أين ما قدمته الصحوة ؟؟؟
ومن الناس من يتجاهل كل ما ذكرناه، ويقول: أين ما قدمته الصحوة الإسلامية، من إنجازات، في مختلف جوانب الحياة؟ وما لنا لم نرها حلت مشكلاتنا، وعالجت أدواءنا وهمومنا؟
وهذا السؤال خطأ من عدة أوجه:
الأول: أن الصحوة إنما هي بداية حركة وانطلاق، وباكورة انبعاث ونهوض، فالإنسان حينما يصحو ويفيق يبدأ في العمل، ويشرع في السعي إلى ما يريد.
فليس من المنطلق أن يطلب من الصحوة أكثر مما يطلب من المستيقظ في أول النهار، أو من الشاب حينما يصعد أول درجات السلم الوظيفي.
الثاني: أن الصحوة ليست شيئا منفصلا عنا، مهمتنا أن نقف متفرجين عليه، ونطالبه بأن يحقق لنا الآمال، ويقرب لنا البعيد، ولم نفعل نحن شيئا! إنما الصحوة منا وبنا ولنا، ولا قيام لها إلا أن نكون معها، بل نكون لها.
الثالث: أن الصحوة لا تستطيع أن تنجز ما نريده منها، وما تريده هي من نفسها، إذا وضعت في قفص الاتهام، ووضعت ـ كما نرى اليوم في كثير من الأقطار ـ العراقيل في طريقها، وقذف أبناؤها بالحجارة والحصى من يمين وشمال، واتهمت بما هي منه براء، أو عوقبت بذنب غيرها، أو ضخم الخطأ يقع من بعض الأفراد المنتسبين إليها، لقد رأينا في بعض الأقطار السماح لكل التيارات ـ حتى الوافدة الملحدة ـ أن تعبر عن نفسها عبر صحف وقنوات ومؤسسات سياسية، إلا التيار الإسلامي، فهو ـ وحده ـ المصادر حقه، المكمم فوه، المحظور تحركه.
الرابع: أن الصحوة حركة عقل وقلب وإرادة، وقد بدأت هذه الحركة في الظهور والنمو والصعود، وإني واثق بإذن الله أنها سيكون لها ما بعدها، وفق السنن الكونية والاجتماعية، وأنها جديرة أن تتعلم من التجارب، وتستفيد من دروس الزمن وأخطاء الآخرين، لتصلح من مسارها وتنتقل من المراهقة إلى الرشد.
وصدق الشاعر الذي قال:
إن الهلال إذا رأيت نموه ***أيقنت أن سيصير بدرا كاملا!
ومن الكتاب المعاصرين من ينكر أن تكون هناك "صحوة إسلامية" لأن الإسلام لم ينم ولم يغب عن الوعي، حتى يصحو، فالإسلام كان ولم يزل بخير!
وآخر من قرأت لهم مثل هذا التحليل د. محمد الرميحي ـ رئيس تحرير مجلة العربي ـ.
وهؤلاء يشكرون على اعتبارهم الإسلام خيرا، وأنه كان ولم يزل قويا قائما.
ولكن من تجاهل التاريخ والواقع أن نجحد أن المسلمين في العصور المملوكية والعثمانية الأخيرة، كانوا قد جمدوا وتخلفوا، وباتت حياتهم كالماء الآسن، لا اجتهاد في الفقه، ولا إبداع في الأدب، ولا ابتكار في العلم، ولا اختراع في الصناعة، حتى غدا شعارهم: ما ترك الأول للآخر شيئا، وليس في الإمكان أبدع مما كان!!
كما لا يستطيع دارس منصف أن يجحد ما صنعه الاستعمار ـ منذ دخل ديارنا وتمكن منا ـ في العقول والأنفس وشتى شئون الحياة.
إن الغزو الثقافي والأخلاقي والاجتماعي أثر في حياتنا تأثيرا عميقا، حتى مزق شخصيتنا من الداخل، وجعلنا ـ إلا من رحم ربك ـ نعيش غرباء عن أنفسنا، غرباء ونحن في أوطاننا، ومع أهلينا وذوينا. إنها غربة النفس والفكر والروح، وليست كالغربة التي ذكرها المتنبي قديما: غربة الوجه واليد واللسان!
ومن المعاصرين من ينكر أن ثمة صحوة، لأنه لا يرى في كل ما جاءت به الصحوة إلا الجلابيب القصيرة، واللحى الطويلة، والخشونة في الدعوة، والجلافة في السلوك.
وهذا لعمري ظلم، أن تصور الصحوة بهذه الصورة، فهذه الصحوة قد نفع الله بها كثيرا من أبناء الجيل، فاهتدوا بعد ضلال الفكر، واستقاموا بعد انحراف السلوك، واستيقظوا بعد غفلة القلب، واهتموا بقضايا أمتهم الكبرى بعد أن كان اهتمامهم بتوافه الأمور.
عرفوا القرآن تلاوة وفهما، وعرفوا الحديث لفظا ودرسا، وعرفوا السيرة النبوية هديا ونورا، وعرفوا الشريعة مرجعا ومنهاجا، وتحرروا من التبعية الفكرية والنفسية للغرب والشرق، ولم يعد اعتزازهم إلا بالإسلام، ولا همهم إلا تحكيم شريعته، وتوحيد أمته، وتحرير أرضه، ترى منهم الصائمين والقائمين والركع السجود.
أين من هؤلاء آخرون يعيشون غافلين، لا يعرفون لهم هدفا ولا رسالة، أمواتا غير أحياء؟!
وآخرون لا هدف لهم إلا هم بطونهم، وشهوات فروجهم، أضاعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات، وباعوا أنفسهم بثمن بخس، نشوة سكر، أو غيبة خدر، أو فورة جنس، أو سهرة مجون؟!
إن من الظلم للحقائق أن نغفل كل ما يقوم به جيل الصحوة من علم وعمل، وبذل وعطاء، ولا نذكر إلا جلابيب الرجال، ونقب النساء!
على أن هذه ـ لو أنصفنا ـ إنما هي رمز للتحدي الحضاري، ودليل على التميز الثقافي، وعنوان على تماسك الشخصية في مقابل أولئك الذين أذابوا أنفسهم في حضارة الغرب.
ودعوني أقل بصراحة: إن لدى كثير من العصريين منا ما يشبه (الحساسية المرضية) ضد بعض الأشكال والأزياء التي يتخذها طائفة من أبناء الصحوة على اعتبار أنها آداب أو سنن أو حتى واجبات.
ومثل هذه الأشياء في المجتمعات الغربية تمر دون ضجيج ولا إنكار، فكثير من شبابهم يطلقون لحاهم، وكثيرون يطيلون شعورهم، وآخرون يحلقون بعض اللحية من أسفل، ويعفونها على الجانبين، ولا يثير هذا عليهم عجاجا، ولا لجاجا. على حين نجد إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، عندنا يثير من القيل والقال، ما يجعل منه باستمرار موضوعا دائم الاشتعال.
ومثل ذلك يقال في أزياء النساء، فما الذي يقلق إخواننا العصريين أن تلتزم الفتاة المسلمة بالحجاب، أو حتى بلبس النقاب؟!
لماذا لا يدخلون هذا في باب (الحرية الشخصية) كما يصنعون ذلك مع التي تلبس القصير الفاضح، ولا يمسها أحد ببنت شفة؟!
يوسف القرضاوي