في ذكرى مظاهرات 11 ديسمبر 1960
الخطبة الأولـى :
الحمد لله رب العالمين و العاقبة للمتقين و لا عدوان إلا على الظالمين ،الحمد الله ناصر المظلومين، ومفرج الكربات عن المكروبين ،القاهر فوق عباده أجمعين ، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، و نشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له ، نصر عبده و هزم الأحزاب و حده وللمؤمنين حقق وعده ، قال تعالى: ﴿ يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعملهم ﴾ [محمد:7-8] ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخير خلقه، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وسلامه عليك يا حبيب الله وعلى آله والصحب والأتباع إلى يوم الوقت المعلوم أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون﴾ [البقرة: 281].
﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا ونساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾ [النساء : 01].
أيها الإخوة المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات تحل علينا ذكرى عزيزة من ذكريات هذا البلد الطاهر الذي صنع أبناؤه أمجادا و تاريخا بطوليا ما صنع مثيل له في عصرنا الحاضر. تحل الذكرى الخمسون لمظاهرات الحادي عشر من ديسمبر عام 1960 م التي رصّع فيها الشعب الجزائري تاجه الكفاحي بلؤلؤة من لآلئ بطولاته و إنجازاته التاريخية العظيمة ، حكاية هذه المظاهرات أن شعبنا كان يئن تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الغاشم لأزيد من قرن و ربع القرن ، و لما رفع رأسه و طالب بحقه في الحياة والحرية ، كان الجواب الفرنسي القمع و الاضطهاد و التقتيل و التشريد... لأبناء هذا الوطن ، فأدرك الشعب حينها أن ما أخذ بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بأسلوب القوة فرفع راية الجهاد و دوت صيحات الله أكبر في ربوع البلاد، وزئر المجاهدون الأشاوس فاهتزت أركان الجمهورية الرابعة ، وقامت على أنقاضها الجمهورية الخامسة.
وجاء الجنرال ديغول بسياسة استعمارية جديدة أراد من خلالها خنق الثورة التحريرية، و عزلها عن الشعب في الداخل و عزلها أيضا عن الخارج من جهة، و الإبقاء على الجزائر جزءا من فرنسا من جهة أخرى ، وذلك في إطار فكرة "الجزائر جزائرية" ، واقفا ضد المعمرين الفرنسيين الذين مازالوا يحملون فكرة "الجزائر فرنسية" ، فخرج المعمرون في مظاهرات مناهضة لسياسة ديغول و ذلك في 10 ديسمبر 1960م.
في ظل هذه الأجواء المشحونة خرج الشعب الجزائري في مظاهرات شعبية هائلة ، رافعا شعار "الجزائر مسلمة مستقلة" ، بدلا من شعار ديغول "الجزائر جزائرية" و شعار المعمرين "الجزائر فرنسية" ، وذلك عبر أرجاء البلاد كلها ، و التف الشعب حول الثورة مطالبا بالاستقلال الكامل . هذا ولم تقف السلطات الاستعمارية مكتوفة الأيدي، بل تصدت بوحشية لا مثيل لها لهذه المظاهرات ، فمارست كل أشكال القمع والتقتيل الجماعي و إرهاب أبناء الشعب المناضل و المكافح و قد دامت هذه المظاهرات أكثر من أسبوع في أكثر من مدينة .
أيها الأحبة : لقد كان لهذه الهبة الشعبية الكبيرة نتائج على عدّة أصعدة ، إذ بينت هذه المظاهرات مدى و حشية وغطرسة المستعمر أمام أنظار كل العالم، و عبرت أيضا عن مدى تشبث الشعب بالحرية ، و مبدأ تقرير المصير للشعوب فأدرج بسببها ملف القضية الجزائرية في الأمم المتحدة ، و كسب نداء الحرية تأييد أغلب شعوب العالم. الأمر الذي جعل فرنسا تجلس إلى طاولة المفاوضات و ترضخ لشروط الثورة.
عباد الله ، مظاهرات 11 ديسمبر 1960 كانت بداية النهاية للإستعمار الكولونيالي، فهي من آخر المسامير التي دقت في نعش سالبي الحرية . و هي لنا ذكرى خالدة في سجل إنجازات هذه الأمة ، أمة الجهاد ، أمة المقاومة ، أمة الثورة ، أمة الصبر على المكاره و رفع التحديات ، إنها أمة الجزائر .الأمة التي رفعت راية لا إله إلا الله فنصرها الله ، وشعبها الذي أعتدي عليه و ظلم ، و أخرج من دياره و قراه ومدنه، و هجر بلده - بغير حق- ظلما و عدوانا فأراد أن يسترد حقه و كرامته و عزته ، فجاهد في سبيل الله تعالى و صنع أعظم ثورة و أكبر ملحمة جهادية في العصر الحديث ،يقول الله تعالى ﴿ أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله﴾ [الحج 39-40].
أيها الأعزاء : التاريخ منصف و عادل و هو يقول : نعم لا يستوي الظالم و المظلوم ، المعتدي و المعتدي عليه ، الطيب و الخبيث ، المؤمن و الكافر ، جنون الاستعمار و رجال الثورة الأحرار و الله يقول لنا : ﴿ لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة ﴾ [الحشر : 20 ] ، ﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ﴾ [القلم 35-36] علمنا التاريخ و أنبأنا أن أبناء هذه الأرض الطيبة لا ينكسرون و لا يستسلمون و لا يخضعون أو يركعون .....للمحتل بل إنهم يجاهدون ، يقاومون، يناضلون ، يكافحون ...إنهم لدرب الحق سالكون ، لا يرضون الدنية لا في دينهم و لا في دنياهم ، ويعني عن كل هذا عبارة يرددها المجاهدون بينهم أثناء ثورة نوفمبر "موت واقف " و هي غنية عن كل شرح أو تعليق قال الشاعر :
بئسما تاج على رأس خانع ذليل و نعم ما قيد على يد ساعد حر أبي .
﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء ،و أما ما ينفع الناس فيمكت في الأرض﴾ [الرعد:17]
أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم ...
الخطبة الثانية :
الحمد الله فاطر السموات و الأرض ، الحمد لله غافر الذنب و قابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ، لك الحمد في الأولى و الآخرة . و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و نشهد أن محمدا عبده و رسوله ، اللهم صـل و سلـم و بارك على سيدنا محمد و على آل سيدنا محمد و على أصحاب سيدنا محمد و التابعين له بإحسان إلى يوم الدين أما بعد،
أيها المؤمنون أيتها المؤمنات : ثورة التحرير المباركة بأحداثها و صورها و مشاهدها، ومظاهرات 11 ديسمبر 1960 ترشدنا إلى أن قوة الأيمان و الثقة بالله في النصر لن تقف أمامهما القوة المادية للاستعمار الفرنسي الصليبي الذي سرق البسمة من شفاه الجزائريين لعقود طويلة ، و أراد أن يسلخ شعبا بأكمله من هويته ، و يطمس دينه و لغته و ثقافته ... بعدما أغتصب حريته ، فكان بحق أسوأ استعمار عرفته البشرية و إن كان الاستعمار كل الاستعمار عمل مشين لكن إرادة الله فوق إرادة الخلق : ﴿ و ما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ﴾
{ الإنسان : 30 } و البقاء ليس للأقوى ، بل للأصلح ، و من تمسك بحبل الله المتين نجا و أفلح ،قال تعالى : ﴿ و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و أذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداد فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ... ﴾{ ال عمران : 103} .
أيها الإخوة : أبناء نوفمبر امنوا بأن النصر من عند الله ، و أن النصر مع الصبر ، فبذلوا الغالي و النفيس في سبيل تحقيق هذا النصر الموعود ﴿ و لينصرن الله من ينصره ﴾{ الحج : 40 } ، و في سبيل نيل الحرية ، فباعوا أنفسهم و أموالهم لله مقابل ثمن هو جنة عرضها السموات و الأرض ، قال تعالى : ﴿ إن الله اشترى من المومنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ﴾{ التوبة : 111 } و كان الثمن باهضا أيضا في الدنيا ، مليون و نصف مليون شهيد و ملايين المشردين و الأيتام و الأرامل ... ، لكن جاء الذي في سبيله يهون كل شيء ، جاءت الحرية ،
و جاء الاستقلال .
الدعــــاء :
" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، و أصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا ، و اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، و اجعل الموت راحة لنا من كل شر " ( مسلم )
" ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيم "
( ااحشر : 10 ) .
عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربة و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله يذكركم و اشكروه على نعمه يزدكم ، و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .