لكبار غائبون والصغار يدفعون الثمن
جنوح الأحداث بين الأسرة والمدرسة
التاريخ: 17 أكتوبر 2010
على الرغم من كونه الابن الأكبر للأسرة، وعمره 14 عاماً، إلا أنه بعيد تماماً عن الدور الذي يجب أن يلعبه في هذه المرحلة كقدوة لأشقائه الأصغر منه، شكت والدته من تغيبه عن المنزل لفترات طويلة تصل إلى أسابيع، وكانت المفاجأة الأقسى أنه استبعد من المدرسة لنفس السبب.. الغياب المتكرر دون مبرر.
هنا تظهر مجموعة من الأسئلة تبحث عن إجابات مقنعة، ما الذي يدفع مراهقاً في هذه السن إلى التغيب عن المنزل والمدرسة والتخلف الدراسي عن أقرانه؟ وما هي الدوافع التي تغير مسار هذا الحدث من فتى صالح إلى مشروع مراهق خارج على القانون؟ وماهي السبل العلمية التي يمكن ندرأ بها هذا الانحراف عن أبنائنا الطلاب في نفس المرحلة؟ وما هو دور المدرسة في حماية النشء؟ عقدة الحرمان في البداية توجهنا بالأسئلة لخليل البريمي مدير دار التربية الاجتماعية بالشارقة، والذي قال من واقع تجاربه مع فئة المراهقين الجانحين إن هناك مجموعة من الأسباب التي تدفع بالحدث إلى الجنوح أو الانحراف، وتتوزع هذه الأسباب ما بين اجتماعية أو اقتصادية، أو أسباب ترتبط بالبيئة الخارجية للمراهق أو أسباب تكنولوجية أو دراسية، مثلاً الأسباب الاجتماعية تتلخص في مدى رعاية الوالدين للمراهق سواء أكان ذكراً أو أنثى.
ومدى شعور المراهق بالرابطة التي تربط أفراد الأسرة بعضهم ببعض وتربطه هو شخصياً بهم، وكلما كان الرابط بين المراهق وأفراد أسرته ضعيفاً كلما كان اتجاهه إلى الجنوح كبيراً، وكلما يزيد شعوره بعدم الانتماء إلى هذه الأسرة أو بضعف هذا الانتماء كلما زادت الفرصة لتحوله إلى الجنوح.
الشعور بالانتماء
ويضيف مدير دار التربية الاجتماعية بالشارقة أن الأسباب الاقتصادية هي ضعف الموارد المالية للأسرة، ورغبة الابن أو الابنة في تحقيق هدف معين لا يتم تحقيقه إلا من خلال سداد فاتورته المادية، واصطدام المراهق بإمكانات الأسرة التي لا تساعده على تحقيق مراده.
وظهور عقدة التحدي والحرمان، والرغبة في الحصول على الهدف بأي ثمن حتى ولو كان هذا الثمن مخالفاً للأعراف والتقاليد والقوانين السائدة، وربما يكون الحصول على هاتف متحرك مثلاً أحد الأمثلة الصارخة على ذلك، إذ يشعر البعض من هؤلاء بالرغبة العارمة في الحصول على هاتف حديث يتماثل مع هاتف الصديق لمجرد التفاخر، أيضاً السيارة تخضع لنفس المثل.
ويشير البريمي إلى الأسباب المرتبطة بالبيئة المحيطة بالمراهق والتي تتمثل في أصدقاء السوء أو الاختيار الخاطئ للمثل الأعلى للمراهق حيث يختار أحد الشخصيات الشريرة من واقع السينما أو الروايات الخيالية كمثل أعلى، وأصدقاء السوء من أهم العوامل المؤثرة في مستقبل المراهق، خاصة إذا توافر العامل الأهم اجتماعياً وهو فقدان الشعور بالانتماء إلى الأسرة، وهنا يكون تأثير أصدقاء السوء كبيراً لأنهم أصبحوا مرجعيته الوحيدة في غياب المرجعيات الأصيلة.
وينفي خليل البريمي أن يتناقص تأثير أصدقاء السوء على المراهق مع مرور الوقت كما يزعم البعض، ويؤكد أن هذا التأثير في غياب فعالية الأسرة واحتضانها لأحد أفرادها يتزايد ولا يتناقص لأنه يشعر مع الوقت بسلاسة الاندماج معهم أكثر من أية فئة أخرى في المجتمع، والمسألة لا تنتهي عند تأثره بهم، ولكن العكس أيضاً صحيح، فهو يؤثر أيضاً في هذه الجماعة من أصدقاء السوء، ومع مرور الوقت لا يستغنى هؤلاء عنه حتى ولو رغب هو في الاستغناء عنهم، وبالتالي كلما فر منهم جذبوه، وهكذا.
ويضيف البريمي أن الوالدين قد يقعا في محظورات تربوية غير مقصودة تسهم بصورة غير مباشرة في وقوع المراهق في براثن الجنوح، أهم هذه المحظورات التدليل الزائد للابن والاستجابة لكل طلباته المنطقي منها وغير المنطقي خشية إغضابه.
وهذا الخطأ يساعد على تكوينه لصورة غير صحيحة عن مفردات المجتمع الذي يعيش فيه، وتتلخص هذه الصورة في أنه يستطيع أن يحصل على كل ما يريد وقتما يريد وكيفما يريد، وعند أول اصطدام له بالواقع الفعلي بعيداً عن الأسرة واكتشافه أن هناك ما لا يستطيع الحصول عليه يبدأ في التمرد على التقاليد والمواريث المتعارف عليها.
العوامل الأسرية
وتسهم بعض العوامل الأسرية في انحراف الأحداث والمراهقين، منها التفرقة بين الأبناء لأي سبب كما يتسبب نقص الوعي الديني لدى فئة المراهقين في الإقدام على ارتكاب مخالفات شرعية ومجتمعية، وللأسف نجد بعض المراهقين تجاوز 15 عاماً ولا يعرف شيئاً عن شؤون دينه.
ومن المعروف علمياً أن تأثير الدين إيجابي على هذه الشريحة السنية، علاوة على ظهور وسائل تكنولوجية حديثة تحتمل الاستغلال على الوجهين، إما الاستغلال الصحيح والعقلاني أو سوء الاستغلال، وقد يقع بعض المراهقين في براثن سلبيات هذه الوسائل مثل الانترنت والتليفزيون والسينما وألعاب الفيديو جيم المستحدثة.
ومن وجهة نظره قال عاطف سالم موجه الرعاية الاجتماعية بمنطقة الفجيرة التعليمية إن محاولة إدراك الأسباب التي تدفع المراهق إلى الانحراف لابد أن تبدأ بفهم طبيعة ودور المؤسسات الاجتماعية التي تسهم في التنشئة الاجتماعية، وأول هذه المؤسسات هي الأسرة ثم المسجد ثم المدرسة ثم النادي وجماعة الأصدقاء ووسائل الإعلام..
كل هذه المؤسسات شريك فاعل يقوم كل منها بدور مختلف عن غيره، والتغيب الدراسي كواحد من صور الانحراف السلوكي له أسباب، مثلاً لم يخلق أحد منا وهو يعشق اللغة العربية ويكره اللغة الإنجليزية أو العكس.
ولكن تسهم عوامل معينة في تنفير الطالب من مادة أو أكثر، ومن هنا يبدأ المراهق في تنفيذ حلول تتفق مع حداثة سنه وقلة تجربته، فيلجأ إلى الغياب عن المدرسة في يوم دراسي معين لأنه يصادف الحصة الأسبوعية لهذه المادة.
معرفة الدوافع
ويؤكد سالم أننا نصل إلى الحلول إذا ما عرفنا الدوافع، ويمكن بمهارة الاختصاصي الاجتماعي والتواصل مع الوالدين ومدرس المادة حل المشكلة وربما يتحول الطالب إلى متفوق في هذه المادة على وجه التحديد، وعلى سبيل المثال إذا لاحظ الاختصاصي تكرار غياب الطالب يوم الثلاثاء فعليه أن يبحث وراء السبب، فقد يكون هذا الطالب يكره مادة وقد يكون السبب في أنه يرافق والدته إلى مراجعتها الطبية الأسبوعية في المستشفى وهكذا.
ويقول أيضاً أن رغبة المراهق في إثبات ذاته والدخول المبكر إلى سوق العمل والاعتماد على الذات في الكسب المادي قد يدفع المراهق إلى التغيب عن الدراسة للبحث عن فرصة عمل حرفية تناسب إمكاناته.
ويضيف سالم أن الفشل الدراسي خلال المرحلة الإعدادية أو الثانوية لا تعني نهاية العالم، فهناك فرص تعليمية عديدة يمكن للطالب تحويل مساره إليها، وهناك معاهد متخصصة تقبل المتسربين من المدارس يمكنها استيعاب هذه الفئة وتأهيلها للعمل الحرفي الذي يرغب فيه كل منهم.
وهذه المعاهد تصرف مكافآت شهرية للطلاب تزداد مع الترقي في السنوات الدراسية، وتكون الدراسة فيها تطبيقية أكثر منها نظرية، وهذه طريقة فعالة لتحقيق النجاح دون الاصطدام بمفردات المجتمع ومسلماته ودون ارتكاب أي نوع من الحماقات أو الخروج على القانون، وتسهم هذه المعاهد في إلحاق خريجيها بالعمل في إحدى مؤسسات الدولة طبقاً لاتفاقات مبرمة بينها وبين هذه المؤسسات، ويؤكد أن كل شخصية تعد مؤهلة لنوع من العطاء، فهناك شخصية تصلح للعمل الإداري وأخرى تصلح للعمل المهني وثالثة للحرفي، وهكذا.
اختصار المسافات
ويحذر عاطف سالم من مغبة انشغال الأب والأم عن الابن بأمور الحياة الأخرى، وينبه إلى أن العلاقة بين الآباء والأبناء تحولت إلى علاقة استفهامية أو استجوابية تتلخص في توجيههما الأسئلة إلى الابن من نوعية: هل أكلت؟ هل ذاكرت؟ هل نجحت؟ هل نمت؟
وغاب عن هذا النوع من الآباء احتضان الأبناء والتقرب إليهم عبر تقليص المسافة المعنوية التي تفصلهم عنهم، هذه المسافة التي تدفع بالمراهق إلى التوجه بأسئلته الخاصة إلى الزميل الدراسي أو صديق الفريج، وهم لا يزيدون في خبراتهم عنه باعتبارهم في نفس سنه، وتكون النتائج سلبية على الطرفين الأبناء والآباء.
ويدق عاطف سالم ناقوس الخطر من خلال ظاهرة اهتمام الوالدين بمتابعة برامج ومسلسلات المحطات الفضائية الشيقة، وترك الأبناء يستقون معارفهم ومعلوماتهم من خارج القنوات الطبيعية الممثلة في الأب والأم، ويؤكد أن الاستماع إلى الأبناء ليس منتشراً للأسف في ثقافتنا العربية بشكل عام، فقد تعودنا أن يسمعونا هم ونسمع نحن منهم ما يجيبون من خلاله عن أسئلتنا.
ويطرح موجه الرعاية الاجتماعية حلولاً لانحراف وجنوح الأحداث أهمها تثقيف الوالدين بما يكفي لمواجهة المشكلات المرتبطة بالأبناء وتوفير الحلول المنطقية السليمة لها، كما يؤكد على ضرورة تأهيل الزوجين عند زواجهما تأهيلاً تربوياً يسمح لهما بفهم أبعاد عملية التنشئة الاجتماعية.
ودور كل مؤسسة في هذه التنشئة، وحدود مسؤولياتهما كوالدين في تربية الأبناء ومواجهة حالات الانحراف السلوكي، أو العقوق المبكر بالحكمة منعاً لتفاقمها، مع أهمية مشاركة وسائل الإعلام في تحمل المسؤولية تجاه فئة المراهقين بمراعاة تقديم النماذج الحسنة لهم عبر القنوات المتعمقة في نسيج المجتمع مثل التليفزيون، مع ضرورة مراقبة المضامين التي يتعرض لها الأبناء من خلال القنوات الإعلامية الإضافية مثل الفضائيات والانترنت وألعاب الفيديو وأفلام السينما وغيرها.
الرفقة السيئة مفتاح الانحراف
قال الدكتور علي الحرجان اختصاصي الطب النفسي، إن غالبية الدراسات تدل على أن أسباب المشكلات السلوكية والأخلاقية والتدني الدراسي والهروب من المدرسة، ناتجة عن الرفقة السيئة، ومن هنا تبرز أهمية مراقبة الآباء لتصرفات أولادهم بطرق غير مباشرة لا تسبب فقدان الثقة بين الطرفين.
أيضاً يجب على أولياء الأمور التعرف على أصدقاء أبنائهم ولو بشكل يبدو عارضاً، وأي مصادفة مصطنعة تقود الأب مثلاً للتعرف على صديق ابنه ونفس الأمر للبنت ووالدتها، لأن الأصدقاء يتمتعون بمصداقية عالية لدى أصدقائهم، وفي مرحلة المراهقة أيضاً على الأب تحذير الأبناء من مغبة مخالطة أصدقاء السوء، وسياق نماذج حية تضرروا من الاختلاط بالمفسدين.
وعلى الأب توفير الإجابات المقنعة على أسئلة المراهق مهما كانت موغلة في التفاصيل، أو على الأقل توضيح الأمور الرئيسية التي تناسب سنه دون الخوض في التفاصيل، لأنه إذا لم تحصل أسئلة الطفل أو المراهق على الإجابة اللائقة لدى الأسرة، فإنه غالباً ما يلجأ إلى مصادر أخرى، وأحياناً تكون غير مأمونة، كرفقاء السوء الذين لهم تأثير كبير في الطفل والمراهق، وأحياناً نجد أن المثل السيئ أشد تأثيراً من الجيد.
أهمية التواصل مع الأبناء
للدلالة على أهمية التواصل مع الأبناء والاستماع الجيد لما يقولون، هناك قصة يتداولها الوسط التعليمي يختلط فيها الواقع بالخيال، هذه القصة يرويها عاطف سالم موجه التربية الاجتماعية بمنطقة الفجيرة التعليمية.. وتدور أحداث القصة حول أحد الأطفال الذي ذهب إلى والده أثناء متابعة الأب لمباراة كرة القدم وسأله في براءة: ما هذه الدائرة التي تواجه باب منزلنا؟ فأجابه الأب دون أن يحول نظره عن التليفزيون:
الزم الصمت حتى تنتهي المباراة.. ولكن الطفل أطرق لبرهة وعاد يسأل نفس السؤال متشبثاً بقميص والده، فاستشاط الأب غيظاً ونهر الطفل وطرده من الغرفة، وأغلق الباب وعاد يتابع المباراة.
وبعد أن انتهت المباراة بفوز الفريق الذي يشجعه الأب، خرج من الغرفة يرقص طرباً، ورفع طفله الذي انشغل بألعابه البلاستيكية، ولكن الطفل عاد يسأل والده نفس السؤال.. ما هذه الدائرة التي تواجه باب منزلنا؟
فأجابه الأب هذه المرة: إنها بالوعة المجاري.. ما شأنك بها؟
فقال الطفل: ليس لي شأن بخت، ولكنه شأن أختي التي اختبأت فيها أثناء لعبنا ولم تخرج حتى الآن!!