المطلب الثاني
الولايات المتحدة الأمريكية
تعد آراء توماس جفرسون الأساس الفكري للديمقراطية في أمريكا فالديمقراطية عند جفرسون عبارة عن وسيلة لبلوغ غاية تتمثل في حرية الإنسان، ويمكن الإشارة إلى بعض الشرعات وإعلانات الحقوق الأمريكية للتعرف على مضامينها وهي:
الفرع الأول-
دستور أو شرعة فرجينيا
يكتسب هذا الدستور الصادر بتاريخ 12 حزيران 1776 أهمية خاصة في ميدان الحقوق الفردية فهو أول دستور تضمن اعلاناً معتبراً لحقوق الإنسان إذ تضمنت نصوصه تعداداً لغالبية الحقوق الفردية التي أقرت بها مدرسة الحقوق الطبيعية حيث يشير إلى (ان الأفراد بحسب الطبيعة، متساوون في الحرية والاستقلال، ولهم حقوق معينة لصيقة بهم لا يملكون عند دخولهم إلى حالة الاجتماع ان يحرموا بأية صورة من صور العقود ومن هذه الحقوق على الأخص الاستفادة من الحياة والحرية ووسائل اكتساب الملكية وكذلك تقصي السعادة والأمن والحصول عليهما) كما أشار هذا الدستور إلى ان الشعب مصدر السلطات، وعلى حرية الانتخابات، وعلى ضرورة ان تتم المحاكمة أمام قاضٍ حسن النية، وعلى حرية الصحافة، وعلى عدم جواز حرمان الفرد من حريته أو حياته إلا طبقاً للقانون وبعد محاكمة يتوافر فيها عنصر المحلفين، وعلى حرية كل فرد في التعبير عن آرائه على ان يتحمل مسؤولية إساءة هذه الحرية.
والحقيقة ان دستور فرجينيا قد عد النموذج الذي سارت عليه الدويلات الأمريكية الأخرى التي تضمنت دساتيرها نصوصاً مماثلة.(76)
الفرع الثاني-
إعلان الاستقلال 1776
جاء هذا الإعلان بعد الثورة الأمريكية حيث عهد الكونغرس بوضعه إلى لجنة مكونة من خمسة أشخاص بينهم جون آدمز وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون الذي كان له الأثر الكبير في وضع هذا الإعلان، ومن قراءة الإعلان يلاحظ انه مليء بالأفكار المعبرة عن نظرية الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي إذ قرر المساواة والإقرار بفكرة وجود حقوق غير قابلة للتخلي عنها في الحياة والحرية فضلاً عن تثبيت الحق للمحكومين في مقاومة الطغيان.(77)
إذ ان إعلان الاستقلال قد بيّن الأسباب التي دعت الشعب الأمريكي إلى الثورة مع التصريح بحقوقه السياسية المقدسة.(78)
فقد ورد في ديباجة الإعلان (اننا نعتبر الحقائق الآتية أمراً واضحاً من تلقاء نفسه، فان الناس كافة قد خلقوا متساوين، وان الخالق قد حباهم بحقوق مؤكدة غير قابلة للتخلي عنها، ومن ضمن هذه الحقوق، الحياة والحرية وتقصي السعادة، ولضمان هذه الحقوق شيدت الحكومات التي تستمد سلطتها المشروعة من رضاء المحكومين، فإذا أصبحت حكومة ما، مهما كان الشكل الذي تتخذه، هدامة لتلك الأغراض كان من حق الشعب ان يعدلها أو يلغيها، وان يقيم محلها حكومة جديدة.(79)
الفرع الثالث-
السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية
يمكن إجمال السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية ودساتير الولايات التي صدرت بعد نجاح الثورة الأمريكية بالآتي:
1. تمثل الدساتير الأمريكية الحالة الأولى التي عرف فيها التاريخ الدستوري دساتير مكتوبة ملزمة أما قبل ذلك فقد اقتصر الأمر على مجرد مجموعة قواعد عرفية أو تشريعات في مسائل معينة كانت تسمى القوانين الأساسية للمملكة.
2. قامت إعلانات الحقوق الأمريكية على أسس فلسفية وتبريرات عقائدية هي نظرية الحقوق الطبيعية للأفراد إذ رأى واضعوا تلك الإعلانات كما فعل جفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي الصادر عام 1776 ان لا تقتصر الإعلانات على مجرد تعداد للحريات الفردية بل اهتموا ببيان الأساس الفلسفي بها.
3. وجهت إعلانات الحقوق الأمريكية إلى الأمريكيين فقط حالها حال إعلانات الحقوق الإنكليزية، وهذا عكس ما ذهبت إليه إعلانات الحقوق الفرنسية بعد هذا التاريخ.
4. قيدت إعلانات الحقوق الأمريكية سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية تجاه الأفراد وهذا تقدم يسجل لصالحها في مواجهة إعلانات الحقوق الإنكليزية التي حدت من سلطات السلطة التنفيذية، وتعد الإعلانات الأمريكية المحاولة الأولى لتسجيل حقوق الأفراد في وثيقة دستورية وضمانها ضد استبداد الأغلبية البرلمانية لا ضد استبداد الملوك فقط، فهي ترفض ان الشعب هو صاحب السيادة المطلقة التي لا ضابط لها لكنها تؤكد بان الشعب رغم كونه صاحب السيادة فهو يخضع لقاعدة قانونية عليا مضمونها ضمان حقوق الإنسان.
5. اعتبرت إعلانات الحقوق الأمريكية قواعد قانونية ملزمة، ومن ثم فان لأي مواطن أمريكي الحق بالتمسك بها أمام القضاء فهي قواعد دستورية تعلو التشريعات العادية ولذا يمكن الطعن بأي قانون عادي يخالف هذه الإعلانات وما جاءت به من حقوق ثبتت بواسطتها لمصلحة الأفراد.(80)
الفرع الرابع-
الدستور الاتحادي 1787
أقر الدستور الاتحادي الأمريكي عام 1787 الذي وضعه ماديسن بعد ان اجتمع ممثلوا الولايات المنفصلة عن إنجلترا في مؤتمر فيلادليفيا وأقروا بتاريخ 17 ايلول 1787 استبدال ميثاق التعاهد القديم بدستور جديد باستثناء ولاية رود آيلاند التي لم تلتحق بالاتحاد إلا في سنة 1799، ولا يحتوي هذا الدستور اعلاناً لحقوق الأفراد إلا انه احتوى بضعة نصوص تتعلق بضمانات الحرية الفردية فقد سجلت المادة الأولى في فقرتها التاسعة ضرورة الهابياس كوربوس وعدم جواز سريان القوانين على الماضي، ونص على ضرورة توزيع الأعباء الضريبية تبعاً لقدرة المكلفين، وعلى عدم جواز إنفاق المال العام في غير الأغراض المحددة طبقاً للقانون، وعلى عدم منح الألقاب.(81)
وفي 25 أيلول 1789 تبنى الكونغرس الأمريكي دفعة واحدة عشرة تعديلات أقرت وفاءً لوعد قطع لبعض الولايات القلقة على استقلالها وحريات مواطنيها وقد أصبحت هذه التعديلات نافذة في 15 كانون الأول 1791 وفقاً للمادة الخامسة من الدستور وهذه التعديلات تتعلق ثمانية منها بضمانات الحقوق الشخصية والملكية الفردية والاثنان الأخيران بحقوق الدول في أمورها الداخلية.(82)
وقد نصت هذه التعديلات على انه ليس لمجلس الشيوخ سن قوانين تفرض اتباع دين معين، أو تمنع حرية النقد حديثاً أو كتابة أو تحد من حرية الصحافة أو تمنع أفراد الشعب من التجمع بهدف التعبير عن المطالبة بحقوقهم كما حظر على مجلس الشيوخ سن قانون يمنع المواطنين من حمل السلاح أو شرائه أو بيعه، كما لا يحق لممثلي الدولة دخول أحد بيوت المواطنين دون موافقته كما لا يحق للدولة البحث عن أوراق أو ممتلكات المواطنين ولا يجوز أخذ أموال الأفراد العقارية بدون تعويض مقبول من المواطنين وفي حالة ارتكاب جريمة فالمجرم يملك الحق في المطالبة بالإسراع في محاكمته، وله الحق في ان يعرف الجرم الذي ارتكبه أو المخالفة التي قام بها، وله الحق في مقابلة الشهود الذين يودون أداء الشهادة ضده وسماع أقوالهم، كما ان له الحق في الحصول على شهود لمصلحته، وله الحق في تعيين من يدافع عنه.(83)
وفي عام 1865 وأثر حرب الانفصال تم تبني التعديل الثالث عشر الخاص بإلغاء الرق وبهذا الخصوص أكد (أليكس دوتوكفيل) في كتابه الديمقراطية في أمريكا على ان إلغاء الرق في أمريكا لم يكن لمصلحة الزنوج فقط لكنه لمصلحة البيض أنفسهم في الوقت نفسه.(84)
أما التعديل الرابع عشر الذي تبناه الكونغرس عام 1868 فقد قضى ولو من الناحية الشكلية على مشكلة السود الدستورية بان نصت هذه الإضافة أو التعديل على ان كل من ولد أو توطن في الولايات المتحدة وخضع لسلطتها هو مواطن من مواطني الولايات المتحدة كما انه مواطن للولاية التي يقيم فيها.
ومضت الإضافة في فقرتها الثانية لتقول ان أية ولاية لا تملك ان تصدر أو تطبق أي تشريع من شانه ان يحد من المزايا أو الخصائص التي يتمتع بها المواطنون فلا يحق لأية ولاية ان تجرد شخص من حياته أو حريته أو حقه في الملكية دون مراعاة الضمانات الشرعية الكافية وبذلك توافرت الحماية الدستورية لحقوق المواطن المدنية ضد حكومة الولاية التي ينتمي إليها الشخص بعد ان كانت هذه الحماية قاصرة طبقاً للبنود العشرة الأولى من الدستور على حكومة الاتحاد، فالإضافة الرابعة عشر اهتمت بتقرير حريات السود وتقرير حقهم في المساواة التامة أيضاً.(85)
أما التعديل الخامس عشر فقد صدر عام 1870 وأقر مبدأ المساواة في الانتخابات بين البيض والملونين والتعديل التاسع عشر الصادر عام 1920 الذي منح الإناث حق الانتخاب على قدم المساواة مع الذكور.(86)
المطلب الثالث
فرنسا
تعد التجربة الفرنسية في مجالات إعلان الحقوق من أكثر التجارب ثراءً إذ ان مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور في فترة تاريخية ارتبطت في ظهورها على المستوى العالمي بالثورة الفرنسية إذ يعد إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر بتاريخ 26 آب 1789 الإعلان الأكثر شهرة لأنه أحرز قيمة عالمية كما ان أغلب دساتير دول العالم تتضمن قائمة في الحقوق الفردية التي صيغت بعبارات يبدو تأثرها بنصوص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789.(87)
عليه يمكن الإشارة إلى بعض المراحل المهمة في التجربة الفرنسية المرتبطة بحقوق الإنسان وهي كالآتي:
الفرع الأول- إعلان حقوق الإنسان والمواطن (26 آب 1789)
هو الإعلان الأول لحقوق الإنسان والمواطن الذي صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى، والذي تصدر دستور 3 أيلول 1791.(88)
وقد جاءت عبارة حقوق الإنسان في عنوان الإعلان الفرنسي أو في مقدمته التي نصت على ان (تجاهل أو نسيان أو احتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات…).
كما جاءت عبارة حقوق الإنسان في هذا الإعلان في بعض مواده فالمادة الثانية التي نصت على ان (غاية كل اجتماع سياسي هي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية والتي لا يأتي عليها التقادم).
يتضمن هذا الإعلان مقدمة وسبع عشرة مادة والأسس التي تقوم عليها نصوصه تتلخص بالنقاط الآتية:
1. لكل إنسان حقوق طبيعية مقدسة خالدة غير قابلة للتغيير بسبب تبدل الزمان كما لا يمكن التخلص منها وهي الحياة والحرية والمساواة.
2. هدف المجتمع السياسي يتمثل في الحفاظ على حقوق الإنسان إذ ان الإنسان هو الغاية.
3. لا توجد حدود تقيد من حرية الإنسان إلا الحدود الناجمة عن ممارسة الغير لحقوقه الطبيعية.
4. القانون لا يمكن ان يؤثر في حريات الأفراد فهو لا يستطيع ان يضع حاجزاً إلا إزاء الأعمال المضرة بالمجتمع وعند الضرورة.
ضمن هذا الإعلان مجموعة من الحقوق، فقد أعلنت المادة الأولى إقرار المساواة المدنية بين المواطنين إذ نصت على ان (الناس يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق)، وهنا يؤكد العلامة إيسمن Esmein على ان المساواة المدنية تتضمن افتراض التساوي بين الأفراد في أهلية اكتساب الحقوق المحمية قانوناً فهي لا تعني المساواة في الثروة لكنها تعني حماية الجميع حماية متساوية بالنسبة لما يتمتعون به من حقوق أي ان المساواة المدنية تضمن حماية ما يتمتع به الأفراد من مزايا أو حقوق بنفس الطريقة وبنفس القوة، وهذه المساواة المدنية لا تتحقق إلا بالاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقدمها الدولة.
والحقيقة ان وثيقة حقوق الإنسان الصادرة في السنة الثالثة للثورة قد تضمنت الإشارة إلى حق المساواة، وكذلك فعلت الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1793.(89)
ويترتب على المساواة المدنية النتائج الآتية:
1. مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بمعنى ان المشرع يسن قوانينه دون تمييز بين شخص وآخر أو طبقة وأخرى.
2. المساواة أما المؤسسات العامة أي ان على مؤسسات الدولة عند قيامها بأداء واجباتها ألا تميز بين الأفراد من حيث الخدمات التي تقدمها أو المقابل لها، كما ان المساواة أمام المؤسسات العامة للدولة تؤدي إلى تحريم إقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين.(90)
تابع القادم :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(5)