تابع...
وبين توظيفها في الدول العربية سنلاحظ أن الأولى ركزت على استيراد المواد الخام الأولية ذات الأسعار المنخفضة اللازمة للتنمية الصناعية وأخذت بتصدير السلع ذات الأسعار المرتفعة, لتنتقل في مرحلة لاحقة إلى تصدير رأس المال الأجنبي إلى الدول النامية، فقد أدركت أن الدول النامية تعتبر أرضية خصبة لاستثماراتها. أما الدول العربية فقد ركزت على استيراد السلع الاستهلاكية والرأسمالية ذات الأسعار المرتفعة وأخذت بتصدير الكثير من مواردها الطبيعية على شكل مواد خام وبأسعار زهيدة. هذا التخصص في إنتاج المواد الأولية أدى إلى تعريضها إلى آثار الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها أسواق هذه المواد والتناقضات التي شهدتها الأنظمة الاقتصادية.
3- تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج
في الوقت الذي كانت فيه سياسة الإقراض على قدم وساق لسد الفجوة التمويلية للمشروعات التنموية, كان الفساد الإداري والمالي والسياسي يعم أجهزة الدولة ومؤسساتها في معظم الدول العربية. وقد نجم عن هذا الفساد نهب جانب كبير من القروض الخارجية وتهريبها إلى الخارج وتم إيداعها في البنوك الأجنبية لحساب أصحاب النفوذ والسلطة ورجال الأعمال القريبين منهم, وأدت هذه الظاهرة إلى تراكم الديون وفشل التنمية.
4- الاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة
أدى هذا التوجه إلى تزايد الحاجة إلى الواردات الغذائية وإهمال الزراعة كدعامة هامة لاقتصاديات تلك الدول, والاهتمام بالصناعة التي تتطلب بطبيعتها كثافة رأسمالية تفوق طاقات أغلب الدول العربية –غير النفطية خاصة- مما أدى للجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل هذه الصناعات.
5- العجز المتزايد في ميزان المدفوعاتأدى العجز المستمر لموازين المدفوعات في معظم الأقطار العربية الناجم عن تزايد الواردات السلعية على حساب الصادرات إلى اختلال تجاري واضح تسبب باللجوء إلى الاقتراض الخارجي وتفاقم المديونية
ثانياً: الأسباب الخارجية
1- ارتفاع أسعار الفائدة
[/b]كان للارتفاع الشديد الذي طرأ على أسعار الفائدة في أسواق المال الدولية دورا حاسما في استفحال أزمة المديونية, إذ تجاوزت في العديد من البلدان الفوائد الزائدة المدفوعة قيمة التمويل الإضافي الصافي وتكبدت البلدان المدينة مبالغ متزايدة عبر السنين وأصبح بند خدمة الدين يمثل نصيبا هاما من صافي الديون ويستحوذ على مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي.
2- انخفاض الأسعار العالمية للمواد الخامأدى انخفاض أسعار المواد الأولية المصدرة إلى الأسواق العالمية (كالبترول والمواد الخام الأخرى) إلى تدهور شروط التبادل التجارية للبلدان المصدرة لهذه المواد، مما أدى إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات الذي يزيد من الميل إلى الاستدانة الخارجية.
3- آثار الركود التضخمي السائد في معظم الدول الرأسمالية
نظرا لاندماج معظم الدول النامية -ومنها الدول العربية- في النظام الاقتصادي العالمي وتبعيتها له تجاريا وغذائيا ونقديا وتكنولوجيا فضلا عن التبعية العسكرية والسياسية, فإن ما يحدث في هذا النظام من تقلبات وأزمات يؤثر تلقائيا في الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان.
ومنذ بداية الثمانينيات أفرزت السياسات الانكماشية التي طبقتها معظم الدول الرأسمالية الصناعية حالة من الركود الاقتصادي مصحوبة بالتضخم أصبحت تعرف بالتضخم الركودي الذي أثر كثيرا في الأوضاع المالية وانخفض حجم العملات الأجنبية فيها, في الوقت الذي تزايدت فيه مدفوعات خدمة الدين وتفاقمت صعوبات الاقتراض الخارجي وخاصة بعد انفجار أزمة الديون الخارجية عام 1982.
خلاصة
نخلص مما سبق إلى أن أزمة المديونية للدول العربية هي أزمة بنيوية خطيرة وعميقة نابعة من عدم ملاءمة السياسات الاقتصادية المتبعة في الواقع الاقتصادي العربي مع خصوصيات هذه الدول. وهي حقيقة أكدتها التقارير الاقتصادية الدولية والدراسات القطرية الخاصة بتحليل أوضاع هذه الدول. فالتوجهات الاقتصادية لأي أمة من الأمم يجب أن تكون نابعة من التوجهات الكبرى لمنهجها الحضاري وأن تستمد منهجها الاقتصادي من خصوصيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يخصها.إضافة إلى هذا السبب المركزي تضافرت عوامل داخلية وأخرى خارجية عملت على تفاقم الأزمة، فعلى المستوى الداخلي أدى سوء توظيف الأموال المقترضة وتهريبها والاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة إضافة إلى العجز المستمر في ميزان المدفوعات إلى تفاقم الأزمة.
أما على المستوى الخارجي فتتمثل أهم أسباب المديونية في ارتفاع سعر الفائدة في الأسواق المالية الدولية وانخفاض أسعار المواد الأولية التي تعتبر أهم صادرات الدول النامية عموما -ومنها الدول العربية- إضافة إلى التضخم الركودي.
غير أنه يجب أن نشير إلى أن أزمة الديون الخارجية يجب ألا نحصرها ونفسرها بأنها مجرد مشكلة سيولة دولية, فهي ذات علاقة وثيقة بصميم الهيكل الاقتصادي والاجتماعي السائد في تلك البلدان.فهل تستغل هذه الأموال المقترضة في تمويل الاستهلاك التجاري أم الاستثمار؟ وما معايير الاستفادة من القروض الخارجية؟ وهل يمكن أن تسهم في تحقيق التمويل الذاتي في المستقبل؟
وفي الأخير إذا ظلت الدول العربية تقترض لشراء السلع الاستهلاكية الضرورية والإنفاق على شراء الأسلحة التي يبدو أنها في الأزمات والتحديات الكبرى لا تفتك بالعدو ولا تشكل حتى رادعا له -وما الأحداث الأخيرة في فلسطين عنا ببعيد- فإن الدول العربية ستظل في حاجة إلى الاستدانة الخارجية.
__________________