المبحث الثاني: الاستقلالية الوظيفية للسّلطات الإدارية المستقلة
رغم أنّ درجة الاستقلالية تختلف من هيئة إلى أخرى - كما ذكرنا سابقا - إلا أنّه بالرّجوع إلى الأحكام القانونية المنظمة للسّلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، نميز نصوصًا تبين استقلاليتها في جانبها الوظيفي، وأخرى تجسّد ما يحد من هذه الاستقلالية.
المطلب الأوّل: مظاهر الاستقلالية الوظيفية
من بين أهم المؤشرات التي تبين استقلالية السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، وفي الجانب الوظيفي سنتطرق إلى الاستقلال المالي والإداري، والذي اعترف به المشرّع الجزائري بصفة خاصّة، إلى جانب وضع الهيئة المستقلة لنظامها الداخلي، وكذلك الشخصية المعنوية للسّلطات الإدارية المستقلة، رغم أنه ليس بعامل حاسم لقياس درجة الاستقلالية([41]).
الفرع الأول: الاستقلال المالي:
يعتبر الاستقلال المالي من بين أهم الركائز الأساسية المبينة للاستقلال الوظيفي، والاستقلال المالي مكرّس عند معظم السلطات الإدارية المستقلة باستثناء مجلس النقد والقرض، واللجنة المصرفية بما أنهما لا يتمتعان بالشّخصية المعنوية، بالتّالي تبقى تابعة إزاء السلطة التنفيذية من حيث التمويل.
وقد اعترف المشرع الجزائري بالاستقلال المالي للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها وذلك بصفة صريحة([42]).
وتعتبر لجنة البورصة السلطة الإدارية المستقلة الوحيدة الأكثر استقلالية في جانبها المالي، مقارنة بالسّلطات الإدارية المستقلة الأخرى الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، كاللجنة المصرفية، مجلس النقد والقرض، مجلس المنافسة... الخ، التي تعتمد على موارد الدولة قصد تسييرها والقيام بوظائفها، بالتّالي تبعيتها للسّلطة التنفيذية من هذا الجانب.
لكن رغم الاعتراف للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها بالاستقلال المالي، إلا أنه ليس استقلالا مطلقا، نتيجة التأثيرات التي تمارسها الدولة والتي تظهر من جانبين:
- لا يقتصر تمويل اللجنة على مواردها فقط، وإنّما تعتمد كذلك على إعانات التسيير التي تخصص لها من ميزانية الدولة، ممّا يؤدي بالدّولة إلى ممارسة نوع من الرقابة على هذه الإعانات.
- تولي السلطة التنفيذية مهمة تحديد قواعد أساس هذه الأتاوى وحسابها، بالتّالي التقليص من حرية اللجنة في تسيير ميزانيتها، والتأثير على استقلالها المالي.
وكذلك بالنّسبة للجنة ضبط الكهرباء والغاز، والتي تتمتع بالاستقلال المالي([43])، ومن خلال دراسة الأحكام القانونية المنظمة للجنة، نلاحظ أنّ المشرّع من جهة يمنح الاستقلال المالي للجنة، ومن جهة أخرى يخضع تسييرها لرقابة الدولة([44]).
ومن هنا نستخلص تناقص المشرع الجزائري في وضع النصوص القانونية، وكذلك تردده في منح استقلالية تامة لهيئات إدارية مستقلة وانسحاب الدولة في ضبط المجال الاقتصادي والمالي.
الفرع الثاني: الاستقلال الإداري:
يظهر استقلال السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي من هذا الجانب، نتيجة كون البعض منها هي التي تقوم بتحديد مهام المستخدمين وتصنيفهم وتحديد رواتبهم، كما أنّ تنشيط وتنسيق المصالح الإدارية والتّقنية يكون تحت سلطة رئيس هيئة من الهيئات المستقلة.
وتطبيقا لهذه الأحكام، نذكر على سبيل المثال لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، وبالتّالي تنص المادة 03 مـن النظـام رقـم 2000-03، المـؤرخ في 28 سبتمبر 2000، المتضمن تنظيم وسير المصالح الإدارية والتّقنية للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها على أن: » تحدد مهام وصلاحيات المصالح الإدارية والتقنية للجنة بقرار من رئيس اللجنة «، أما المادة 7 من نفس النظام فتنص على أن: » تحدد رواتب المستخدمين وتصنيفهم بقرار من الرئيس بعد استشارة اللجنة «.
وهو الأمر نفسه بالنّسبة لمجلس المنافسة كسلطة إدارية مستقلة ضابطة في مجال المنافسة، بحيث هي التي تحدد مهام المستخدمين وتصنيفهم، وكما أنّ التنسيق والتّنشيط للمصالح الإدارية يكون تحت سلطة رئيس المجلس، وهو ما جاء به المرسوم الرئاسي رقم 96-44، والذي يحدد النظام الداخلي في مجلس المنافسة([45]).
الفرع الثالث: وضع السلطات المستقلة لنظامها الداخلي:
إضافة إلى عنصر تمويل السلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي، يمكن الاعتماد كذلك على إمكانيتها في وضع نظامها الداخلي لتقدير مدى الاستقلالية الوظيفية.
فالاستقلالية الوظيفية حسب هذا المظهر تتجلى في حرية السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي في اختيار مجموع القواعد التي من خلالها تقرر كيفية تنظيمها وسيرها دون مشاركتها مع أي جهة أخرى، وبالخصوص السلطة التنفيذية، كما تظهر الاستقلالية أيضا من خلال عدم خضوع النظام الداخلي للهيئات المستقلة للمصادقة عليه من السلطة التنفيذية وعدم قابليته للنّشر.
ونذكر في هذا الصدد، لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، فبالرجوع إلى أحكام القانون المنشئ لها، نجد أنّ المشرع الجزائري خوّل اللجنة الحق في إعداد نظامها الداخلي والمصادقة عليه خلال اجتماعها الأوّل([46]).
إلى جانب لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، نجد سلطات إدارية مستقلة أخرى تتمتع بهذه السلطة، كسلطة الضبط للبريد والمواصلات([47])، وكذا مجلس المنافسة في ظل الأمر رقم 95-06، حيث تنص المادة 34/2 منه على أنه:
» يحدد النظام الداخلي لمجلس المنافسة بمرسوم رئاسي بناء على اقتراح رئيس مجلس المنافسة وبعد مصادقة المجلس عليه «([48]). إلا أنّ الوضع لم يبق على حاله، إذ بصدور الأمر رقم 03-03، قلّصت استقلالية المجلس من هذه الزاوية، حيث تنص المادة 31 منه: » يحدّد تنظيم مجلس المنافسة وسيره بموجب مرسوم «. فبعدما كانت قواعد سير المجلس يحددها هو بالذات ويصادق عليها، أصبحت في ظل الأمر رقم 03-03 من اختصاص السلطة التنفيذية([49]).
وفي الأخير، إن كانت السلطات الإدارية المستقلة هي التي تحدد تسييرها وتنظيم مصالحها بواسطة النظام الداخلي الذي تصدره، فإنّ حريتها تبقى محدودة إزاء النظام الداخلي([50]).
الفرع الرابع: الشخصية المعنوية:
إنّ الأساس عند المشرّع الجزائري هو منح الشخصية المعنوية للسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي([51])، عكس نظيره الفرنسي، الذي لا يعترف بالشّخصية المعنوية للسّلطات الإدارية المستقلة إلا في الآونة الأخيرة وللبعض منها([52]).
إنّ الاعتراف لسلطة إدارية مستقلة بالشخصية المعنوية، كما ذكرناه سالفا ليس بعامل حاسم لقياس درجة الاستقلالية.
لكن رغم عدم اعتبار الشخصية المعنوية عاملا حاسما وفعالا لقياس درجة الاستقلالية، إلا أنّه يؤثر ويساعد بنسبة معينة في إظهار هذه الاستقلالية، خاصّة من الجانب الوظيفي، وذلك بالنّظر إلى النتائج والآثار المترتبة عن الشخصية كأهلية التقاضي، والتعاقد، وتحمّل المسؤولية... حسب القواعد العامة.
1 – أهلية التقاضي: أمام تمتع معظم السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي بالشّخصية المعنوية، فللرئيس الحق في اللجوء إلى الجهات القضائية، بصفته مدعيا أو مدعى عليه.
ونذكر على سبيل المثال لجنة ضبط الكهرباء والغاز، والتي تتمتع بالشّخصية المعنوية بصفة صريحة([53])، وأكثر من ذلك أقرّ المشرّع في نص المادة 119/6 على أنّ: » يتولى رئيس اللجنة المديرة سير أشغال لجنة الضبط ويضطلع بجميع السلطات الضرورية ولاسيما في مجال:
- تمثيل اللجنة أمام العدالة «.
أما بالنسبة للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، فإنّها تتمتع بالشّخصية المعنوية([54])، وبالتّالي الرئيس هو صاحب الصفة في الخصومة.
وبذلك نستخلص الاستقلالية الوظيفية للسّلطات المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي، من هذا الجانب.
2 – مسؤولية السلطات المستقلة: من بين النتائج المترتبة دائما عن الشخصية المعنوية، إلقاء المسؤولية على عاتق السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي نتيجة الأضرار الناجمة عن أخطائها الجسيمة. أما إذا كانت سلطة مستقلة لا تتمتع بالشّخصية المعنوية، فإنّ مسؤوليتها عن الأخطاء الصادرة عنها تتحملها الدولة.
فلجبر الأضرار الناجمة عن أفعال السلطات المستقلة المتمتعة بالشّخصية المعنوية نتيجة الخطأ الجسيم، الذي يبقى صعب الإثبات، تتولى السلطة المستقلة دفع التعويضات المستحقة من ذمتها المالية الخاصّة، وليس من ذمة الدولة، مما يجعل هذه السلطات مستقلة ولا تتبع السلطة التنفيذية في دفع التعويضات.
ولكنّ التساؤل الذي يطرح في هذا الصدد، وهو أنّه في حالة ما إذا كانت قيمة التعويض تفوق ميزانية السلطة، فمن يتحمل ذلك النقص؟
ويجيب كاتب([55])، عن هذا التساؤل، ويقول أنّ الدولة هي التي تتحمل ذلك النقص، بما أنها ستكون مرغمة بتكملة ميزانية السلطة المستقلة لدفع التعويض للطّرف الآخر.
3 – أهلية التعاقد: طبقا للقواعد العامة، نجد أنّ من بين أهم نتائج الشخصية المعنوية أهلية التعاقد، أي إمكانية السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي إبرام عقود واتفاقيات مع لجان وهيئات أخرى في إطار التعاون الدولي، ونشير في هذا الصدد، إلى أنّ لجنة البورصة الجزائرية عضوة في المنظمة العالمية للجان القيم (OICV)([56])، التي تضم كافة الهيئات المختصة بالرّقابة على البورصات والأسواق المالية العالمية، هذا الإطار يمكّن كافة الأطراف في هذه المنظمة من تبادل الخبرات، والتجارب والمعلومات... الخ. وبالتّالي تمّ إبرام اتفاقية بين لجنة البورصة الجزائرية(COSOB) ونظيرتها الفرنسية (COB)([57])، وذلك في إطار التعاون وتبادل المعلومات والتجارب، بهدف حماية الاستثمار في كلا البلدين.
وهو الأمر نفسه بالنّسبة لسلطة ضبط البريد والمواصلات، بما أنّ المادة 13 من القانون 2000-03 والذي يحدد القواعد العامة المتعلقة بالبريد والمواصلات تنص على أنه يمكن لسلطة ضبط البريد والمواصلات أن تتعاون في إطار مهامها مع السلطات الأخرى أو الهيئات الوطنية والأجنبية ذات الهدف المشترك.
وفي الأخير يمكن القول بأن هذه هي أهم مظاهر الاستقلالية الوظيفية، لكن غالبا ما تصطدم بعراقيل تحدّ منها.
المطلب الثاني: حدود الاستقلالية الوظيفية
من بين أهم القيود أو الحدود المتعلقة بالجانب الوظيفي للسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، نجد التقرير السنوي الذي تعده الهيئة المعنية، وتقوم بإرساله إلى السلطة التنفيذية. إلى جانب التقرير السنوي هناك موافقة الوزارة المختصة على الأنظمة الصادرة عن الهيئات المستقلة. وأخيرا هناك بعض السلطات الإدارية المستقلة، السلطة التنفيذية التي تقوم بوضع نظامها الداخلي. وبالتّالي سنتطرق إلى دراسة وتبيان الحدود التي تحدّ من استقلالية السلطات الإدارية المستقلة في الجانب الوظيفي.
الفرع الأوّل: التقرير السنوي وإرساله إلى الحكومة:
يعتبر هذا المظهر تقييدا لحرية السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية في القيام بنشاطها، نتيجة الرقابة التي تمارسها الحكومة على النشاطات السنوية للسّلطات المستقلة.
ونجد مثل هذه الرقابة على مستوى العديد من السلطات الإدارية المستقلة، كمجلس المنافسة مثلا، الذي تنص بشأنه المادة 27/1 من الأمر رقم 03-03 على أنه » يرفع مجلس المنافسة تقريرا سنويا عن نشاطه إلى الهيئة التشريعية وإلى رئيس الحكومة وإلى الوزير المكلف بالتّجارة «. مع اشتراط المشرع لضرورة نشر هذا التقرير في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، أو في أية وسيلة من وسائل الإعلام الأخرى([58]).
كما نجد أيضا مثل هذه الرقابة على مستوى سلطة ضبط البريد والمواصلات([59])، لجنة ضبط الكهرباء والغاز([60])، ولجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها([61])، وأخيرا الوكالتين المنجميتين([62]).
الفرع الثاني: موافقة الوزارة المختصة على الأنظمة الصادرة عن الهيئات المستقلة:
خوّل المشرّع للسّلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي عدّة سلطات، منها السلطة التنظيمية، التي تمارسها سلطتان إداريتان مستقلتان، وهما مجلس النقد والقرض، ولجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها.
فبالنّسبة للجنة البورصة الجزائرية فإنّها تمارس السلطة التنظيمية عن طريق إصدار الأنظمة([63]). ولكن بعد موافقة وزير المالية عليها([64])، تنشر بعدها في الجريدة الرسمية مشفوعة بقرار وزير المالية المتضمن الموافقة عليها.
للوهلة الأولى، يمكن لنا اعتقاد أنّ مصطلح الموافقة (Approbation) مرادف لمصطلح المصادقة (Homologation)، وفي هذه الحالة، لا يعتبر قرار وزير المالية سببا لإضفاء الطابع التنظيمي على قرارات اللجنة.
فالمصادقة ما هي إلا شرط لدخول الأنظمة حيز النفاذ عن طريق النشر في الجريدة الرسمية، خلافا للموافقة التي فضل المشرع استعمالها بدلا من المصادقة، والتي تجعل النصّ غير الموافق عليه يبقى مجرّد مشروع فقط، ولا يرتقى إلى درجة النظام([65]).
وعليه نخلص إلى أنّ اللجنة لا تتمتع بالسّلطة التنظيمية بمعناها الحقيقي إلا بعد تدخل السلطة التنفيذية في ذلك، مما يجعل اللجنة تابعة للسّلطة التنفيذية في هذا الجانب.
أمّا بالنّسبة لمجلس النقد والقرض، فإنّ وزير المالية له الحق في طلب تعديل مشاريع الأنظمة، وذلك في أجل عشر (10) أيام، وبالتّالي يجب على المحافظ بصفته رئيسًا للمجلس أن يستدعي حينئذ المجلس للاجتماع في أجل خمسة أيام ويعرض عليه التعديل المقترح.
وفي الأخير يكون القرار الجديد الذي يتخذه المجلس نافذا مهما يكن مضمونه([66]).
وبالتّالي نستخلص أنّ طلب تعديل المقترح من طرف وزير المالية، يمكن أن يكون الرد عليه بالقبول أو بالرفض. وبالتّالي عدم تبعية المجلس إزاء السلطة التنفيذية.
الفرع الثالث: وضع السلطة التنفيذية للنّظام الداخلي للسّلطات المستقلة:
إنّ بعض السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، تبقى تابعة إزاء السلطة التنفيذية فيما يخص وضع نظامها الداخلي، وهذا ما يقلص من استقلاليتها من الجانب الوظيفي.
ونذكر على سبيل المثال مجلس المنافسة، الذي يحدد نظامه الداخلي بموجب مرسوم([67]).
وهو الأمر نفسه في مجال النشاط المنجمي، بحيث تنص المادة 51 من القانون رقم 01-10 المتضمن قانون المناجم على أنّ: » تتمتع كلّ من الوكالة الوطنية للممتلكات المنجمية والوكالة الوطنية للجيولوجيا والمراقبة المنجمية بنظام داخلي، يتخذ بموجب مرسوم... «([68]).
وبالتّالي نخلص إلى أن الوكالتين المنجميتين تكون تتبع السلطة التنفيذية فيما يخص وضعها لنظامها الداخلي، وهذا يحد من استقلاليتها بالجانب الوظيفي.
من خلال ما سبق عرضه، نتوصل إلى عدم تمتّع السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي في جانبها الوظيفي باستقلالية مطلقة، إنّما هناك استقلالية خيالية.
ولتدعيم فكرة خيالية الاستقلالية سواء كانت العضوية أو الوظيفية للسّلطات الإدارية المستقلة، رأينا أنه من الضروري إبراز مركزها إزاء الدستور، ثم نبيّن خيالية استقلاليتها.
الخاتمة :
من الناحية القانونية، السلطات الإدارية المستقلة تفلت عن الرقابة الوصائية وكذلك عن الرقابة الإدارية، ولكن بعد تحليل دقيق للنّصوص القانونية المنشئة لها، استخلصنا أنها تتبع للسّلطة التنفيذية، من عدّة جهات، سواء كان ذلك في الجانب العضوي أو في الجانب الوظيفي، والتي تطرقنا إليها في السابق.
وبالتّالي توصلنا إلى استخلاص خيالية هذه الاستقلالية، وأن تكريسها في النصوص القانونية، فما هي إلا ذات طابع تزييني موجهة للاستهلاك الأجنبي: كالدّول الغربية والهيئات الدولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي.
أما في الجانب العملي فهناك عدّة دلائل تثبت هذه الاستقلالية الخيالية ومن بينها، قانون 90-10، المتعلق بالنّقد والقرض، الذي يكرس استقلالية بنك الجزائر، والذي ينص على أنّ محافظ هذه الهيئة هو رئيس مجلس النقد والقرض، واللجنة المصرفية، ويعين لمدة سنة (6) سنوات. ولا يمكن عزله من وظائفه إلا في حالة "العجز الدائم أو الخطأ الجسيم". إلا أنّ المحافظ الذي تمّ تعيينه مباشرة بعد دخول القانون حيز النفاذ أي بتاريخ 15 أفريل 1990([69])، تمّ توقيفه عن وظائفه بمرسوم رئاسي في يوم 21 جويلية 1992([70])، أي بعد سنتين بعد دخوله الوظيفة، علما أنّ الانتداب يدوم إلى غاية أفريل 1996، وهذا ما يبين الطابع الخيالي للسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي.
وعلى ضوء هذه الدراسة يبرز لنا الطابع النسبي أو الخيالي لاستقلالية السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية عضويا ووظيفيا، نتيجة التدخل والتأثير المتواصل للحكومة عن أعمال السلطات الإدارية المستقلة.
تعتبر السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية العمود الفقري للضّبط الاقتصادي، بل أكثر من ذلك فهي محرّك السوق الاقتصادية والمالية، نظرا لاتساع مجال عملها ونطاق تدخلها وكلّ واحدة في اختصاصها المخوّل لها.
إلا أنّ كثرة الهيئات الإدارية المستقلة في مجالات النشاط الاقتصادي والمالي وتزويدها بسلطات كثيرة يؤدي إلى خلق قواعد جديدة ومتخصصة، وتختلف هذه القواعد من هيئة لأخرى، وأحيانا نجد أنّ المعايير الأساسية لتكييفها كهيئات إدارية مستقلة والضمانات الأساسية ليست مهمة أمام كلّ الهيئات، قد يكون هذا النقص في تكريس المعايير والضمانات القانونية متعمدًا، ويمارس تحت غطاء المرونة والسرعة لضمان فعالية الضبط الاقتصادي، وكما يمكن تكييف ذلك بمثابة تقليد انتقائي (Un mimétisme sélectif) أي المشرع في هذه الحالة عندما يأخذ ذلك من المشرع الغربي ينتفي كلّ ما يتعلّق بالضمانات الأساسية لحقوق الدفاع، كما يقلّص من استقلالية هذه الهيئات، وذلك بتردد انسحاب السلطة التنفيذية من سلطة اتخاذ القرارات في المجال الاقتصادي والمالي، لكن هذه الظاهرة تمسّ بحقوق المتابعين أمام هذه الهيئات. وتؤسس حالة اللااستقرار القانوني « Insécurité juridique »، إنّها فوضى الهيئات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي([71]).
دور رجل القانون أمام فوضى الهيئات الإدارية المستقلة هو إعادة النظام لهذه الهيئات، بفضل مجهود يتمثّل في هيكلة المعطيات التي ولّدها تطور النظام القانوني، ويكون ذلك بخلق قانون جديد ومستقل، وهو قانون الضبط الاقتصادي. في هذه الوحدة الجديدة من القانون يمكن إيجاد تقنين للهيئات الإدارية المستقلة، ونظام التقنين يجعل القانون أكثر سهولة. وتوجد عدّة حلول لعملية التقنين([72]).
النصوص الحالية خاصيتها أنها متفرقة بحسب الهيئة المعنية، فعملية مزج بسيطة للقواعد الموجودة تكون كافية للتقنين، لكن بشرط أن يكون هناك تناسق لإيجاد قواعد مشتركة بين هذه القوانين المؤطرة لهذه الهيئات.
من جهة أخرى فإنّ هذا التقنين يمكن أن يكون تقنينا حقيقيا للضبط الاقتصادي إذا كانت من بين أحكامه مجموعة أولى من المواد تعرف مهمة الضبط وتحدد المبادئ الأساسية التي يجب على كلّ هيئة إدارية مستقلة تؤسس مستقبلا أن تسير عليها وبعدها تأتي الأحكام المتعلقة بتوزيع الاختصاصات، ثمّ الأحكام المتعلقة بالإجراءات.
---------------------------