وجود ظروف خارجية مناسبة حتى تكون بعيدة عن الانحلال والانهيار –السلوك الحضاري والمواطنة ص 9) بل كان نفس المؤتمر قد تحسس إشكاليات الممارسة الديمقراطية اذا لم تكن في الإطار الليبرالي وخاصة في مجال احتمال استبداد الأغلبية فأكد على انه ( على الرغم من ان معنى الديمقراطية هو حكم الشعب أي انه لا يجب ان يكون هناك طغيان واستبداد ولكن الواقع والتاريخ يؤكد وجود طغيان أغلبية على أقلية ، فلا يكفي اذن القول بالديمقراطية للتخلص من الطغيان وانما يجب ان تتمتع هذه الديمقراطية بالمحافظة على حقوق معينة للأفراد ومن هنا كانت ضرورة الليبرالية للديمقراطية حيث تجعل هذه الليبرالية مجالا خاصا لا تتدخل فيه السلطة الحاكمة مهما كان حجم الأغلبية خلفها –ن م ص10)
وهكذا وجدنا التأكيد في الديمقراطية الليبرالية على ضرورة حماية المجال الخاص فوق كل شيء أي ان الرأي العام فيها لا يسمح لأي إيمان او ارتباط سواء كان دينيا او أيدلوجية او قبلية او عرقية ان تكون له الأسبقية على حماية الحقوق الفردية ، فالحقوق الفردية هنا تتقدم على الأغلبية المقدسة وقد تكون هذه الحقوق الفردية هجومية على نحو سافر على اغلب أعضاء المجتمع .
وهكذا كان تقييد الديمقراطية الليبرالية الغربية الحكومة على رغم أغلبيتها الديمقراطية ، وهذا ما وجدناه محددا في حال قولها ( يحمي المجتمع الديمقراطي الليبرالي الأفراد والاقليات من سلطة الأغلبية الحاكمة التي قد تكون طاغية حينما تغلب الديمقراطية على الليبرالية ، من هنا فان على سلطات الأغلبية ان تكون محدودة في مجتمع ديمقراطي ليبرالي ، فهناك بعض الأمور التي لا يمكن ان يسمح للأغلبية ان تفعلها ن م ص 59).
وهكذا وجدنا الديمقراطية الليبرالية تعترف بان سلطة الحكومة هي اعظم تهديد على نحو غير محتمل دائما وبالفعل غالبا على حقوق الفرد ، وسر تأمين حقوق الأفراد يكون بحرمان الحكومة من سلطة التدخل في العالم الخاص ، وتؤكد ان بعض الأمور ليست من عمل الحكومة ويجب ان تجبر الحكومة على ان تبقى أيديها مرفوعة عنها ، والأمور التي هي من عمل الحكومة هي في العالم العام والأمور الباقية هي من العالم الخاص عالم الحرية الشخصية ،بل ان الديمقراطية الليبرالية اعتبرت المبدأ الأول لمجتمعاتها هو تأكيد وجود حقوق شخص بشري كصفة أساسية ، وتسلسل التفكير المنطقي ينطلق من نقطة البداية تلك ، فحماية الحقوق تتطلب وجود مجتمع حكومة لكن ولأن الحكومة غير مقيدة تفرض تهديدا لتأمين الحقوق فلا بد ان تقتصر سلطات الحكومة على ما هو ضروري لحماية الحقوق على الأقل على ما يهدد الحقوق ص50)
وتصل المفاهيم الديمقراطية الليبرالية هذه الى حد القول ( ان عدد الدول الديمقراطية جدا والليبرالية جدا قليل جدا ،فأكثرها ليبرالية هي التي يتمسك بها بالمواطنة التي تمارس على نطاق واسع ،أي ان فيها دستور مكتوب او غير مكتوب يحدد المجال الذي لا يمكن للحكومة ان تتجاوزه دون ان تنتهك المجال الفردي ، وهذا ما يفترض وجود مؤسسات وقوانين ومحاكم وشرطة قادرة على اكتشاف متى تكون الحقوق قد انتهكت وتضع حدا لانتهاكها .
إذن فالخوف من الاستبداد والطغيان للحكومة او للأغلبية خوف حقيقي عالجته الديمقراطية بالليبرالية من خلال مزيد من التحصن في القوانين المحافظة على الحقوق الفردية للمواطن ، كما ان بعض ممارسات الفدرالية واللامركزية وتفويض السلطة إلى المجتمعات الأصغر خفف من غلواء الديمقراطية وحدها .والخطر الثاني الذي نبهت عليه الديمقراطية الليبرالية هو ما تطرحه الديمقراطية من بعد اقتصادي معين لكي تحافظ على الكرامة المعنوية للإنسان من خلال تحديد مستوى الدخل الفردي الأقل الذي يجب ان يقف عند تحقيق الحاجات الاقتصادية الأساسية للفرد ويعبر عن هذه الحالة بالقول ( ان المجتمع الليبرالي الديمقراطي هو مجتمع وعي ذاتي جماعي شامل ، وهذا الوعي الذاتي الجماعي يحدد حدوداً للكرامة الإنسانية بحيث يكون الحد الأدنى من الدخل مثلاً مرتفعاً إلى حد يسمح لقطاعات هذا الدخل ان تتمتع بالكرامة المعنوية ، وبعد هذا الدخل المحترم للكرامة المعنوية يسمح بتفاوت الدخول وفروقاتها جميعاً )
__________________