[color="blue"]شبهات منكري وجود ابن سبأ و تفنيدها : حاول نفر من الكتاب المعاصرين نفي وجود ابن سبأ، و ذهبوا في أمره مذاهب شتى، فمنهم من أنكر وجوده، و منهم من قال : لو سلمنا بوجوده جدلا، فإننا ننكر أن يكون له كل ذلك التأثير في الفتن التي حصلت في مقتبل عمر الدولة الإسلامية، و سنعرض لهذه التشكيكات والأوهام لبيان زيفها.
أولا: شبهات مرتضى العسكري : حاول مرتضى العسكري، عميد كلية علوم الدين بالنجف الأشرف، إثبات أن معظم المؤرخين الذين تطرقوا للحديث عن عبد الله بن سبأ، أخذوا معلوماتهم عن الطبري، و أن الطبري اعتمد على روايات الإخباري سيف بن عمر( 28) الذي جرحه علماء الجرح و التعديل.
يقول مرتضى العسكري : ( فإذا راجعنا كتب الرجال للبحث عن شخصية سيف، وجدناهم يصفونه بأنه : يروي عن خلق كثير من المجهولين، ضعيف الحديث، ليس بشيء، متروك، يضع الحديث، و هو في الرواية ساقط، يروي الموضوعات عن الثقات، و عامة حديثه منكر، متهم بالوضع و الزندقة ) ( 29 ) .
و نقول : لقد جرحه علماء الجرح و التعديل، فقال عنه النسائي : (سيف بن عمر الضبي ضعيف)(30)
و قال عنه أبو حاتم الرازي : ( حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي فقال : متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي ) وقال عنه ابن معين : (سيف ضعيف الحديث) (31).
و ذكره الذهبي و اكتفى بالقول ( ضعفه ابن معين و غيره) (32).
و عند ابن حجر: (سيف ضعيف الحديث)(33). و لكن الطعن في مروياته من الأحاديث النبوية الشريفة، لا ينسحب بالضرورة على الأخبار التي يرويها، لأن الأحاديث النبوية جزء من التشريع تنبني عليها الأحكام، و يؤخذ منها الحلال والحرام، و تقام بها الحدود، فهي تتصل بأصل من أصول التشريع الإسلامي و هو السنة النبوية الغراء.
و يختلف الأمر في رواية الاخبار التاريخية، فهي وإن كانت مهمة، إلا أنها لا تصل أهميتها إلى درجة الأحاديث النبوية، و لا يتمخض عنها أحكام ملزمة، إذ كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك.. إلا ما صح من قول رسول الله-صلى الله عليه و سلم- . و لنعد إلى كتب الجرح والتعديل التي جرحت سيف محدثا، لنرى حكمها على سيف مؤرخا و إخباريا ،
قال الذهبي : ( كان سيف إخباريا عارفا )( 34) . و قال ابن حجر: ( ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ )(35) ، فلماذا نأخذ بعض الأقوال و نترك بعضها الآخر..؟ وفي الواقع إن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد الذي استأثر بأخبار عبد الله بن سبأ،بل ورد ذكر أخبار ابن سبأ وطائفته منقولة عن علماء متقدمين ، ورواة غير سيف بن عمر مثل:
أ- جاء في ( طوق الحمامة ) ليحيى بن حمزة الزبيدي عن سويد بن غفلة الجعفي الكوفي المتوفى عام (80هـ/699م) أنه دخل على علي-رضي الله عنه- في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر و عمر بسوء، ويروون أنك تضمر لهما مثل ذلك، منهم عبد الله بن سبأ، فقال علي: مالي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال : معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن، ونهض إلى المنبر، حتى اجتمع الناس أثنى عليهما خيرا، ثم قال : إذا بلغني عن أحد أنه يفضلني عليهما جلدته حد المفتري (36).
ب- أخرج ابن عساكر عن زيد بن وهب الجهني الكوفي المتوفى عام (90هـ/709م) قال: (قال علي بن أبي طالب: مالي ولهذا الخبيث الأسود-يعني عبد الله بن سبأ- و كان يقع في أبي بكر و عمر)(37).
ج- روى ابن سعد في طبقاته عن إبراهيم بن يزيد النخعي الموفى عام (96هـ/714م) إن رجلا كان يأتيه فيتعلم منه، فيسمع قوما يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أن أتعلم من هذا الرجل؟ و أرى الناس مختلفين في أمر علي و عثمان فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي(38) .
د- اخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن الشعبي عمر بن شراحيل الحميري اليمني المتوفى عام (103هـ/721م) قال: ( أول من كذب عبد الله بن سبأ ).
و اخرج ابن عساكر كذلك عن ابن الطفيل عامر بن وائلة الليثي الصحابي المتوفى عام (110هـ/728م) قال : ( رأيت المسيب بن نجية أتى به ملبيه-يعني ابن السوداء- و علي على المنبر، فقال علي: ما شأنه؟ فقال: يكذب على الله ورسوله)( 39) .
هـ – نقل الإمام الطبري إن قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى عام (117هـ/735م) كان إذا قرأ قوله تعالى: ( فأما الذين في قلوبهم زيغ… الآية) قال: (إن لم يكونوا الحرورية و السبئية فلا أدري) (40) .
وكما هو واضح فإن أصحاب هذه الروايات لم يذكر رواتها أنها نقلت عن سيف.. مما يدل على أن هذا الخبر لم ينفرد به سيف بن عمر التميمي، بل ورد عن رواة آخرين، وبعضهم متقدم على سيف، ومع أن الأستاذ مرتضى العسكري يرفض الأخذ برواية (سيف) بحجة أن علماء الجرح و التعديل جرحوه-محدثا وليس إخباريا- إلا أننا نجده يأخذ بروايات (أبو مخنف) (41) الذي جرحه علماء الجرح و التعديل محدثا و إخباريا.
قال عنه ابن معين: (ليس بشيء) (42). وقال عنه الذهبي: (وهو ليس عمدة في التاريخ كما هو شأن سيف بل هو إخباري تالف لا يوثق به)(43).
وبمثل ذلك وصفه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان (44).
و أبو مخنف هذا لم يشر في أحداث فتنة عثمان إلى السبئية، و أول إشارة لابن سبأ عنده تعود إلى أيام علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-إذ يذكر أنه بعد موقعة النهروان جاءه ( عبد الله بن سبأ الله بن وهب الراسبي الهمداني رأس الخوارج وهو ابن سبأ –والصواب: هو وابن سبأ – ومعه حجر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي، وحية بن جوين البجلي، ثم العرني، و سألوه عن رأيه في أبى بكر و عمر، فغضب منهم و قال: أو قد تفرغتم لهذا؟) (45)
هذه أول إشارة عند إخباري غير سيف لاعتقاد ابن سبأ بأحقية علي بالخلافة، وفيها أيضا إشارة إلى وجود ابن سبأ عند إخباري يثق به مرتضى العسكري نفسه، و يشير أبو مخنف إلى السبئية بصورة مقتضبة بعد استشهاد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ويفهم منه أنها الفئة التي توالي عليا ، ووصف- زياد بن أبيه – حجر بن عدي الكندي( 46) و أصحابه بأنهم (السبئية الجانية) (47) وبأنهم (الترابية السبئية)(48) وذكر أبو مخنف أن شبت بن ربعي الرياحي تهكم على أصحاب المختار، ووصفهم بأنهم سبئية، ووصفت أشراف الكوفة المختار واتباعه بأنهم سبئية – أثناء إحتجاجهم على المختار الثقفي قبل موقعة ( جبانة السبع ) التي انتصر فيها المختار سنة 66 للهجرة (49)، حيث قالوا: (أظهر و سبئيته البراءة من أسلافها الصالحين) (50) ، كما وصف الخوارج أصحاب علي – كرم الله وجهه – بأنهم (سبئية) (51) ، و كل هذه الروايات الواردة عن أبي مخنف، و الروايات السابقة عن سيف وغيره، تفيد أن عبد الله بن سبأ و أتباعه، كانوا من عالم الحقيقة لا عالم الخيال …. كما ادعى مرتضى العسكري، وتجريحه للخبر على انه مروي عن سيف لا محلله، إذ ورد عن غيره فسيف ليس هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ، كما أن ابن عساكر لم تقتصر طرق روايته على سيف، وإنما أورد في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وكلها تثبت وجود ابن سبأ وتؤكد أخباره.
كما تنوعت المصادر الشيعية التي أثبتت وجود – ابن سبأ _ وتشمل هذه المصادر الشيعية كتب الفرق، وفي مقدمتها كتاب الناشئ الأكبر(ت 293هـ): مسائل الإمامة ومقتطفات من كتاب الأوسط في المقالات (52) وكتاب المقالات والفرق( 53) للقمي (ت 301هـ) وفرق الشيعة ( 54) للنوبختي (ت 310هـ) وكذلك كتب الرجال، ومنها رجال الكشي (55) (أبو عمرو محمد بن عمر،ت 340 للهجرة) (56) وقد نقل أكثر من رواية مسندة تؤكد حقيقة ابن سبأ، وكتاب رجال الطوسي (57) ( محمد بن الحسن الطوسي، ت 460هـ) و كلها تثبت وجود ابن سبأ وتدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار وجود عبد الله بن سبأ ، أو التشكيك في أخباره، و مع ذلك فقد رفض العسكري أخبار الرواة، ولم يقنع بما نقله الحفاظ الثقات، وشنع على كتاب الملل و النحل، و لم يكتف برد أخبار علماء أهل السنة، وإنما رد ما كتبه أئمة الشيعة. [/color]