المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(4)
1. جوهانس الثيوسيس
هو مفكر ألماني استعمل فكرة التعاقد الاجتماعي في بناء نظامه السياسي عام 1603 وقد طبقت هذه النظرية عملياً من قبل الآباء الحجاج على الباخرة (May Flower) عام 1620 حيث أشير إلى (ونحن أيضاً نقوم أحياناً بالاتفاق وإبرام العهد فيما بيننا أمام الله ونلزم أنفسنا معاً في رباط سياسي مدني).(25)
ويطرح هذا المفكر قيداً يرد على سلطات الدولة إذ يقرر عدم وجود فرد أو كائن ذو سلطات مطلقة لا حدود لها إلا الله الذي هو الإله الواحد، أما سلطان الرجال فلا يمكن ان يكون مطلقاً لا ترد عليه القيود، وطبقاً لوجهة نظره توجد قواعد ثلاث تحد من سلطات صاحب السيادة، وهي القوانين الإلهية وقواعد العدالة الطبيعية والقوانين الأساسية للدولة، مع انه لم يضع تعريفاً دقيقاً لما أطلق عليه القوانين الأساسية للدولة.
ويلاحظ على آراء Loyseas ان القيود التي ذكرها لا تنشئ للفرد حقاً خاصاً به يولد معه ويتصل بذاته، فالقيد الأول يستمد أصوله من واجبات الملك تجاه الله، والثاني عن القانون الطبيعي وهذا القيد في نهاية المطاف صورة من صور القيد الأول مادام القانون الطبيعي من صنع الله، وهذه الفكرة تؤدي إلى ضرورة ان يحترم الملك أوامر الله أو القانون الطبيعي باعتبارهما واجبات دينية، ولكن ليس للفرد إذا خالف الملك واجباته أي حق تجاهه، ومن ثم لا يملك أية دعوى قانونية تضمن له استيفاء حقه المسلوب، أما القيد الثالث الخاص بالقوانين الأساسية، فهو قيد غامض لان حدوده غير واضحة وماهيته غير ظاهرة(26).
2. جون ميلتون
ولد هذا الفيلسوف عام 1608 وتوفي عام 1674 وأشار إلى الطبيعة التعاقدية التي قادت إلى ظهور الدولة، ومن ثم فان افكاره بهذا الخصوص يمكن ان تمثل حلقة من حلقات نظرية العقد الاجتماعي التي طورت بعد ذلك على يد هوبز ولوك وروسو فميلتون يشير في كتاب له صدر عام 1649 إلى ان الناس ولدوا احراراً، وان الخطأ الأول كان قد نهض مع خطيئة آدم، ولكي يستطيع الأفراد الطيبون العيش بسلام وتجنب الأشرار والسيئين، فقد اتفقوا على صيغ عامة لربط أنفسهم بهدف الخلاص من الأذى المشترك، وليدافعوا عن انفسهم ضد أي معارض أو معتدي أو مخلٍ بهذا الاتفاق.(27)
3. توماس هوبز
ولد هوبز عام 1588 وتوفي عام 1679 حيث عاش هذا الفيلسوف الانكليزي خلال الحرب الأهلية 1642-1651 وربما كان لهذا الأمر تأثير على تأييده لفكرة الحكم المطلق إذ كانت أعظم الحاجات الملحة لإنكلترا في تلك الفترة تتمثل في حكومة قوية تحافظ على القانون والنظام،(28) والحقيقة ان هوبز كان قد بدأ التعبير عن آراءه في السياسة عندما ترجم أعمال ثيوسيديدس مشيراً إلى عيوب وشرور الديمقراطية إثر مطالبة أعضاء البرلمان الانجليزي سنة 1628 بتنفيذ وثيقة الحقوق، وفي سنة 1615 نشر كتابه التنين (Leviathan) الذي لم يلق القبول والترحيب به لا في فرنسا التي كان يعيش فيها بسبب هجومه على الكنيسة الكاثوليكية ولا من أقرانه الانجليز المقيمين في فرنسا مما أضطره للرجوع إلى انكلترا بعد ان وعد كرومويل ان لا يعمل في الحقل السياسي.(29)
وفي تبريره لكيفية قيام الدولة وما يتمتع به الحاكم من سلطان مطلق يؤكد هوبز على ان الإنسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته كما تصوره أرسطو لكنه مخلوق اناني محب لنفسه لا يعمل إلا بالقدر الذي تتحقق فيه مصالحه الشخصية وهذا ما قاد إلى ان تكون حياة الإنسانية الأولى حياة صعبة تسودها الفوضى والاضطراب حيث سيطر الأقوياء فيها على الضعفاء وبما ان الفرد اناني بطبعه فان هذه الصفة قد ولدت لدى الأفراد ضرورة التعاقد على ان يعيشوا تحت رئاسة أحدهم يتنازلون له عن حقوقهم الطبيعية كافة وترتب على ذلك التعاقد ان تحول الأفراد للعيش في حياة اجتماعية بدل العيش في حياة الفطرة التي كانت تقود إلى حرب الكل ضد الكل، وفي الحالة الطبيعية يقرر هوبز، انه لا توجد ملكية ولا عدالة أو ظلم، لكن هناك حرب ضروس وقاسية، وفي مثل هذه الظروف لا يظهر من الفضائل إلا القوة والخداع، وهكذا فقد تخلص الأفراد من شرور حياة الفطرة الأولى عن طريق الانصياع لقوة مركزية قادرة على حفظ الأمن وتوفير الاستقرار لمصلحة الجميع، وهو ما تم عن طريق العقد الاجتماعي، وأساس هذا العقد عند هوبز انه تم بين الأفراد وحدهم حيث يتعاقد كل فرد مع غيره من الأفراد لمصلحة الحاكم الذي لم يكن طرفاً بهذا العقد، وهذا يعني ان العقد سيكون ملزماً للأفراد بما يتضمنه من التزامات دون ان يلتزم الحاكم بأي شيء طالما انه ليس طرفاً فيه ودون ان يتنازل الحاكم عن حقوقه الطبيعية التي كان يتمتع بها في حياة الفطرة، ومن ثم فان الأفراد عن طريق هذا العقد يحولون سلطتهم السياسية إلى الحكام، وهو ما سيجعل حقوق الأقلية والأكثرية تحت رحمة السلطة الحاكمة التي تستطيع ان تقرر لهم نوعية الحقوق التي يمكن ان يتمتعوا بها، ومن ثم فانه لا يحق للأفراد الثورة والخروج على السلطة الحاكمة لان الحاكم مجرد شخص مستفيد من العقد الذي تم بين الأفراد، وهذا يعني بالنتيجة انه لا مجال للحديث عن الديمقراطية في فلسفة هوبز،(30) طالما لا يمكن الحديث عن تقييد سلطة الحاكم أو سلطة الدولة فهوبز وضع الأساس النظري لدولة مطلقة السلطات مبنية على تعاقد وقبول حر، والأساس النفسي لهذه النظرية هو الخوف.(31)
4. جون لوك
ولد لوك عام 1632 وتوفي عام 1704 وهو أكبر أعداء الحكم المطلق وممثل الحركة الليبرالية في أوربا والذي جاءت أفكاره متطابقة مع آراء أنصار المذهب الحر فقد كرس حياته للدفاع عن الحرية ومعاداة الاستبداد والتحكم، كما يرجع إليه الفضل في إعطاء الثورة الانكليزية سندها الفكري والفلسفي ضد أسرة آل ستيوارت عندما عبر عن فلسفته في كتابه عن الحكومة المدنية الصادر سنة 1690 وقد أسهم في تحليله لفكرة العقد الاجتماعي في إقامة نظرية السيادة الشعبية كما شارك في اقامة مبدأ الفصل بين السلطات.(32)
ينطلق لوك من مبدأ ان الحكومة المدنية انما هي نتيجة عقد اجتماعي وهو يتفق مع هوبز في وجود حياة فطرية عاشها الإنسان قبل ان ينتقل إلى حياة الجماعة وان العقد الاجتماعي هو الذي نقل الأفراد للعيش من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة أو المجتمع المنظم سياسياً لكنه أختلف مع هوبز في ان حياة الفطرة لم تكن حياة فوضى سادت فيها سيطرة الأقوياء على الضعفاء إذ ان لوك يرى ان حياة الفطرة كانت حياة فاضلة يسودها القانون الطبيعي وأهم مبادئه الحرية والمساواة، وبما ان الأفراد أرادوا الانتقال إلى حياة أفضل فقد عمدوا إلى تنظيم الحريات التي يوفرها لهم القانون الطبيعي ودفع الاعتداء الذي يمكن ان يقع عليهم فقد تعاقدوا فيما بينهم على أن يقيموا سلطة تتمثل في شخص أو مجموعة من الأشخاص يمثلون المجتمع بأكمله وبناءاً على ما تقدم فالعقد الاجتماعي عند لوك قد تم بين الشعب من جانب والحاكم من جانب آخر من أجل إقامة العدل وتنظيم الحريات التي كان الأفراد يتمتعون بها في حياة الفطرة، فلوك يعتبر الحاكم طرفاً في العقد بعكس هوبز وترتب على العقد الاجتماعي طبقاً لمفهوم لوك ان الأفراد أو الشعب لم يتنازل للحاكم عن حقوقه كاملة ولكنه تنازل له عنها بالقدر الذي يقيم السلطة وهذا ما لم يقل به هوبز، كما أكد لوك على ان سلطة الحكام مقيدة وليست مطلقة وأساس التقييد هو ما تضمنه العقد من التزامات متبادلة إذ ان الحاكم مقيد باحترام حقوق الأفراد التي لم يتنازلوا عنها كما انه ملزم بإقامة العدل بينهم في مقابل التزام الأفراد بواجب الطاعة تجاه الحاكم في حدود العقد أما إذا تجاوز الحاكم صلاحياته بموجب العقد واعتدى على حقوق وحريات الأفراد فان الحق سيكون ثابتاً لهم في مقاومة الحاكم وعزله.(33)
عليه فان نظرية لوك هي نظرية ديمقراطية تُقر بمسؤولية الدولة أو الحاكم حيث يستطيع الأفراد معارضته لكن الشيء الوحيد الذي يقيد ويحد من ديمقراطية لوك هو انه يخرج من لا يملك عقاراً من قائمة المواطنين، ومن ثم فهو يقصر المواطنة على جزء معين من الشعب.
ويرى لوك ان من غير المقبول وهو يعد خطأ في ان تملك الدولة كل السلطات وتحكم حكماً مطلقاً، ولابد للسلطة القضائية ان تتمتع بالاستقلال عن السلطة التنفيذية(34) التي تكون سلطة خاضعة وتسمو السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية وهي تستمد هذه المكانة من حقيقة قيامها بسن القوانين المعبرة عن الصالح العام، فلوك يتصور الفصل بين السلطات على انه نوع من القانون الذي يتحقق عبر تحقيق التوازن بينها ولكن هذا التعاون يميل لمصلحة السلطة التنفيذية إذ ان هذا التوازن يتحقق عبر دور أساسي للملك.(33)
5. مونتسكيو
ولد مونتسكيو عام 1689 وتوفي عام 1755 وهو يعد صاحب الفضل الحقيقي في تقديم تحديد واضح لمبدأ الفصل بين السلطات عندما عرض فهمه لهذا المبدأ في كتابه الشهير (روح القوانين) الصادر سنة 1748. وهو يقر بوجود ثلاث سلطات حيث تتكون السلطة التشريعية من مجلسين باعتبار وجود اناس متميزون عن عامة الشعب بسبب المولد أو الثروة، ومن ثم فان لهم مصلحة خاصة من الضروري تمكينهم من الدفاع عنها وعنده فان اختصاصات المجلسين متساوية إلا انه عند التعارض سيقتصر اختصاص المجلس الثاني على الاعتراض فقط، أما السلطة التنفيذية فهي توضع بيد الملك ويسميها السلطة المنفذة للقانون العام، أما السلطة القضائية فيسميها السلطة المنفذة للقانون الخاص.(36)
ويؤكد مونتسكيو على ان الحرية تتحقق بتقييد السلطة أياً كانت هذه السلطة فجمع السلطة في يد واحدة يعد خطراً على الحرية ولا يمكن ان توجد الحرية مع جمع السلطات الثلاث، فالفصل طبقاً لرأيه هو الوسيلة الوحيدة الفعلية لتأمين الحرية وهو يبرر هذا المبدأ بثلاثة اعتبارات هي:
1. ان التجارب البشرية قد أثبتت ان من يتمتع بسلطات واسعة غير محددة سيسيء استعمالها، وهذا ما يجعل من الضروري ان يقوم النظام السياسي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات.
2. ان مبدأ فصل السلطات هو الوسيلة الوحيدة التي تكفل احترام القوانين وتطبيقها بصورة صحيحة.
3. اعتقاد مونتسكيو ان النظام الانجليزي في عصره الذي كان معجباً به يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات.
ولتحقيق هذا المبدأ يشير مونتسكيو إلى ضرورة ان تتمتع كل سلطة بقدرة البت في الأمور التي تدخل في اختصاصها فالبرلمان يسن القوانين وهكذا بالنسبة لبقية السلطات، كما انه يجب ان تتمتع كل سلطة بقدرة المنع أي ان لكل سلطة سلطة منع السلطات الأخرى في ان تتدخل باختصاصاتها.(37)
والخلاصة ان آراء مونتسكيو تنتهي إلى إقرار أمرين:
الأول التخصص بالنسبة لكل سلطة في مباشرة وظيفتها فضلاً عن ضرورة التعاون مع السلطات الثلاث. أما الأمر الثاني فهو الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث.(38)
6. جان جاك روسو
ولد روسو عام 1712 وتوفي عام 1778 وهو يمثل مرحلة مهمة في تأريخ الفكر الديمقراطي إذ يعد كتابه العقد الاجتماعي الصادر عام 1762 من أوضح وأقوى الكتب التي كتبت عن نظرية السيادة الشعبية ولهذا فانه لا يمكن انكار أثره على التطور الديمقراطي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما لعب روسو دوراً فكرياً مهماً في التمهيد للثورة الفرنسية فكثيراً من قادتها يعدون من مؤيدي روسو والمعتنقين لآرائه، وقد صدر إعلان الحقوق الفرنسي عام 1789، ليسجل الكثير من آراء هذا الفيلسوف كسيادة الشعب، والحريات الفردية، والقانون يعبر عن الإرادة العامة.(39)
فروسو دعا للديمقراطية المباشرة وأنكر نظرية الحق الإلهي للحكام وكان يعتقد ان الديمقراطية المباشرة هي النظام الأمثل للحكم أما الحكومة التمثيلية فيسميها انتخاب الارستقراطية.(40)
وهذا يعني انه لا يوافق على النظام النيابي وهذا الاتجاه يتفق مع ما كان يعتقده حول فكرة السيادة إذ انها عند روسو غير قابلة للتصرف كما انها غير قابلة للانقسام وعلى هذا الأساس فان السيادة لا يمكن نقلها لأنها تجد التعبير عنها في الإرادة العامة، ولا يتصور ان تحل إرادة شخص محل إرادة شخص آخر فروسو بالنتيجة يرفض النظام النيابي القائم على فكرة الديمقراطية غير المباشرة التي قال بها لوك ومونتسكيو.(41)
بدأ روسو كتابه العقد الاجتماعي بعبارة (ولد الإنسان حراً، إلا انه مكبل بالأغلال في كل مكان، وعلى ذلك فهو الإنسان يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية).(42)
يستهدف روسو إقامة ديمقراطية مباشرة من خلال فكرته عن العقد الاجتماعي فهو يقول بتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم الطبيعية لا لشخص معين بالذات ولا لأشخاص معينين بالذات كما ذهب هوبز ولوك ولكن التنازل المذكور للمجتمع بأكمله وهذا هو أساس مبدئه الشهير ألا وهو مبدأ السيادة الشعبية.
يضاف إلى ذلك ان الأفراد حين تنازلوا عن حقوقهم الطبيعية لم يفقدوا جميع تلك الحقوق عملياً إذ انهم استعاضوا عنها بحقوق مدنية تضمن لهم حياة أفضل وهي حقوق أكثر فعالية من تلك الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في حياة الفطرة فالحقوق المدنية مضمونة من جانب السلطة السياسية والتعاقد عند روسو وظيفته تتمثل في إحلال الإرادة العامة محل الإرادة الفردية، ويؤكد روسو على ان حياة الفطرة كانت حياة سعيدة وان السلطة لا يمكن ان ترتكز على القوة أو على حق الفتح وإلا فان هذا سيقود إلى انكار الحق بصورة كلية وطالما ان الأفراد في حياة الفطرة كانوا أحراراً متمتعين بكامل حريتهم ومتساوين مع بعضهم فهم لا يستطيعون الانتقال إلى حياة الجماعة أو حياة المجتمع المدني المنظم إلا بموجب اتفاق حر يتم بينهم وهذا ما حصل عندما تم الاتفاق بإجماع الإرادات الحرة للأفراد وهو اتفاق يتم لصالح الجماعة لا لمصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد وهدف هذا التعاقد تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية لمصلحة المجتمع وما دام هذا التنازل يتم دون تحفظ من قبل الأفراد فليس لأحدهم ان يطالب بشيء وبهذا الشكل يتحقق مبدأ المساواة كما انه ما دام كل فرد قد تنازل عن حقوقه للمجتمع فانه لن يكون هناك من يدفعه الى التعدي على الآخرين وفي هذا تحقيق لمبدأ الحرية إلا ان التنازل عن الحقوق الطبيعية يقابله كما ذكرنا تمتعهم بحقوق مدنية حيث يقوم الشخص العام الذي أقاموه بحمايتهم وبذلك يكون روسو قد اختلف عن هوبز الذي جعل التنازل يتم بصورة كلية لصالح الحاكم، كما أختلف مع لوك الذي قصر هذا التنازل على بعض الحقوق دون البعض الآخر وبذلك فانه طبقاً للعقد الاجتماعي الذي طرحه روسو فان السلطة أو السيادة تكون للجماعة أي انه أقر بمبدأ السيادة الشعبية الذي يعبر عنه بمبدأ سيادة القانون بوصفه تعبيراً عن الارادة العامة.(43)
ويلاحظ على عقد روسو الاجتماعي ان هدفه الحرية ولكنه في حقيقة الأمر يعلي من شان المساواة حتى وان كان ذلك على حساب الحرية.(44)
والخلاصة ان النظام الذي جاءت به أفكار روسو يقوم على فكرتين
أساسيتين هما:
1. الحرية الديمقراطية، ويراد بها الاستقلال الفردي بمعنى خضوع الفرد للقانون الذي يشارك في صنعه كما انها تعني تأكيد حرية الفرد بشرط ان لا تتجاوز حرية غيره، ومن ثم فالحرية بهذا المعنى لا توجد في النظام النيابي.
2. المساواة، ويراد بها المساواة في الاستقلال الفردي والمساواة في الحريات فهي تفهم بمعنى رفض ان تكون الحرية امتيازاً للبعض دون البعض الآخر، ولاضمان في ان تكون الحرية للجميع إلا بالمساواة(45) وينتهي روسو إلى الربط بين الحرية والمساواة عن طريق عمومية القانون واستبعاد كل سلطة شخصية.(46)
أخيراً من الضروري الإشارة إلى ان الإرادة العامة الحرة التي يتحدث عنها روسو هي عبارة عن قوة ميتيافيزيقية خارجة عن نطاق الطبيعة، كما ان روسو لا يعتقد بمبدأ فصل السلطات.(47)
7. آدم سميث
ولد سميث عام 1723 وتوفي عام 1790(48) وهو اقتصادي اسكتلندي شهير نظر إلى المجتمع الانكليزي، خارج نطاق الطبقة المسيطرة وهو يعتقد انه مجتمع مليء بالصراع لا يحكمه قانون مستقر أو متزن وأخلاقيات أفراده سيئة جداً، فالنساء والأطفال يعملون في مناجم الفحم ويتقاضون أجوراً بخسة ولا يرون النور، والحقيقة ان الحياة الاجتماعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر كانت توصف بأنها من أسوء ما يمكن ان يشاهده ويعيشه إنسان.
أصدر سميث كتابه الشهير المعروف باسم (ثروة الأمم) الذي ناقش فيه قضية هامة تتلخص في كيفية استمرار المجتمع في مسيرة الحياة رغم التباين الموجود بين أفراده واختلاف توجهاتهم. بمعنى كيف يضع الفرد نصب عينيه البحث في منفعته الخاصة أولاً بحيث تأتي في النهاية مصلحة المجتمع؟(49)
يقول سميث ان الأفراد لا يتعاطفون معهم لأنهم إنسانيين ولكن التعاطف ناتج عن حب مصلحتهم الخاصة وهذه هي التي تدفع الأفراد إلى العمل إلا ان المجتمع الذي يعمل افراده بدافع المصلحة الخاصة هو مجتمع ضعيف ومتضعضع، ولكن المنافسة بين الأفراد هي التي تخلق المجتمع القوي، إذ ان الباحثون عن المصلحة الخاصة مقيدون بما تمليه عليهم اعتبارات المنافسة مع الآخرين التي تفرض عليهم تقديم أفضل ما عندهم أثناء العمل تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة على المدى الطويل، وهذه المصلحة الخاصة طبقاً للاعتبارات المتقدمة تولد بطبيعتها نتيجة للمنافسة في السوق نتائج لصالح المجتمع وهو ما يطلق عليه بالانسجام الاجتماعي.(50)
أما هدف سميث الأول في هذا الكتاب فكان إبعاد العوامل المؤثرة كسيطرة الدولة أو غيرها على فعاليات السوق التجاري فهو يؤكد على ان عدم التدخل في قوانين السوق أمر مهم لتأخذ عوامل التقدم مجراها من دون تدخل من أحد وبهذا الأسلوب ينتشر الغنى ولا يكون هناك هوة كبيرة بين الرأسمالي وبين الفقير وأفكار بهذا الشكل تنطبق على بريطانيا في القرن الثامن عشر.
سميث رأى كذلك ضرورة انتصار العقلانية فهو القائل (لا تحاول ان تعمل صالحاً، ولكن دع العمل الصالح يبرز من خلال الانانية) وقد ناصر سميث تحرير الرقيق ذلك ان هذه الخطوة أصح على المدى الطويل.(51)
مما تقدم يبدو واضحاً ان أفكار سميث قد لعبت دوراً مساعداً في بلورة النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة إذ انها تدعو إلى دور محدود أو ثانوي للدولة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فالدولة التي أرادها سميث هي دولة حارسة توضع في خدمة المجتمع، فالدولة تمنح المجتمع شكله القانوني بإمساك النظام فيه، ويبقى للمجتمع أولويته على الدولة ويخضعها لسلطانه والتعبير الاقتصادي لهذه القاعدة (دعه يعمل، دعه يمر).(52)
8. جيريمي بينثام
ولد بينثام عام 1748 وتوفي عام 1832 وهو فيلسوف ورجل قانون بريطاني أهتم بدراسة طبيعة علم العقاب وأنظمة السجون، وقام عام 1776 بنشر كتابه (شيء عن الحكومة) هاجم فيه صيغة القانون في انكلترا في ذلك العهد، وقبيل عام 1780 صاغ بينثام نظرياته حول فلسفة التشريع، وتتسم فلسفته التي يطلق عليها اسم مذهب المنفعة بتحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس، وبان العقاب انما هو عمل من أعمال الشر أو هو عمل غير مشروع في ذاته ولا يمكن تبريره إلا إذا كان ذلك العقاب يحول دون وقوع شرور أكبر، وهكذا يبدو جلياً ان بينثام تمكن في العصر الذي عاش فيه من تحديد الحاجة إلى جمع القانون الجنائي وتنسيقه وإجراء الاصلاحات عليه، وكان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبير في جيل من الحقوقيين الذين كانوا مثله دائمي الهجوم على سوء استخدام العدالة وأساليب الالتفاف حول القوانين.(53)
9. جون ستيوارت ميل
ولد جون ستيوارت ميل عام 1808 وتوفي عام 1873 حيث ربط بين الديمقراطية والدولة المثالية، فهو في كتابه (الدولة التمثيلية) يقرر ان أفضل أنواع الدول والحكومات هي التي تكون السيادة فيها أو القوة المركزية العليا لتسيير شؤون الدولة في يد أفراد المجتمع حيث لكل مواطن الحق في المشاركة السياسية، وهو يؤكد بان النظام الديمقراطي وان كان ليس النظام المثالي إلا انه أفضل الأنظمة الموجودة وهو ينطلق من ضرورة ان يتمتع الجميع بالحرية والمساواة.(54)
أخيراً يبدو من خلال استعراض الآراء المقدمة لفكرة الديمقراطية وارتباطها بحقوق الأفراد الخوف الكبير من حكم الطغاة هذا الحكم الذي لا يظهر فقط من خلال حكم الفرد الواحد أو المجموعة الصغيرة من الأفراد بل ان هذا الشكل من أشكال الحكم يمكن ان يظهر من خلال حكم الكثرة على حساب القلة.(55)
يتبع >