السيدة الفاضلة الأميرة بديعة الحسني الجزائري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والله نحن سعداء جدا بوجودك معنا في هذا المنتدى الجزائري بين أبنائك وإخوتك، بين أهلك ومحبيك، بين المشتاقين لذكرى الأمير في أحفاده، وأبناء الأمير إخوتنا وذوو فضل علينا.
ونشكرها على هذا الموضوع الذي نشرته بيننا، والمواضيع التي تتيحها لنا في صفحات هذا المنتدى، ونتمنى منها من أعماق قلوبنا أن تستمر في نشر مواضيع أخرى كلما سنحت لها فرصة، التي نرجوها كثيرة، هي وابن عمها الفاضل الشيخ خلدون مكي الحسني الجزائري، نريد منهم الإبقاء على هذه الآصرة الحبيبة إلى قلوبنا.
وأغتنم هذه الفرصة لألتفت إلى إخوتي الذين كتبوا بعض المداخلات وفيها هجوم على جهاد الأمير عبد القادر، الذي وهب حياته للجزائر، ولم نهبه نحن ساعات من وقتنا نطالع فيه تاريخه عن الثقات من أمثال الدكتور أبي القاسم سعد الله وعبد الرحمن الجيلاني وغيرهما، لم نعطه حتى هذا النزر القليل من الجهد لقاء الكثير الذي وهبه دون انتظار مقابل، وتمنيت أن يتأسى إخوتنا بمفاد قول الشاعر: إلم يكن وصل فليحسن الرد، ومع ذلك أحاول أن ألا أتعجل بكلام من عندي فأتهجم عليهم وأغلظ عليهم في الرد، وأنقل لهم هنا من مراجع تسنت لي في هذه الساعات التي طالعت فيها هذه المشاركة الطيبة مع ما تبعها من ردود، أنقل لهم بعض ما قيل في جهاد الأمير الخالد، مع رجاء أن يعطونا بعضا من وقتهم ويقرءوا.
يقول المؤرخ عبد الرحمن الجيلالي في كتابه (تاريخ الجزائر العام) الجزء 4، ص 229- 231. وذلك تحت عنوان: (انهيار الدولة القومية الجزائرية): (لقد ظلت الحرب قائمة بين الدولة الجزائرية العربية المسلمة، وبين الدولة الفرنسية المهاجمة مدة سبعة عشر سنة لم يدخر الأمير خلالها وسعا للدفاع عن حوزة الوطن، وحقوق شعبه الحر الأبي، ولقد بذل الشعب في سبيل الذود عن الشرف والوطن والدين كل ما يملك من غال أو نفيس من غير ما قدمه من أرواح مزهقة، ودماء متدفقة منهمرة! وبالغ في ذلك إلى حد لا تطيق تحمله دولة راسخة الأساس، ثابتة الأركان، فكيف بدولة مثل دولة الأمير عبد القادر حديثة النشأة والتكوين، برزت في ظروف حرجة، ومجال ضيق، نشأت في الحرب للحرب، ولم يكن لها من الإمكانيات ما يكفل لها الاستمرار على المقاومة في حرب طويلة الأمد كهذه، فلم تكن تملك في ميزانيتها سوى ما تجمعه من طائفة قليلة من أموال الزكاة والعشر والتبرعات أو ما تظفر به في بعض الأحيان من غنائم وأسلاب، وحتى الجيش فإنه كان لا يطلق عليه اسم الجيش إلا مجازا، ومع نوع من التسامح فهو حديث النشأة والتكوين مع قلة التسليح، وضآلة العَدد والعُدد، وعدم التدرب على مواجهة القتال في ميدان كهذا، وكان الحصار البحري المفروض على سواحل الجزائر، مع الحصار البري المفروض على الحدود الغربية والشرقية، يقلل من وصول الأسلحة والإمدادات إلى المجاهدين، وهو إلى ذلك يقابل من الأعمال الإرهابية والتهجمات الوحشية والحرب الجهنمية، من [تمت ص 229] جيوش كاملة السلاح والعدة تجاوز عددها في بعض الوقائع 150 ألف جندي مع خذلان الناصر والصاحب وتقاعس ملوك المسلمين ورؤسائهم جيرانا كانوا أو غيرهم عن المؤازرة مع الدس والمكر الذي كان يحوكه بعض الخونة ضد الأمير، فيا حسرتاه ويا ويلاه! ... ويشهد بهذه الحقيقة الناصعة كتاب الإفرنج أنفسهم ومؤرخوهم مثل "أوغستان برنار" الفرنسي وغيره، فإنهم يقولون أن فشل الأمير في حروبه مع الفرنسيين لم يكن ناتجا عن تغلب الفرنسيين عليه، أو لشدة مناهضتهم له، كلا وإنما كان السبب في ذلك ناشئا عن تفرق المسلمين عنه، وعدم اتحادهم تحت لوائه لحرمانهم من الشعور الوطني والقومي، وتفرقهم هذا كان له أوفى نصيب [تمت ص 230] في أسباب فشله ويقول أندري جوليان في تاريخه لشمال أفريقيا أن فرنسا خسرت في القضاء على الأمير عبد القادر 40 ألف فرنسي وخمسمائة مليون فرنكا.
كل ذلك أحاط بحكومة الأمير عبد القادر مع ما كان عليه خصمه من التفوق عليه في كل شيء، فكيف لهذه الشرذمة القليلة بمحاربة دولة تفوقها سياسيا وحربيا واقتصاديا أحكمت أسسها منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا، بينما حكومتنا هذه لم تتجاوز عمرها سبعة عشر سنة – أياما معدودات- ثم أن هذه المدة الضئيلة قضتها كلها في التعاسة والخطب الفادح من تعب ونصب ومشاق لم يذق الشعب الجزائري طعما للحياة فيها، ولم يطمئن جنبه إلى مضجع وقد خذله القريب ببلده البعيد، فلا مناصر ولا مؤازر ولا معاضد ولا مساعد ولا مكافح ولا منافح!!. وضف إلى ذلك معاهدة طنجة "10 سبتمبر 1848م" التي اعتبر فيها الأمير في صورة العصاة المنشقين المارقين والخارجين عن القانون الدولي العام...) وفي فترة الحيرة هاته وتزاحم الشدائد عليه يصطدم الأمير بكتيبتين من كتائب الصبايحية وتنشب معركة قوية، وجاء لاموريسيير بفرسانه منجدا لقومه فعظم الخطب على الأمير (فجمع حوله من حضر معه من الخاصة وأهل المشورة، وكان من بينهم صهره مصطفى بن التهامي وقدور بن علال وعبد القادر بوكليكلة قائد تاكدامت، واستشارهم في الأمر...[تمت ص 131]... فكتب الأمير في تلك الورقة البيضاء ما شاء من الشروط، وفي نهاية المساء من ذلك اليوم نفسه ورد رقيم من الأمير يحمله صهره مصطفى بن التهامي إلى الحاكم الفرنسي يتعلق بتحرير شروط إطفاء نار الحرب، ولا أقول هو استسلام الشعب الجزائري لفرنسا... ولم نطلع في ما علمنا عن هذه الشروط إلا على هذه البنود الثلاثة.
أ- ينتقل الأمير مع جميع عائلته إلى عكا أو الإسكندرية.
ب- المحافظة على حقوق البلاد ومقدساتها مع ضمان أملاك الأمير وإرجاع جميع ما سلب منها، وعدم تعرض السلطة الفرنسية لمن يريد الهجرة أو السفر مع الأمير من جماعة الضباط والجند.
ج- تعهد الحكومة الفرنسية لتأمين كل من يتخلف أو يبقى في الوطن الجزائري من آل الأمير وجميع من ينتمي إلى أسرته.
وكان إمضاء عقد الصلح هذا يوم 18 المحرم 1264هـ/ 23 ديسمبر 1874م في مكان يقع قريبا من ضريح سيدي إبراهيم الذي شاهد أعظم وقائع الأمير المنتصر فيها... [تمت ص 233])
فالخذلان والخيانة إذا كما قال الشيخ الجيلاني من أهم اسباب عدم تحقيق الأمير للنصر حتى النهاية، أنظر مرة ثانية ماذا قال الشيخ الجيلاني بتأثر واضح: (... وتقاعس ملوك المسلمين ورؤسائهم جيرانا كانوا أو غيرهم عن المؤازرة، مع الدس والمكر الذي كان يحوكه بعض الخونة ضد الأمير، فيا حسرتاه ويا ويلاه!).
وهذا المعنى ذكره كتاب آخرون مثل محمد الطيب العلوي في كتابه (مظاهر المقاومة الجزائرية 1830م- 1954م) الذي يقول في ص 48 (..إذ بعدها بدأت نهاية الأمير كمقاوم صلب شهم شجاع، طوال 17 عاما، وجد نفسه في الأخير في مواجهة جيش منظم، معبإ تعبئة كاملة، يسعى لاحتلال الوطن احتلالا كاملا، ووجد نفسه أيضا أمام خيانات، لم يستطع التغلب عليها في كل الأوقات...).
كيف بعد كل هذه المعارك مع عدم توازن قوى مادية، وبعد كل تلك الصعوبات وأهمها خذلان الصديق وخيانة القريب، يقال أن الأمير استسلم، ويلمح تلميحا ملحّا إلى أنه قدم الجزائر على طبق من ذهب، والحقيقة غير ذلك تماما كما وضح الشيخ الجيلاني وغيره، وقد صدق الدكتور صالح خرفي حين قال في كتابه (في ذكرى الأمير) ص 71 : (ولو أراد الأمير أن يساوم لاختصر السبعة عشر عاما إلى سنوات أقل، ولو رضي الدنية في دينه وشرفه وسكت عن التجاء "الدوائر والزمالة" إلى الفرنسيين لكتب لمعاهدة "دي ميشيل " عمر جديد، ولو استمرأ السلم واستكان للرخاء وتعلق بالسلطة في معاهدة "تافنا" فتغاضى عن اختراق الجيش الفرنسي بعض أمتار من حدوده المعترف بها في المعاهدة لأمكن أن يتمتع بأيام أطول، وهو السلطان الحاج عبد القادر وعاصمته معسكر).
وكأنّ الأمير أحسّ أنّ جزائريا سيلومه مع عدم معرفة بالظروف التي تزامنت مع وضع السلاح فشرح موقفه، وذلك في رسالة بعث بها إلى دوبيش أول أسقف على الجزائر، مما قال له في الرسالة الواردة في كتاب (في ذكرى الأمير) ص 73، 74: (كنت أحارب الفرنسيين، وليس لي أمل أن أرى نهاية حميدة لي في هذه الحرب التي ابتدأت من سبتمبر سنة ثلاث وثلاثين، مع أنني كنت أعتقد أني أقوم بالواجب الديني، وحفظ بلادي، وأخشى أن أتلقى شبه الملامة من قومي الذين وثقوا بي وحلفوا ألا يتركوني، وفي هذه المدة عرضتْ عليَّ الحكومة الفرنسية مقدمات كثيرة وهي ترك السلاح [تمت ص 73] مقابل شروط، وزيادة على ذلك كان قد عرض الماريشال "بيجو" مليونا لأضع السلاح، فلم أقبل ذلك منه، محافظة على عهدي).
وإذا كان المؤرخون قد اعترفوا بجهاد الأمير الصادق إلى آخر لحظة في حياته، وهم الصارمون أو الأقرب إلى الصرامة في ذكر الحق مجردا، فمن باب أولى أن يفعل الشعراء الجزائريون، وهذا واحد من أمرائهم وهو الفقيه الشاعر أحمد سحنون يقول في مطلع القصيدة التي نظمها بمناسبة نقل رفات الأمير إلى الجزائر[ص 260 من الديوان] :
عاشها في عبادة وجهادِ * وقضى رهن غربة....[؟]
لم يضع سيفه ولم يهجر الـ * ـمصحف بل عاش هاجرا للرقاد
هكذا عاش الأمير حقا، في يده مصحف، وفي الأخرى سيف، ولكنه لم يعش في غربة - إذا كان الشيخ سحنون رحمه الله يقصد بالغربة مكثه بسوريا، فالمؤمن أرضه حيث يُذكر اسم الله:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطنا * الشام فيه ووادي النيل سيان
ومصر ريحانتي و الشام نرجستي * و في الجزيرة تاريخي وعنواني
وحيثما ذكر اسم الله في بلد * عددت أرجاءه من لب أوطاني
وربما الشاعر أراد ذكر معاناة الشاعر في تلك الفترة، وإلا فالأمير عبد القادر أحب سوريا، وأحبته سوريا وبلاد الشام، وعاش بين أهلها عزيزا، وعرف له قدره، فالواجب أن نحذو حذوهم في تكريمه، والاحتفاء بمن بقي من ذويه.
وهذه تحية حب عميق، ووفاء خالص مرة أخرى أبعث بها عبر هذا المنتدى إلى الأميرة بديعة الجزائري والشيخ خلدون مكي الحسني الجزئري، وكل آل الجزائري.