منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مدارك النظر في السياسة الشرعية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-02-23, 20:02   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
الوادعي
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الأوسمة
وسام التميز 
إحصائية العضو










افتراضي

(5 )

الأصل الثالث: نيل السؤدد بالعلم

هذا الفصل من أنفس ما في هذه الأصول الستة؛ لأن الغرض منه هو تبيان أصل العمل الذي ينبغي أن تُكرَّس له الجهود، فإن قوما رأوا النشاط الرهيب الذي تجتهد فيه قُوى الكفر والضلال، فظنوا أن سيادتهم ترجع إليهم بمجرد مقابلة نشاطهم بنشاط أقوى منه، فوَجَّهوا كل ما يملكون من وسائل لمجاراتهم، وأهملوا العلم الشرعي إهمالاً فاحشاً! والحقيقة أنهم مهما أحكموا التنظيم وأحسنوا التدبير وكثَّفوا النشاط وحفظوا من مكائد العدوّ، فلن يُكتَب لهم سؤدد ولا رِفعة حتى يُؤَسِّسوا عملهم على العلم ويعرفوا له ولأهله قدره؛ قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم والَّذِينَأُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ} وقال: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشَاءُ}، قال مالك ـ رحمه الله ـ: " بالعلم "( ).

وهذه الرِفعة تكون في الدنيا قبل الآخرة؛ كما قال الله تعالى عن اصطفائه طالوت لسيادة الملأ من بني إسرائيل:
{وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَقَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُعَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَالمالِ قَال إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطةً فيالعِلْمِ وِالجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌعَلِيمٌ}.
وفي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة( )، فقال: مَن استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مَوْلى( ) مِن موالينا، قال: فاستخلفتَعليهم مولى؟! قال: إنه قاريء لكتاب الله U وإنه عالم بالفرائض( )، قال عمر: أمَا إن نبيّكم e قال: » إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع بهآخرين «.

ولذلك أخبر الله U أنه رفع الربانيين من بني إسرائيل حتى جعلهم حكّاماً عليهم ينفِّذون فيهم أمر الله فقال: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهاهُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَهادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِاللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء}.
وهؤلاء الربانيون الممَكَّن لهم جاء وصفهم بالعلم والتعليم، قال الله تعالى: {مَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللهُ الكِتابَ والحُكْمَوالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي مِن دُونِاللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّـينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَالكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون}.

وفي كتاب الله U آيتان تشابهتا في اللفظ، يقول الله في الأولى عن إبراهيم e: {
وتِلْكَ حُجَّتُنا ءَاتَيْنَاها إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُدَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وفي الثانية يقولعن يوسف e: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍعَلِيمٌ}، وفي هذا سرٌّ بديعٌ من أسرار الكتاب العزيز، ذكره ابن تيمية في كلام نفيسٍ جدًّا، حيث يقول:
" ذَكَر اللهُ أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصةاحتيال يوسف، ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدلّ عليه، فقصةإبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف فيالعلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول: علم بما يدفع المضارفي الدين، والثاني: علم بما يجلب المنافع.
أو يقال: الأول: هو العلم بما يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثاني: علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها.
أو يقال: قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسففي علم الأفعال عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكونإلى القول، وقد تكون ...( )
ولهذا كان المقصِّرون عن علم الحجج والدلالات وعلم السياسة والأماراتمقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاِحتياج إليهم إذا هجم عدوّ يفسد الدينبالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم منأنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شرّ بعض في الدينوالدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولاوالٍ يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع، والسياسةالدافعة للظلم ..."( ).

فدار أمر الرئاسة الدينية والدنيوية على العلم؛ لأنه أصل لهما، ولذلك قال ابن تيمية ـ أيضا ـ: "
وذلك أن الله يقول في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنارُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأَنزَلْنَا مَعَهمُ الكِتابَ والمِيزانَلِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُبِالغَيْبِ}، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنهأنزل الحديد كما ذكره.
فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر{وكَفَى بِرَبِّكَ هادِياًوَنَصِيراً}، والكتابُ هو الأصلُ، ولهذا أول ما بعَث اللهُ رسولَه أنزلعليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوانٌ علىالجهاد

"( ).
إذن فالذين يتصوّرون قيام دولة الإسلام بمجرد عاطفةٍ إسلامية، وفكرٍ مجـرّد عن حـجّـة الشـرع يسمّونـه فكـراً إسلاميًّا! ونتفٍ من العلم يسمونها ( ثقافةً إسلاميةً!)، وأن التعليم مرحلة قادمة بعدها، فهؤلاء طالبو سراب؛ لأنهم يتخيَّلونها بلا قوة ولا أسباب، وأُولى القوّتين قوةُ الدين الذي عليه وعد الله المؤمنين بالنصر فقال
: {وكان حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُالمُؤْمِنِين}؛ ولهذا قال ابن القيم: " ولما كان جهادُ أعداء الله فيالخارج فرعاً على جهاد العبد نفسَه في ذات الله، كما قال النبي e: » المجاهِدُ من جاهَدَ نفسَه في طاعة الله، والمهاجِرُ من هجَرَ ما نهى اللهُعنه «( )، كان جهادُ النَّفْس مُقَدَّماً على جهاد العدوّ في الخارجوأصلاً له؛ فإنه مَن لم يجاهد نفسَه أولاً لتفعل ما أُمِرَت به وتترك مانُهيَت عنه ويحارِبْها في الله، لم يمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج، فكيفيمكنه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له،متسلِّطٌ عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلىعدوِّه حتى يجاهد نفسه على الخروج.

يتبع إن شاء الله









رد مع اقتباس