أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر
بالاستقراء يمكننا أن نشير إلى أهم الأسباب التي دعت البعض إلى تصنيف بعض العلماء وطلاب العلم وغيرهم إلى متشددين، أومتحجرين، أومتزمتين، أوغالين، إلى آخر هذه القائمة من الألفاظ والألقاب غير المنضبطة من جهة، بينما يوصف غيرهم بالمستنيرين، ولقائل أن يقول بالمتفلتين، أوالمتساهلين، أوالمداهنين المسايرين لما تهواه العامة، ولما يتمشى مع مجريات العصر، ولا يوقع في حرج من جهة أخرى، التزامُ الأولين وتمسُّكهم واقتداؤُهم بما كان عليه سلف هذه الأمة في أمور عقدية، أومسائل انعقد عليها إجماع الأمة واتفاقها بعد خلاف دام قليلاً، وذلك لأن الحق عند الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وكل مجتهد مأجور إذا كان من أهل الاجتهاد، وحاز أدواته، وكان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والتعبد والسلوك، أما أهل الأهواء قديماً وحديثاً فهم غير داخلين ولا معدودين في سلك المجتهدين، ومن أطلق لفظ كل مجتهد مصيب فمراده أنه مأجور غير آثم، أما أن يكون الحق عند الله عز وجل متعدداً فهذا لا يقول به عاقل، دعك عن مجتهد مقتدى به.
والأسباب التي توصل إليها بالاستقراء ونتج عنها هذا التصنيف الجائر والحكم الخاسر من غير ذكر أدلتها لأن المقام لا يتسع لذلك هي:
أولاً: وصف الله سبحانه وتعالى بكل صفات الجلال والكمال، وبكل ما وصف به نفسه أووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وهذا ما كان عليه السلف قاطبة في القرون الثلاثة الفاضلة، وعليه الخلف الصالح ظاهرين إلى أن تقوم الساعة.
ثانياً: منعهم للتوسل غير المشروع، وهو التوسل بذات وجاه الأنبياء والمرسلين والصالحين، الأحياء منهم والميتين.
ثالثاً: عدم الحرج من إطلاق لفظ الشرك أوالكفر على من أكفرهم الله ورسوله، لتعاطيهم أسباب ذلك مع توفر الشروط وانتفاء الموانع، لأن الإكفار ملك للشارع الحكيم.
رابعاً: حرصهم على الهدي الصالح والسمت الصالح الذي هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبر الصادق المصدوق، والمتمثل في إعفاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، ولبس القمص والسراويل والعمائم، التي أضحت غيظاً للكافرين والمنافقين، وشعاراً لعباد الله الصالحين.
مما يدل على أهمية السمت الصالح في الدين ما قاله حامي الكفر والوثنية في هذا العصر بوش أمام الكونغرس عن حال "الاتحاد اليهودي المسيحي" بتاريخ 29/1/2002، حيث أعلن الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين: (ولن يخضع الرجال بعد الآن لشرط إطلاق اللحى، ولن تخضع النساء لشرط تغطية وجوههن وأجسادهن)، خاب فأله وخسرت آماله.
خامساً: حرصهم على تصحيح العقيدة من الممارسات الشركية، والاهتمام بنشرها وتعليمها للناس.
سادساً: محاربتهم للبدع والمحدثات في العبادات.
سابعاً: إفتاؤهم بتحريم الغناء، والموسيقى، والسماع الصوفي المصحوب بالتلحين والآلات الموسيقية.
ثامناً: حرصهم وإفتاؤهم بوجوب الحجاب على النساء، ونهيهم وتحذيرهم عن التبرج والسفور والاختلاط بالأجانب.
تاسعاً: تحذيرهم من زلات، وهفوات، وسقطات أهل العلم.
عاشراً: الالتزام بظواهر النصوص وعدم تفريغها من معانيها والتوسع في التأويل من غير دليل.
أحد عشر: إفتاؤهم بتحريم الإسبال على الرجال سواء كان مصحوباً بخيلاء وتكبر أم لا.
الثاني عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تصوير ما فيه روح والاشتغال والتكسب بذلك لأنه من الكبائر.
الثالث عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تقليد الرجال في كل ما يقولون وأنه ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرابع عشر: هجرهم لأهل البدع والفسوق المجاهرين ببدعهم وفسقهم.
الخامس عشر: ذمهم للرأي والقياس في معارضة النصوص الصحيحة الصريحة.
السادس عشر: اعتقادهم أن ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تحت عنوان: "خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف": (وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أوالعمل، أما الأول في إذا كان القول يخالف سنة أوإجماعاً وجب إنكاره اتفاقاً52، إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان خلاف سنة أوإجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أوسنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أومقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها – إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد لتعارض الأدلة أولخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أويقينة ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل53 – فذكرها:
1. الحامل تعتد بوضع الحمل، ولو كان المتوفى لم يدفن بعد، خلافاً لما كان يفتي به علي وابن عباس رضي الله عنهم.
2. إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، هذا بالنسبة للمطلقة ثلاثاً، لا تحل لزوجها الأول إلا بعد معاشرة الثاني لها.
3. أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، نسخاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء".
4. وأن ربا الفضل حرام، وقد توقف في حرمته ابن عباس أولاً ثم رجع إلى قول العامة.
5. وأن المتعة حرام، يريد رحمه الله متعة النساء التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، ثم عاد فحرمها في غزوة خيبر، هي والحمر الأهلية، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بحلها حيناً، ولكن سرعان ما عاد إلى قول العامة عندما روجع في ذلك، وهذا هو اللائق بحبر الأمة وترجمان القرآن، وبهذا أجمع أهل السنة قاطبة، بحرمة متعة النساء، وبأنها أخت الزنا، ولم يبحها إلا أهل الأهواء الرافضة، وقد بلغت وقاحتهم وانحطاطهم أن أباحوها مع الرضيعة شريطة عدم الإيلاج!! فنعوذ بالله من الخذلان.
6. أن النبيذ المسكر حرام، خلافاً لمن قال بإباحته من أهل الكوفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر ما خامر العقل، وكل مسكر خمر"، أوكما قال، فالحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال، ولا بتقليدهم في كل ما يقولون.
7. أن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، لم ينكر ذلك إلا أهل الأهواء من الرافضة والخوارج الذين لم يحفل باتفاقهم، ولا يحزن لاختلافهم، بل إن المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار، رخصة أخذ بها طائفة من أهل العلم، وعمل بها كبار الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
8. أن المسلم لا يقتل بكافر، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، لأن نفس الكافر ليست مكافئة لنفس المؤمن.
9. أن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق الذي نسخ، وهو وضع الكفين بين الركبتين، الذي كان يقول به ابن مسعود رضي الله عنه، لأن حديث النسخ لم يبلغه، وإلا لما تعداه.
1. أن رفع اليدين – الترويح – عند الركوع والرفع منه54 سنة، وقد صح ذلك عن عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، وفي مذهب مالك روايتان في الترويح والقبض، أصحهما القول بالترويح والقبض، وهذا مذهب المدنيين والشاميين من المالكية، ورواه ابن وهب عن مالك، ولكن أشهر المالكية رواية ابن القاسم عن مالك في عدم القبض والترويح، وفي ذلك إجحاف وظلم على أتباع المذهب المالكي، فعلى علماء المالكية أن يذكروا الروايتين عن مالك، سيما وأن رواية القبض والترويح هي الأصح، وآخر ما أثر عن مالك كما قال العلماء المحققون، بجانب موافقتها للسنة الصحيحة ولعامة أهل العلم، وقد رواهما عنه ابن وهب.
11. أن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، أي أن الجار أولى بشراء أرض وعقار جاره بسعر المثل إلا إذا لم يرغب في ذلك أوعَجَز عن سعر المثل.
12. الوقف – وهو الحبس – صحيح لازم، خلافاً لما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وأن الوقف على شرط صاحبه، ولا يصح نقله عن غير ما حدده صاحبه أوالتلاعب فيه كما هو حادث الآن، فهناك أوقاف كثيرة بيعت واستبدلت عن طريق جهات رسمية وغير رسمية، وهذا حرام ولا يحل أبداً، فعلى المسؤولين ونظار الوقف أن يتقوا الله في أنفسهم وفي الواقفين والموقوف عليهم.
13.أن دية الأصابع سواء، وهي عشرة من الإبل، لا فرق بين إبهام، وسبابة، ووسطى، وخنصر، وبنصر، ولا بين أصابع اليدين والرجلين.
14. أن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم55، خلافاً للاحناف الذين قالوا لا تقطع إلا في عشرة دراهم لصحة الخبر في القول الأول.
15. أن الخاتم من الحديد يجوز أن يكون صداقاً، لم يحدد الشارع قدراً للصداق، أي المهر، فيجوز أن يكون قليلاً أوكثيراً، ولكن السنة دلت على عدم المغالاة، ونهت وحذرت من ذلك، وما اشتهر على ألسنة بعض الخطباء وأئمة المساجد من أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقامت امرأة وقالت رادة عليه: يعطينا الله وتحرمنا؛ فقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة؛ ليس له أساس من الصحة، ولم يرد في ديوان من دواوين السنة، وإنما وجد في بعض التفاسير، وما قاله عمر هو السنة، وهو الحق، فلا ينبغي للخطباء والوعاظ أن يحلوا وعظهم وخطبهم بما لم تثبت صحته.
16.أن التيمم إلى الكوعين مع الوجه ضربة واحدة جائز، بل هو الراجح، وقد ذهب ابن عمر إلى أنه ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وتبعه مالك في ذلك.
17.أن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، سيما في النذر، والله أعلم.
18.أن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وكان بعض أهل العلم يقول: التلبية تقطع قبل ذلك.
19. أن المُحْرِمَ له استدامة الطيب دون ابتدائه، بمعنى لو تطيب قبل إحرامه وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا شيء عليه.
20. أن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله"، لا أن يكتفي بقول "السلام عليكم" فقط وإلى جهة اليمين دون اليسار، وهذا القول مرجوح.
21. أن خيار المجلس ثابت، وذلك لتفسير ابن عمر راوي الحديث أن التفرق بالأبدان، وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أن التفرق بالكلام، ولهذا لم يأخذوا بخيار المجلس، والصواب الأخذ بخيار المجلس.
22. أن المصراة يرد معها عوض من اللبن صاعاً من تمر.
23. أن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وهي ركعتان كل ركعة ركوعان وسجودان.
24. أن القضاء – أي الحكم – جائز بشاهد واحد ويمين.
بهذا اتضح لنا أن إطلاق لفظ متشدد أوتصنيف البشر إلى متشددين وغير متشددين نتيجة الالتزام بما صح عن الله ورسوله وما أجمعت عليه الأمة من الظلم الواضج، والجهل الفاضح، والتعدي البين، وأن الملتزمين بما كان عليه سلف هذه الأمة هم المعتدلون المتوسطون المحمودون، وأن من سواهم من الغالين المتشددين، أوالمتساهلين المتهاونين المقصرين المفرطين هم المذمومون المؤاخذون، وأن بيان هذا التوضيح ونشره بين الناس من باب النصيحة الواجبة.
وعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي إخوانه المسلمين، وأن لا يكون همه تصنيف الخلق والحكم عليهم بغير وجه حق، وليعلم أن عليه رقيب عتيد، وأنه لن تزول قدماه عن الصراط حتى يسأل عن ذلك، وحتى يقتص منه لمن وسمهم بهذه السمة، وانتقصهم بالتشدد والتنطع والغلو مع براءتهم وسلامتهم من هذا السلوك المشين والخلق غير المستقيم، واحذر شهادة الزور وقول الزور الذي سيكتب عليك وتسأل عنه.
وتذكر قول الله في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، والأولياء هم العلماء كما قال أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي"، فلحوم العلماء مسمومة، ورحم الله الحافظ ابن عساكر عندما قال ناصحاً لإخوانه المسلمين ومبيناً خطورة الطعن والتشكيك في العلماء وانتقاصهم: اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"56.
واحذر أن ينطبق عليك قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت"، فالبعض يغلو ويعظم من يجب أن يُهجروا ولا يُوالوا، وينتقص ويعيب من تجب عليه موالاتهم ومحبتهم، فقط اتباعاً للهوى والاستلطاف، ولحمية، سيما وأن الفاصل بين الحق والباطل قد يكون شعرة.
والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجنبنا الهوى والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
منقووووووول