منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - المجتمـع المـدني والديمقـراطيـة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-11-06, 18:36   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المبحث السادس
المجتمع المدني والدولة السياسية في العالم العربي

بعض التعميمات


ثمة حاجة ملحة للتمييز بين خصائص نشوء وتطور المجتمع المدني في البلدان المتطورة والبلدان النامية بشكل عام، وبلداننا العربية بشكل خاص.

بداية، لابد من التذكير واستنادا إلى بعض عناصر التحليل السابق بأن نزعة الانكفاء عن الدولة كراع وحيد للتقدم والتحديث والتنظيم المدني للمجتمع تعبر عن ولادة ما أعتقد أنه موجة جديدة من الديمقراطية أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الجديدة أو المجددة. فقد تركزت الديمقراطية الكلاسيكية أو في المرحلة الأولى على إصلاح الدولة وأساليب ممارسة السلطة من قبل القائمين عليها، وكان أفضل تعبير عنها بناء الدولة الدستورية والقانونية وتثبيت مبدأ فصل السلطات، واستقلال المؤسسات الرئيسية بعضها عن البعض الآخر وتحديد مسؤوليات الحاكمين وإخضاعها للمراقبة الاجتماعية المستمرة. أما في المرحلة الجديدة فإن هناك نزعة قوية للنظر إلى الديمقراطية من داخل المجتمع أو لبناء أسس الديمقراطية الاجتماعية. فالمرحلة الأولى كانت مرحلة الدولة الديمقراطية، والمرحلة الثانية هي مرحلة المجتمع الديمقراطي. والمجتمع الديمقراطي لا يقوم على وجود دولة قانونية وديمقراطية فحسب ولكنه يتجاوز ذلك نحو توطين مبادئ الديمقراطية في ممارسات الفرد والجماعة معا. وفي هذا الإطار يستعيد التفكير السياسي النظر في كل ما كان غائبا في الديمقراطية الكلاسيكية، نعني التركيز على السلطة أو السلطات الاجتماعية والسعي إلى تطويرها والعمل على تغذيتها بالمبادئ والقيم التي حكمت دمقرطة السلطة السياسية العمومية. وهكذا فإن الاستثمار المادي والمعنوي يتجه أكثر فأكثر في الدول ذات الديمقراطية الناضجة من التركز على السلطة المركزية والدولة نحو السلطات الاجتماعية. وتزداد مراهنة الرأي العام على هذه السلطات في تحقيق الأهداف التي لم يعد من الممكن للدولة.
ومن هنا تعيش فكرة التعددية مرحلة تجديد في جميع أشكالها، وتضطر الدولة تلبية لذلك في جميع بلدان الديمقراطية الناجزة إلى أن تزيل احتكارها الذي بقي مفروضا خلال الفترة الطويلة السابقة على مجالات مختلفة. وبالمثل تكاثرت المنظمات غير الحكومية التي تهتم بالشؤون ذاتها الوطنية والدولية التي كانت من اختصاص الدول حتى وقت قريب. وأصبحت منظمات حقوق الإنسان مثلا من أهم الهيئات التي تحظى بالشرعية العالمية للتصدي للحكومات المستبدة والقمعية. كما أصبحت منظمات المشاركة في التنمية ودعم الشعوب أو الجماعات الفقيرة أو التي تتعرض لكوارث طبيعية أو تهديدات خطيرة أكثر نشاطا من المنظمات الرسمية على صعيد الكرة الأرضية. وفي مواجهة سياسات العولمة الجديدة التي تطورها مجموعة الدول الصناعية الرئيسية، نمت ولا تزال تنمو منظمات أهلية عالمية تمثل أدوات ضغط متزايد على الدول الصناعية في ميدان ضمان الحقوق الاجتماعية أو توجيه السياسات الدولية وجهة إنسانية. وبالمثل تتكاثر الجمعيات المحلية التي تأخذ على عاتقها مهام تنظيم الحياة الأهلية للفئات أو للمجموعات القومية أو للنشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الشريحة أو تلك من السكان.

جاء الحديث المتزايد عن المجتمع المدني ومؤسساته في الدول الصناعية كدليل، إذن، على نضج الديمقراطية أو اكتمالها ونضج المجتمعات معا وارتفاع درجة التفاعل والتواصل بين الدولة والمجتمع. فالدولة، بغض النظر إلى أهدافها الفعلية، هي التي شجعت المجتمع على المبادرة واحتلال مواقع بقيت تحتلها منذ فترة طويلة وسهلت قانونيا وتنظيميا نشوء مؤسسات مدنية وقدمت لها ولا تزال تقدم لها الدعم المالي والتنظيمي والقانوني لتقوم بالدور الجديد الملقى عليها.

وباختصار، نستطيع أن نقول إن " المجتمع الديمقراطي " في البلدان المتقدمة يأتي هنا مكملا وامتدادا للدولة التي كانت في أصل نشوئه، وهي لا تزال ترعاه حتى لو كانت تخاف من تجاوزاته على الصلاحيات الجديدة التي أخذت تحصر عملها فيها. فالدولة تدرك أيضا أن ما يقوم به المجتمع المدني، أي المؤسسات الخاصة غير الحكومية، لا تستطيع هي أن تقوم به، وأنه في مواجهة المنافسة الدولية المفتوحة والتي ستفتح أكثر فأكثر، من مصلحة الدولة عموما والمجتمع ككل أن تتطور وتتدعم المؤسسات المدنية وتزداد نشاطا في الداخل والخارج.

وبالعكس من ذلك يأتي الحديث المتزايد والمتضخم عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية كتعويض عن غياب هذا المجتمع تماما وكرد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلطة العمومية إلى سلطة أصحاب مصالح خاصة، وانهيار أي قاعدة قانونية ومؤسسية ثابتة وراسخة للدولة والمجتمع معا. ولذلك فهو يبقى هنا ويستمر يعمل في إطار الأيديولوجية، مما يعني أيضا سهولة استعماله كأداة أو كوسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساعي متنوعة وأحيانا متناقضة، سياسية وعقائدية واقتصادية من دون أن يكون غاية في ذاته. فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني لبناء سلطة اجتماعية مستقلة بالفعل عن النزاعات السياسية وقادرة على المشاركة مباشرة في إيجاد الحلول من خارج المجال السياسي الرسمي للعديد من المشاكل والتحديات المجتمعية، وإنما لغيره، أي لأهداف تتعلق سواء بالسياسة بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أو بالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ما تزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي.

وبقدر ما تبدو الدولة في البلدان النامية بشكل عام بوصفها أكثر فأكثر تجسيدا لمجال المصالح الخاصة والجزئية وغياب القانون، ينمو نزوع قوي إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية في المجتمع المدني ذاته، أي خارج الدولة. فالمشكلة الحقيقية التي تحاول أن ترد عليها هنا إشكالية المجتمع المدني ليست تنظيم المصالح الخاصة، ولكن بالعكس تنظيم المصالح العامة. ومن هنا التخبط والصعوبة الهائلة في تحديد هذا المفهوم والتناقض الكبير الذي يفترضه استخدامه بينه وبين الدولة. فالإشكالية تبدو هنا مستحيلة، نعني محاولة بناء العام في قلب الخاص، مما يعني في الواقع إعادة ولادة الدولة من قلب المجتمع، مما يجعل النخبة المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة !!.

ومصدر كل هذا الاختلاط والتخبط هو إخفاق الدولة القومية، بمعنى الدولة/الأمة، دولة المواطنين، في هذه البلدان، مما يضعنا أمام مسار تاريخي مختلف تماما عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية، وأحيانا معاكسا له.

وهذا يعني في الواقع أنه كما أن تطور المجتمع المدني في البلدان الرأسمالية المتطورة ليس منفصلا عن تطور الدولة الديمقراطية فإن غياب الدولة الديمقراطية في العالم النامي، والعالم العربي بشكل خاص، ليس منفصلا أيضا عن غياب المجتمع المدني أو تحييده وما يضمه من مؤسسات اجتماعية مستقلة فاعلة تقوم بتأدية مهام مرئية وثابتة في المجتمع وتكتسب نتيجة ذلك مواقع وصدقيه وشرعية حقيقية.

فعلى سبيل المثال منذ الاستقلال السياسي الذي حصلت علية البلدان العربية، احتلت جهاز الدولة في العديد منها نخبة سياسية - إدارية من مختلف شرائح الفئات الوسطى، وعملت على تعبئة مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية بهدف تشكيل قاعدة اجتماعية وجماعة سياسية مساندة للدولة الجديدة - من حيث هي كيان سياسي قانوني -، وقطب تحقيق جماعي للذات - تبحث عن إضفاء الشرعية على تأسيسها، والتغلب على الأزمات التي كانت تهددها في وحدتها ووجودها، في مختلف مراحل نموها، انطلاقاً من قوة المساندات هذه. ومع ذلك ظل تكوين هذه الدول الجديدة المنبثقة من الاستقلال السياسي هشاً، ويعاني من نقص بنيوي في إضفاء الشرعية، بسبب ممارسة هذه الدولة البعد الوصائي على المجتمع المدني الوليد .

إن النخبة السياسية الحاكمة التي قادت الكفاح الوطني في عهد الاستعمار في العديد من البلدان ، كانت تعبر عن الموقع المفصلي لأيديولوجية النزعة القومية الكليانية في خصوصيتها المحلية، التي تتسم بها هذه الفئات الوسطى في ممارستها للصراع الوطني باسم الوطن، باعتباره كياناً قائماً بذاته. وكانت هذه الفئات الوسطى توظف هذه الأيديولوجية القومية الكلية في خدمة قضية الاستقلال الوطني على الصعيد المحلي، وبناء الدولة القطرية. ويوضح الدكتور محمد عابد الجابري هذه المسألة حين يؤكد على توظيف فكرة " الوحدة" في خدمة الدولة القطرية قائلاً: (لقد اتجه تاريخ الكفاح الوطني في الأقطار العربية بفكرة " الوحدة " إلى خدمة نقيضها : الدولة القطرية، بعثها وبلورتها وترسيمها. نعم كان هناك بعد أيديولوجي يطفو من حين لآخر على ساحة الخطاب النهضوي العربي ليعطي لمفهوم " الوحدة" مضموناً مستمداً من وحدة التاريخ واللغة حيناً، ومن وحدة المصير والطموحات حيناً آخر. وكان هذا في المشرق خاصة. أما في المغرب العربي فقد كان مفهوم الوحدة قبل سنة 1956 يستقي مضمونه الأيديولوجي من تأكيد الهوية العربية الإسلامية لشعوب شمال أفريقيا، رداً على محاولات السياسة الاستعمارية فصل المغرب العربي عن المشرق العربي. وهكذا فبينما كان مفهوم " الوحدة " يستقي مضمونه الأيديولوجي في المشرق من الاتجاه عمودياً إلى الماضي أو المستقبل أو إليهما معاً، كان المفهوم نفسه في المغرب العربي يستقي مضمونه الأيديولوجي من الاتجاه أفقياً إلى الارتباط بالمشرق تأكيداً للانفصال عن فرنسا) .

الملاحظ أيضاً أن هذه الفئات الوسطى الحاملة أيديولوجية القومية الكلية في البلدان التي كانت تحت السيطرة الكولونيالية، قد ولدت وتشكلت في إطار البنية الاجتماعية الكولونيالية في المجتمعات المجزأة بتعدد الانخراط في الرأسمالية الكولونيالية، وغير المتجانس، وذلك بتأثير علاقات الإنتاج الكولونيالية، وهي تختلف كلياً عن " الطبقة الوسطى " في الغرب التي بسبب من تكونها التاريخي، في إطار علاقات الإنتاج الإقطاعية عينها كانت تمثل فيه القوة الاجتماعية الرئيسية الثورية الحاملة في صيرورتها الطبقية نظام إنتاج رأسمالي جديد قائم بذاته، يدفعها إلى نقض ثوري لبنية علاقات الإنتاج هذه، في مرحلة التكون التاريخي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وإجراء التحولات الثورية فيها للإفساح في المجال لتطور القوى المنتجة، بهدف فرض هيمنتها الطبقية على سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى، من خلال الاضطلاع بالدور المركزي والقيادي للثورة الديمقراطية البرجوازية، وانتزاع السلطة السياسية من الطبقة الإقطاعية القديمة .

وارتباطا بهذه المقاربة، فإن المضمون الأيديولوجي لهذه الفئات الوسطى يختلف جذرياً عن مضمون الطبقة الوسطى الكلاسيكية في الغرب، ولا يوجد أي منطق تماثلي بنيوي بينهما. ولهذا عندما مارست هذه الفئات النضال الوطني، مارسته في إطار من المحافظة على البنية الاجتماعية الكولونيالية، لا على أساس التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج القائمة. ومن هنا كانت عقلانية هذه الفئات عقلانية" ثورة من الأعلى " لأن الحركة الإصلاحية التي اضطلعت بها الدولة الجديدة بهدف إضفاء تجانس اجتماعي، وتحديث البنى والعقليات، قد قادت إلى أن يصبح للدولة ذاته جهاز للهيمنة خارج على المجتمع وصولاً إلى إلغائه، وهو ماكانت نتيجته تفاقم القطيعة بين الحاكمين والمحكومين.

وهذا التطور المفرط للجهاز كان يعني في الوقت نفسه غياب فضاء عام محدد بصورة متميزة، ومجهز بقواعده الخاصة وبممثليه. وبمقدار ما كانت الدولة غير مفصولة عن المجتمع، كانت لا تستطيع تمثيله. والدولة التي كانت تشكل وحدة تامة مع جهازها وبيروقراطيتها، كانت خارجة عن المحكومين. إن الصفة الخارجية والتداخل، وجدا التعبير عنهما في، في العديد من البلدان، في مجمع الدولة - الحزب " .

إن ما يميز الدولة في العالم العربي بعد الاستقلال هو طغيانها الكلي على مجموع المجتمع المدني بواسطة أنظمة حكم شديد المركزية أو حزب سياسي ذي طبيعة شمولية، ولكنه اكتسب شرعيته السياسية والتاريخية بفضل النضال ضد الاستعمار أو بفضل " الشرعية الثورية " عن طريق الانقلابات العسكرية، وهيمنت عليه أيديولوجيا توفيقية أو أيديولوجيا شمولية اقصائية .
ومن جهة أخرى فإن المشروع التحديثي الذي أطلقته دولة الوصاية (حسب تعبير د.المنصب وناس، المصدر السابق) على المجتمع المدني، قد تم في سياق خيار أيديولوجي هجين، أدى إلى تعميق التبعية الثقافية للخارج وفاقم التناقضات الاجتماعية والطبقية في الداخل. ومن الواضح أن التوتر والصدام بين " دولة الوصاية " التي تجسد في أيديولوجيتها القومية الكلية، وفي خطابها السياسي والثقافي سياسات تهدف مخاطبة المجتمع المدني، بهدف تدويله و " تنويره " بأسلوب تلقيني ووصائي.

وفي لحظة تاريخية " فريدة " ، انكشفت الهشاشة التكوينية للدولة العربية الجديدة المنبثقة من عهد الاستقلال السياسي، وانكشف معها طابعها المركزي التسلطي بعد إجهاضها للحظة الليبرالية التي كانت تشكل المجال السياسي الوحيد للمعارضة السياسية. وهذا يقودنا إلى القول بأن سيرورة تشكل الدولة العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البرجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي من ناحية أخرى. وهذه الدولة الجديدة التي اضطلعت بتطبيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً والذي وسم المجتمع الكولونيالي بالتجزأ، والتذرر، والتباعد، والتنافر بين مختلف أطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة والاقتصاد، والمتغلغلة في بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة الحديثة التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه. وكانت هذه الدولة تمثل في الوقت ذاته العنصر التكويني الرئيسي للعلاقات الرأسمالية وكونها "العلاقات الرأسمالية" باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة، وكانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الإمبريالية الغربية بامتياز. لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولاً إلى تدويله، وإلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة التي امتلكت ناصية الاستبداد المحدث من "مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم مركز السلطة" من ناحية، ومن خلال "احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع "عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته"، و"بقرطة الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام وإما بإحكام السيطرة عليه بالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين"، من ناحية أخرى .

إن مشروع التحديث الذي تبنته الدولة الجديدة منظور إليه من زاوية انعكاساته على مستوى المجتمع المدني، وفي علاقة الدولة بالمجتمع المدني، قد قام على أساس تجربة الحزب الشمولي الواحد أو الحاكم الأوحد ملكا أم رئيسا، وشرعية الزعامة الفردية السياسية والتاريخية للرئيس أو الملك، التي تتحكم فيها عقلية التكيف والاندماج والتحول في المراحل التاريخية التي خاضتها. وتكمن خصوصية التحديث في البلدان التي قامت بذلك في انفصاله الكلي عن المسألة الديمقراطية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بطبيعة المؤسسات السياسية والدستورية التي تفرزها، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية، وتوجيه التنمية وفق اختيارات اقتصادية - اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة. وفي هذه المعادلة غير المنطقية التي تقيم جداراً صينياً بين مشروع التحديث ونمط الديمقراطية تكمن أزمة الفئات الوسطى الحاكمة في دينامية بناء السلطة، وقضايا التحديث والتحرر، من حيث أنها نخبة مارست الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع، وأفرغت العملية السياسية من المعارضة حين ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، وإخضاعها المنظمات الاجتماعية والجماهيرية لهيمنة الحزب الحاكم، وتصفية أو تحجيم نشاط القوى السياسية الأخرى، وتزييف المدن من خلال تهميش فئات الفلاحين وإبعادها عن كل تأثير سياسي، وازدياد تدخلها في الاقتصاد، وخلقها مجالها السياسي الخاص بها. وأصبحت هذه البيروقراطية تعتبر نفسها هي المالكة الوحيدة لمعنى الدولة، مجسدة بذلك ظاهرة استبدادية محدثة من خلال احتكارها المطلق للدولة إلى الدرجة التي تقضي فيه بإطلاقية على كل مكونات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية الأخرى، وعبر سيطرة نزعة التماثل أو التماهي الشمولية السرمدية مع الدولة. وكما يقول الدكتور خلدون النقيب، في دراسة جادة، فإن هذه الدولة البيروقراطية التسلطية في " العالم الثالث " هي تشويه للدولة البيروقراطية الليبرالية الحديثة، من حيث افتقارها إلى القيود والضوابط الدستورية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإن النظام الاقتصادي للدولة البيروقراطية التسلطية وهو رأسمالية الدولة التابعة (تابعة لدول المركز الإمبريالية) هو تشويه لنمط الإنتاج الرأسمالي .

إن الدولة البيروقراطية الحديثة التي تعتبر نفسها هي الممثلة للمجتمع، قامت بإقصاء مختلف مؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب السياسية المعارضة، إلى النقابات المهنية والعمالية، مروراً بالمؤسسات الاجتماعية المختلفة، من مجالها السياسي، وبنت النخبة السياسية -الإدارية الحاكمة فيها نموذج الدولة التسلطية، التي تعاظم دورها في مختلف الميادين والنشاطات الاقتصادية تحت شعارات مختلفة. وقد اتجهت الدولة في العديد من البلدان نحو احتكار مصادر القوة والثروة في المجتمع عبر انتهاج طريق رأسمالية الدولة وخلق القطاع الحكومي وتقويته، في إطار نمط الاستيعاب من قبل النظام الرأسمالي العالمي، بما يجعل الاقتصاد الوطني تابعاً لمتطلبات السوق الرأسمالية العالمية. حيث يلاحظ ان هذه الفترة شهدت عملية تغلغل الاحتكارات الرأسمالية في الاقتصاد الوطني، وأسهمت في تعميق تبعية البنية الاقتصادية والمالية والسياسية، كنتيجة لذلك، وقدمت ميزات سياسية كبيرة جداً للدول الرأسمالية المتطورة.

غير أن العواقب لهذه التجارب كانت صارخة، وتمثلت في ازدياد التفاوتات الاجتماعية والتمايزات الطبقية، واشتداد الاستغلال الرأسمالي، وهو ما أدى إلى احتدام التناحرات الطبقية سواء في الريف أو المدن مع ازدياد تسلط البيروقراطية، واحتكارها الأعمى للقرار السياسي والاقتصادي، وممارستها الطغيان والاستبداد على الجميع الفلاحين، وقمع القوى الوطنية والديمقراطية، وضرب النقابات.
إن هذه العوامل مجتمعة قادت إلى تعميق التعارض بين "مجتمعين"، المجتمع السياسي الذي تهيمن فيه البرجوازية البيروقراطية أو الكمبرادورية الحاكمة، والمجتمع المدني الذي لم ينتظر أي شيء من الدولة، خصوصاً في ظل تفاقم البطالة وتعاظم التهميش الاجتماعي لقطاعات واسعة من السكان، واستعمال جهاز الدولة المركزية التسلطية في عمليات التحول الديمقراطي حتى المحاولات الخجولة منها التي تم تدشينها في بعض البلدان.

وبفعل ضغوط اجتماعية داخلية وضغوطات خارجية جرت محاولات خجولة لبعض الإصلاحات الديمقراطية المحدودة. غير أن عملية " التحول الديمقراطي " اصطدمت بعقبات بنيوية حقيقية، لعل أهمها الاختراق الإمبريالي للاقتصاد والمجتمع، وعلاقات التبعية للنظام السياسي إزاء المراكز الرأسمالية الغربية التي وفرت له موارد مالية عن طريق القروض والتسهيلات الائتمانية للديون، والتي تكرس في الوقت عينه تسلط الطبقة البرجوازية الحاكمة المهيمنة، التي نجدها غير مستعدة لتقديم تنازلات لمصلحة الإصلاحات الديمقراطية. والملاحظة المثيرة للانتباه، وهي مفارقة أيضا، أن عملية الانتقال نحو التعددية التي جرت في بعض البلدان العربية تمت تحت قيادة جهاز الدولة البيروقراطية. لقد أصر هذا الجهاز على وضع نفسه وصياً على المجتمع المدني الأمر الذي أدى إلى ضعف المجتمع المدني، وانسحاب تكويناته وقواه الحية من المجال السياسي، الذي ملأته الدولة التسلطية المستندة إلى اقتصاد كومبرادوري ريع في معظم الأحيان.

من المجرد إلى الملموس.
المجتمع المدني في البلدان العربية

بعض السمات الأساسية
تستند صياغة هذه الملاحظات على التقرير السنوي الثاني الصادر عن " الشبكة العربية للمنظمات الأهلية " نشر مؤخرًا والذي يتناول تطورات القطاع الأهلي خلال عام 2002. يقع هذا التقرير في 270 صفحة، ويغطي 16 دولة عربية، هي: الأردن، والإمارات العربية، والبحرين، وتونس، والجزائر، والسودان، وفلسطين، وقطر، والكويت، ولبنان، وليبيا، ومصر، وسوريا، والمغرب، وموريتانيا، واليمن. كما شارك في إعداد هذا التقرير حوالي 20 باحثًا وخبيرًا من المختصين في شئون العمل الأهلي والمجتمع المدني العربي.

يتبع >