يظهر ذلك ممكنا من خلال الأعمال التي يقدمها البنك للجنـاة الرئيسين فهـو يمدهـم بالوسيلة القانونية التي تمكنهم من تنفيذ الجريمة أو على الأقل تسيير وقوعها ، و يعـد بذلك شريكا لهم في حالة قبوله إيداع الأموال أو تحويلها و التي مصدرها غير مشروع مع علمه بذلك .
وللقضاء الفرنسي حكـم في ذلك قضى بإدانة مدير أحـد المصارف بوصفه مساهمـا في جريمة أصلية قام بها أحـد العملاء تتمثل في تهريب أوراق ماليـة نقديـة و ذلك باستبداله لأوراق نقدية من فئة 500 فرنك بأوراق ذات قيمة 50 و100 فرنك مما مكن العميل مـن تهريب هـذه الأوراق إلى دول مجاورة ، رغـم تذرع مديـر المصرف بواجب احترام السـر المهني(1) و شـدد في ذلك القضاء الفرنسي الحرص على تأكيد التزام البنك بإغلاق الحسـاب المصرفي فورا منذ لحظة علمه بالطـابع غير المشروع لحركـة رؤوس الأمـوال في هذا الحساب مخففا بذلك شرط علـم المصرف بالفعـل الجرمي الأصلي لعميله .
و قد يكون المصرف مساهما مساهمة أصلية في جريمة تبييض الأمـوال في حالة الاستخدام غيـر المشروع للحساب المصرفي على نحو ييسر وقوع جريمة أصلا و ذلك وفقا للمبادئ القانونية العـامة ، إلا أن الغالب على الحالات تنحصر مساهـمة المصرف في سلوك المساعدة من دون الصور الأخرى للمساهمة فالمصرف إنما يمـد يد عميله بالوسيلة التي تضمن له حصاد ثمـار مشروعه الإجرامي و التي لولاها لمـا أقدم على ذلك .
و الاشتراك بطرق المساعدة يشمل كافة الأعمال المسهلة أو المتممة لارتكاب الجريمة و قد اعتبرت محكمة النقض المصرية المصرف شريكا في جرائم معاقب عليها في حد ذاتها " المخدرات مثلا " و ذلك متى ثبت تواطؤه أو مساعدته لها على الجريمة الأصلية عن طريق الاستخدام غـير المشروع للحساب المصرفي ، و ما يمكـن ملاحظته أن وصف المساهمة الجنائية على ظـاهرة تبييض الأمـوال أو استخدام عائدات الجرائم وصف يشوبه القصور في التكييف و ذلك للاعتبارات التالية :
- أن وصف المساهمة الجنائية لكي يصـح وصفه و توجب معاقبته ينبغي أن يكـون سابقا أو على الأقل معاصرا لوقوع الجريمة الأصلية ، و لا عقاب على المساعدة التي تقع لاحقا على ارتكاب الجريمة الأصلية ، فالبنوك و المصارف إنما تدخل بعد وقـوع الجريمة الأصلية و بالتالي لا يصدق على نشاط البنوك وصف المساهمة الجنائية .
- إن اعتبار البنك مساهما مساهمة تبعية لا يضمن العقاب في حالة تدويل نشاط تبييض الأموال ، و دولة البنك لا تجرم و لا تعاقب على جريمة تبييض الأموال ، أولا يعطى الاختصاص لمحاكمها بنظر الجريمة كونها واقعة خارج حدودها الإقليمية .
- يصعب على الصعيد الفني اعتبـار المصرف مرتكبا لجريمة المساهمة إذا اقتصـر دوره على مجرد التقاعس على واجب الرقابة لمصـدر الأمـوال أو جهة تحويلـها ، لكون المساهمة تقتضي سلوك إيجابي و لا تقوم على مجرد الامتناع .
- و مـن خلال ذلك كله يمكن أن نظهر قصور هذا التكييف مـن الناحية الإجرائـية و كذا من الناحية الموضوعية .
أ – أوجه القصور الإجرائية :
نظرا للحنكة التي يتمتع الفاعلين الأصليين للجريمـة و الحيل التي يستعملونـها تجعل من إفلاتهم من العقاب و المتابعة أمرا واردا و يستفيد بذلك المساهم التبعي مـن عدم العقاب .
كما أن عدم معاقبة فاعل الجريمة لسبب من الأسباب الإباحة يؤدي كمـا تقضي به القواعد القانونية العامة إلى إفلات الشريك من العقاب ذلك اعتبارا من أن أسبـاب الإباحة هي أسباب موضوعية يستفيد منها كافة القائمين على المشروع الإجرامي .
كما أن انقضاء الدعوى العمومية بالتقادم لاختفاء الفاعلين الأصليين طيلة تلك المـدة يؤدي إلى إفلات القائم بنشاط تبييض الأموال من الملاحقة بوصفه شريكا .
ب- أوجه القصور الموضوعية :
إن عملية التمويه عن مصدر الأموال غـير المشروعة تتم بإيداعـها في البنوك و نشاط البنك تقتصر على قبول إيداع تلك الأموال أو تحويلها أو استثمارها ، و هـو ملزم باحترام القواعد المصرفية التي تخضع لها وينتهج آليات فنية تنظم نشاطه، وهذا النشاط دون أدنى شك لا يكيف على أنه السبب في ارتكاب الجريمة التي تحصلت عنها الأموال فالسبب لا يكون لاحقا على النتيجة ، والعلاقة السببية المشروطة للعقاب هـي تلك التي تكون بين نشاط الشريك والجريمة الأصلية (1) وقـد حرصت محكمة النقض المصرية على ضرورة استخلاص العلاقة السببية بين نشاط الشريك والجريمة الأصلية
II – تبييض الأموال كصورة من صور إخفاء الأشياء :
اعتبار من أوجه القصور الإجرائية والموضوعية لتكييف ظاهرة تبييض الأموال على أساس أنها فعل من أفعال المسـاهمة الجنائية ، وجب البحث على وصف آخـر يشمل هذه الظاهرة ويعاقب عليه القانون ، لـذا ذهب اتجاه فقهي إلى اعتبار الجريـمة صورة من صور لجريمة الإخفاء أو حيازة الأشياء المتحصل إليها من جناية أو جنحة وهي الجريمة المنصوص عليها في المادة 44 من قانون العقوبات المصري والمادتين 387 و 388 من قانون العقوبات الجزائري واللتان تنصان على أنه" كل مـن أخفـى عمدا أشياء مختلسة أو مبددة أو متحصلة في جناية أو جنحة يعاقب بالحبس مـن سنة إلى 5 سنوات وبغرامة من 500 إلى 20.000 دج وإذا كـانت العقوبة المـطبقة على الفعل الذي تحصلت منه الأشياء المخفاة هـي عقوبة الجناية ، يعاقب المخفي بـنفس العقوبة المقررة للجنايـة مـع تطبيق القيود والإعفاءات الخاصة بالدعوى العمومـية المقررة بالمادتين 368 و369 مـن ق ع ج(2) على جنحـة الإخفاء التي يرتكب مـن الأصول أضرار بأولادهم وكـذا الفروع أضرار بأصولهم ، أحـد الزوجين أضـرار بالزوج الأخر ولا تتخذ إجراءات التابعة الجزائية ضد المخفون لغاية الدرجة الرابعة إلا
بناءا على شكوى المضرور .
ورغم استخدام المشرع مصطلح الإخفـاء للدلالة على الفعل المكون للركـن المـادي للجريمة ، فالفقه والقضاء في كل مـن مصر وفرنسـا مستقران على أن التقيد بهـذا
المصطلح من شأنه أن يضيق من دائرة العقاب على نحو لا يحقق المصلحة العامة(1) .
وحاولا توسيع هذا المفهوم وعرفاه بأنه:" حيازة الشيء بأي شكل كان ويستوي فـي ذلك أن تكون الحيازة مستترة أو لا تكـون كذلك ، فلا عبرة إذا بكون الإخفاء تم سرا أو كان علنا وعلى مرأى من الكافة ، كما لا يهـم سبب الحيازة حتى ولـو بطريـق
مشروع ، كشراء الشيء المتحصل عن السرقة أو اكتسب حيازته عـن طريق الهـبة
والحيازة هي الصورة التقليدية لفعل الإخفاء ، وقد توسع القضاء الفرنسي في فهم فعل الإخفاء وأصبح يشمل التوسط في بيع وتداول المتحصل من الجريمة ، حتى ولو لـم يكن هذا التوسط مصحوبا بالحيازة المادية للشيء وكذلك قبول الشخص حيازة الشيء حتى ولو لم يكـن قد تسلمه فعليا الحيازة المستقبلية للشيء وهـذا الفهـم فـي
رأي الدكتور سليمان عبد المنعم يعد ذلك انتهاكا لمبدأ الشرعية .
ومـن صور التوسـع أيضا اعتبار الشخص الذي يقطن سكنا تودع فيـه الأشيـاء المسروقة مرتكبا للجريمة وحتى ولم تثبت حيازته الفعليـة للأشياء أو الشخصية أي حيازة غير شخصية ، وخلافا لذلك ذهب القضاء المصري إلى أن جريمة الإخفاء لا يتحقق ركنها المادي إلا إذا أتى الجاني فعلا إيجابيا يدخل به الجاني الشيء المسروق في حيازته فبمجرد علم الجاني بأن شيئا مسروقا موجود في منزله لا يكفي لاعتباره مخفيا له ما لم يثبت أنه كان في حيازته(2) .
ومن صور التطور في القضاء الفرنسي أخيرا اعتباره جريمة إخفاء الأشياء شاملة لصور جد مستحدثة ومثال ذلك : مجرد الانتفاع بالشيء المسروق ، استعمال الشيء الناتج عن جريمة(3)، وهكذا حلت فكرة المنفعة محل فكرة الحيازة أو الإخفاء .
وإذ ذاك ليس هناك ما يمنع من استيعاب جريمة الإخفاء لنشاط تبييض الأموال ذات
المصدر غير المشروع ، وهذه الأخيرة قد تأخذ وصفين وصف عام ووصف خاص.
1- تبييض الأموال كوصف خاص بجريمة الإخفاء :
إذا كان التكييف العام لجريمة الإخفاء يشمل كل العائدات الناتجة عن جناية أو
جنحة فإن هناك بعض الصور نص عليها المشرع وحـدد لـها عقـوبة خاصة بـها
ومثال ذلك ما تضمنه القانون المصري على عقاب كل مـن أخفى بأي طريقة كـانت شيئا متحصلا من كسب غير مشروع أو محكوم برده متى كان يعلم حقيقة أمره أو لديه
ما يحمله على الاعتقاد بذلك ، وما هو منصوص عليه في التشريع الجمركي الجزائري
والخاص بمصادرة وسائل النقل والبضائع المهربة وغيرها من النصوص.
إلا إن هذه النصوص غير كافية لاستيعاب نشاط غسيل الأموال لاعتبارات موضوعية كانتهاك مبدأ الشرعية واعتبارات إجرائية تحول دون ملاحقة جنائية فعالة خاصة إذا تم عبور الجناة لأكثر من دولة .
2- تبييض الأموال كوصف عام لجريمة الإخفاء
استنادا لنص المواد 387 و388 من قانون العقوبات الجزائري والتي تعاقب كل مـن
أخفى أشياء مختلسة أو متحصلة مـن جناية أو جنحة عمدا بالعقوبة المقررة لجنحـة
الإخفاء ، وتبعا لذلك يعد مرتكبا لجنحة الإخفاء كل من حاز عائد ناتج عـن جريمـة تكيف على أنها جناية أو جنحة ، وإذا كانت الإشكالية لا تثور إذا كان المخفي شخصا طبيعي فيتابع ويدان بالجنحة المنصوص عليها بالمادة 387 ق ع ، إلا أنهـا تثور إذا أودعت الأموال المتحصلة من جناية أو جنحة في بنك من البنوك ، فهـل يعـد البنك مرتبكا لجريمة الإخفاء طبقا لأحكام المادتين السابقين ؟ ، وإذا أعتبـر شريكا(1).
فمـا هي اللحظة التي تكون معيارا لتحديد عنصر علـم البنك بالمصدر غـير المشروع للأموال والمتحصلات المودعة لديه ؟ .
فانطلاقا من عمومية النص الجزائي فإن كل من أخفى أموالا متحصلة من جنايـة أو جنحة يعد مرتبكا لجريمة الإخفاء ، و وفقا لذلك يمكن أن يكون البنك مرتبكا لجريمـة الإخفاء بقبوله إيداع الأموال أو تحويلها أو استثمارها لديه وهو يعلم بمصدرها الغيـر مشروع هذا من الناحية النظرية . ووفق ما أقرته العديد من التشريعات خلافا للمشرع الجزائري الذي لم يورد أي عقوبة أصلية للأشخاص المعنوية في قانون العقوبات إلى غاية صدور القانون رقم 04-15 المؤرخ في 10/11/2004 و المتضمن تعديل قانون العقوبات أين أقر المشرع صراحة و في المادة الرابعة منه على العقوبات المقـررة للأشخاص المعنوية باستثناء الدولـة و الجماعات المحليـة و الأشخاص المعنويـة الخاضعة للقانون العام ، كما أن المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي لا تمنع مـن مساءلة الشخص الطبيعي الممثل له كفاعل أصلي أو كشريك.
والانحياز لتكييف ظاهرة تبييض الأموال كجريمة إخفاء يمكن تبريره من خلال النقاط التالية :
1- عمومية النص التشريعي الوارد في قانون العقوبات سواء في القانون الجزائري أوفي القانون الفرنسي والمصري ، فالمشرع لم يحدد على وجه الدقة الجريمة الأولية التي يمكن إخفاء متحصلاتها وبالتالي يصبح معاقبة كل من أخفى بشرط أن لا يكون المتحصل ناتج عن مخالفة .
2- إن المشرع استعمل مصطلح الإخفاء ، وهذا المصطلح حسب الفقه يأخذ صـورا
مختلفة فهي الحيازة والاستعمال والانتفاع والوساطة في بيع الشيء أو تداولـه ، ولا ينحصر فقط في الاحتباس المادي للشيء الناتج عن الجريمة ، وإذ ذاك فالدور الـذي يقوم به البنك في قبول إيداع أو تحويل أو استثمار العائدات المتحصلة من جنايـة أو جنحة يندرج دون أدنى شك ضمن الركن المادي المكون لجريمة الإخفاء(1) .
3- ظهور فكرة الحلول العيني(2) الناتجة عن ظهور توجه جديد داخل القضاء بمقتضاه
فإنه يوسع من دائرة العقاب ويلاحق حيازة الأموال الغير مشروعة أيا كـانت الصورة التي تتحول إليها هذه الأموال .
وفكرة الحلول تؤثر على الركن المعنوي لاسيما إذا كان المخفي شخصيا معنويا فالركن المعنوي يتطلب العلم بمصدر الأموال الغير مشروع ، ومسألة العلم تطـرح إشكالية تقدير لحظة العلم . هل يشترط العلم لحظة قبول الإيداع أو حتى بعد تحويـل تلك الأموال ؟ فحسب اتفاقية فينا لسنة 1988 تحدد لحظة العلـم بوقت تسلم هــذه الأموال و قد ساير المشرع الجزائري ذلك في نص المادة 389 مكرر مـن القانـون
04-15 المعدل لقانون العقوبات و بالتالي تنتفي مسؤولة البنك إذا كان علمه لاحقا على وقت تسلم هذه الأموال .
وإذا كان البنك من حيث المبدأ يعد مرتكبا لجريمة الإخفاء ، إلا أن بعض الفقـه قد أنكرو اعتبار البنك مخفيا للأموال ذات المصدر غير المشروع وحجتهم في ذلك أن قبول المصرف الأموال المودعة في حساب أحـد عملائه لا يعني أنه قد أصبح حائزا بالفعل لهذه الأموال ، وإنمـا يبقى حـق التصرف في المـال مقصورا على صاحب الحساب المصرفي وحـده دون غـيره ، ودور البنك لا يتجـاوز تسجيل العمليـة المصرفية في الدائـن أو المدين فقط ، أنكروا بذلك عـلى البنك المتابعة على أساس جنحة الإخفاء.
قد رد عليهم جانب من الفقه على أنـه إذا كان البنك لا يعـد حائزا للأمـوال المودعة فإنه على الأقل يكون منتفعا بهذه الأموال كونها تزيد من أرصدته .
وتجريما للفعل توسع القضاء الفرنسي في مفهوم الإخفاء و في مفهـوم الحيازة وكذلك في محل الإخفاء ليشمل الأشياء المادية والغير ماديـة وكذلك مفهوم الجريمـة الأولية التي تحصلت منـها الأموال وأصبحت تشمـل كـل الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات بعدما كانت مقتصرة على الجرائم المالية فقـط ولمزيد من التفصيل أنظر المبحث المتعلق بأركان جريمة تبييض الأموال.
وكأي تكييف لظاهرة جديدة فإن وصف تبييض الأموال كجريمة إخفاء وصف يشوبـه القصور سواءا على مستوى الركن المادي أو على مستوى محل جريمـة الإخفـاء أو على مستوى الجريمة الأولية التي تقوم عليها جريمة تبييض الأموال .
أ- على مستوى الركن المادي :
تتطلب جريمة الإخفاء القيام بفعل إيجابي(1) يتمثل في الحيازة للشيء الذي مصدره غير مشروع ولا يعاقب القانون على مجرد الامتناع كقاعدة عامـة مما يجعـل طائفة كبيرة من الفاعلين تفلت من العقاب كما أن متابعة البنك بجريمة الإخفاء تكييف مردود عليه انطلاقا من أن البنك يربطه عقد وديعة مع العميل وإذا لم يسجل البنك العمليـات في الحساب البنكي يعد مرتبكا لجريمة خيانة الأمانة(1) كما أنه لا يوجد أي نص يعاقب على الامتناع ، فإن امتناع البنك على فحص مصـدر الأمـوال أو التثبت في حـقيقة الأموال لا يرقى إلى أن يكون السلوك الإيجابي الذي تتطلبه جريمة الإخفاء .
ب- قصور وصف الإخفاء على مستوى محل جريمة الإخفاء :
في ظل التطور القضائي والفقهي لمحـل جريمة الإخفاء والتي أصبحت تتجـاوز
الأشياء المادية إلى تلك الأشياء المعنوية التي يرد عليـها سلوك الحيـازة وتتبع الشيء المتحصل من الجريمة الأولية ، ظهرت فكرة الحلول العيني ، هذه الفكرة تتعارض مع مبدأ قار في عمل البنوك مؤداه عدم قابلية الحساب الجاري للتجزئة(2) وبالتالي تختلـط داخل نفس الحساب الأمـوال ذات المصـدر المشروع مـع تلك ذات المصدر غـير المشروع ، مما يصعب من الناحية العملية التمييز بينهما.
وما يجدر التنبيه إليه أن المشرع الجزائري أقـر صراحة أنه في حالة دمـج العائدات الإجرامية مع الممتلكات المكتسبة بطريقة قانونية فـإن عقوبة المصادرة لا يمكـن أن تكون إلا بمقدار هذه العائدات ( أنظر المادة 389 مكرر 4 فقرة 3 ) وبذلك يكون قـد رتب أثر قانوني على جزء من رصيد مالي دون باقي المال .
ج- قصور الوصف على المستوى الجريمة الأولية :
أغلب التشريعات ومنها التشريع الجزائري لا تحدد على وجه الدقة نوع الجريمة السابقة على سلوك الإخفاء وإنمـا تكتفي بوصفها بالجناية أو الجنحة ، وعمومية هـذا النص يشكل اعتداء على مبدأ الشرعية الذي بمقتضاه تحدد كافة الأركـان والعناصـر اللازمة لقيام الجريمة فـي النص وقـد تعرض المجلس الدستوري الفرنسـي 1981 لإشكالية التجريم الفضفاض ومدة مخالفته لجوهر مبدأ الشرعية في حكـم مشهور في 19 /20 يناير 1981 .
د- على مستوى الركن المعنوي :
جريمة الإخفاء تتطلب سلـوك إيجابي عمدي ولا تقوم على مجـرد الإهمـال والتقاعس وذلك ما أجمعت عليه جل التشريعات العقابية .
وإعتبارا لأوجه القصور المذكورة أعلاه يظهران تكييف جريمة إخفـاء الأشياء المسروقة ليـس هو الأكثر ملائمة لاستقطاب نشاط تبييض الأمـوال لذا بـات مـن الضرورة وأعمالا لمبدأ الشرعية الذي بمقتضاه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، سـن تشريع عقابي خاص لملاحقة ومعاقبة مثل هـذه الأصناف مـن الجرائم الاقتصاديـة والمصرفية وهو ما نتناوله في الأتي :
ثانيا : إيجاد وصف جزائي خاص بملاحقة نشاط تبييض الأموال
رغم أن التكييفات التقليدية تستوعب إلى حد كبير نشاط تبييض الأموال إلا أنـه من الناحية العملية ظهرت العديد من أوجه القصور لاسيما عدم المساس مبدأ شرعيـة الجرائم والعقوبات وضرورة التفسير الضيق للنص الجزائي ، وجب إعادة النظـر في تحديد وصف خاص يشمل نشاط تبييض لأموال وذلك من خلال تدخل المشرع بسـن نص تشريعي يعاقب على هذا الفعل محددا أركانه وشروط تطبيقه بدقـة حتى يكـون محلا لتوقيع الجزاء المقرر قانونا .
وتدخل المشرع بنص خاص يجرم الفعل له العديد من المزايا فهو أولا يحسم كل خلاف قد ينشأ بمناسبة تفسير النصوص التقليدية لا سيما وأن ظاهرة تبييض الأمـوال ظاهرة مستحدثة ، وهي اقتصادية مصرفية(1) في مضمونها لذا وجب إلمام المشرع من خلال النص بكل جوانبها الفنية والتقنية .
وتحقيقا لذلك شهدت أواخر الثمانينات اهتماما ملحوظا لدى معظم المشرعين في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة هذه الظاهرة ، وتجلى ذلك جليا من خـلال القانـون الفرنسي وكـذا الاتفاقيـة فيينا للأمم المتحدة لسـنة 1988 وقـد سايرت
معظم التشريعات الالتزامات الدولية الواقعة على عاتقهـا بمناسبة التوقيـع على هـذه
على هذه الاتفاقية ، بسن نصوص تجرم الظاهرة وتضع حـدا لتوسعهـا.
وفي السودان صدر قانون تبييض الأموال بتاريخ 02/08/2003 يحتوي على 24 مادة وفي لبنان صدر قانون تبييض الأموال بتاريخ 20/09/2001 ويحتوي على 17 مادة .
وفي الجزائر صـدر قانون تبييض الأمـوال بتاريخ 10/11/2004 بموجب القانـون
04-15 المعدل والمتمم للأمر 66 / 156 المتعلق بقانون العقوبات وقـد كان هـذا القانون ثمرة مزج بين الأحكام الواردة في الاتفاقية وبيـن مـا توصل إليه الاجتهـاد الفرنسي .
ونظرا لشمولية النص الفرنسي باعتباره مرجعا لباقي القوانين التي استقت منـه مباشرة تجريم الفعل نرى في باب المفاضلة التطـرق إلى القانـون الفرنسي ثـم إلى الاتفاقية فينا لسنة 1988 ثم إلى القانون الجزائري.
فبالرجوع إلى الفانون الفرنسي فإنه ساير تطور مظاهر هذه الظاهرة و اهتم في بداية الأمر بنشاط الاتجار في المواد المخدرة و ذلك لتفاقم هـذه الظاهرة في جانبـها التجاري و من ناحية عدد المرضى ، منطلقا مـن النصوص التي سبق و أن أعدهـا و يتعلق الأمـر بالقانون 24/12/1953 و 31/12/1970 المتعلقين بمكافحة إنتـاج المخدرات و الإدمان عليها و الاتجار فيها ، و قد شدد القانون الصادر بتاريخ 88 من الجزاءات المقررة لهـذه الجرائم ، و في سبيل ذلك اهتم المشـرع الفرنسي بـدور المؤسسات المالية في مكافحة غسيل الأموال الناتجة عن الاتجار في المواد المخدرة و قيد بذلك مبدأ سرية المعاملات المصرفية رغم ما يفرضه هذا المبدأ على المؤسسـات المصرفية من قيود ، و ألزمهم بواجب الإخطار(1) عن الأموال و العمليـات التي تبدو متحصلة من إحدى جرائم المخدرات للجنة التابعة لوزارة المالية و تحققت بذلك رقابة المؤسسة المصرفية على حركة الأموال المودعة ذات المصدر المشبوه ، كـما عـدد المشرع الفرنسي الأشخاص و الجهات الخاضعة لأحكام القانون ثم تلى هذه النصوص بالقانـون الصادر بتاريخ 13 /05/1996 و الـذي تضمـن مكافحة غسيل الأمـوال و التعاون الدولي في مجال ضبط و مصادرة عائدات الجرائم في بابه الأول و تنـاول في بابه الثاني النصوص الهادفة إلى تعزيز مكافحة الاتجـار في المـواد المخـدرة ، و عرف لأول مرة جريمة تبييض الأموال على أنها تسهيل التبرير الكاذب بأي طريقة كانت لمصدر أموال أو دخول ، فاعـل جنائية أو جنحة تحصل منها على فائدة مباشرة أو غير مباشرة .
و يعتبر كذلك فعل من أفعال جريمة تبييض الأموال تقديم المساعدة في عمليات الإيداع أو الإخفاء أو تحويل العائد المباشر أو الغير مباشر لجناية أو جنحة و قد رصد المشرع لهذه الجرائم في صورها البسيطة عقوبة السجن (1) .
و عاقب على مجرد الشروع في الجريمـة و لـم يفوت المشرع الفرنسي على نفسه التنصيص علـى عقوبات تكميلية توقـع على مرتكبي جرائم تبييض الأمـوال كالمنع من مباشرة الوظيفة العامة و حضر إصدار الشيكات و مصادرة وسائل نقـل المجرمين و أسلحتهم و الأشيـاء المستخدمـة في الجريمة و غيرها ، كمـا قـرر مسؤولية الشخص المعنوي على جرائم غسيل الأمـوال و عدد الجزاءات التي يجوز الحكم بها في مواجهته (2)، مع إمكان مسائلة المشرفين عليـه جزائيا باعتباره مساعدا أو فاعلا أصليا للجريمة حسب الأحوال و الظروف .
و ما يمكن ملاحظته أن المشرع الفرنسي قد جرم و عاقب على مختلف صور غسيل الأموال المتحصلة عن جناية أو جنحة أيا كانت هذه الجناية أو الجنحة و ساعده في ذلك عمومية النص التشريعي الذي يمكن تطبيقه على كل من سهل التبرير الكاذب لمصدر الأموال أو الدخول المتحصل عن جناية أو جنحة و كذا تقديم المساعـدة في عمليات الإيداع أو الإخفاء أو التحويل سواءا كـان تحويلا مباشرا أو غيـر مباشر ، و هذه الإجراءات و التوسع في الركن المادي لجريمة تبيض الأموال من شأنـه أن يردع توسع الظاهرة و حجم ارتكابها .
تجريم الظاهرة وفقا لاتفاقية فينا لسنة 1988 :
في إطار مكافحة المخدرات و المؤثرات العقلية ، توجت المجهودات التي قامت بها الأمم المتحدة باتفاقية فيينا 88 و التـي تضمن تجريم كافة الصـور و النشاطـات المرتبطة بالمواد المخدرة و المؤثرات العقلية بعدما أخذت الظاهرة صـورة الجريمـة المنظمة و امتدت آثارها و أطرافها إلى كافة دول العالم ، و اتسمت مواصفاتها بالتعقيد و التداخل مع جرائم أخرى مشابهة و تضخمت عائداتها و أثـرت على اقتصاديـات الدول و على مستوى مؤسساتها الداخلية .
و قد توسعت الاتفاقية في تجريم تبييض الأموال و لهذا توسع مظهران :
1- المظهر الأول : تجريم تحريض الغير و حضهم علانية بأي وسـيلة كـانت على ارتكاب جريمة تبييض الأموال كجريمة مستقلة .
2- المظهر الثاني : تجريم الاشتراك في ارتكاب جريمة تبييض الأمـوال أو التواطؤ
على ذلك أو المساعدة أو تسهيل أو إبداء المشورة بصدد ارتكابها .
و قد ألزمت الاتفاقية الدول على اتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة لمكافحة الظاهـرة وأعطت لركنها المادي مفهوما أوسعا لا سيمـا لاستعمالـها لمصطلحي " متحصلات الجرائم "(1) و الأموال محـل الغسيل "(2) و أولت لعقوبـة المصادرة أهمية بالـغة باعتبارها أنجع وسيلة و أمثلها لمكافحة نشاط غسيل الأموال ، و عززت مـن تنازع الاختصاص القضائي بين الدول في مكافحة الجرائم المنظمة و يتضح ذلك جليا مـن خلال الجوانب الإجرائية لملاحقة نشاط غسيل الأموال ، و قد أولت أهمية بالغة لمسألة التعاون القضائي بين الدول بهدف ملاحقة الجريمـة عبر الحـدود ، فضلا على أنـها طوعت كثيرا مبدأ السرية المصرفية للحسابات و كذا أقرت مبدأ إحـالة الدعاوى بيـن مختلف الدول في إطار المساعدة القضائية و كذا تسليم مرتكبي الجرائم .
ففي مجال فض تنازع الاختصاص أقـرت الاتفاقية تكامـلا في معايير الاختصـاص و أقرت مبدأ العالمية إذا خولت انعقاد الاختصاص للدولة التي يقع في إقليمها موطن أو محل إقامة مرتكب الجريمة(1) دون الإخلال بالمتابعة التي تجريها الدولة التي وقعـت فيها الجريمة و ذلك لتفادي الإفلات من العقاب للفاعل و هذا مـن باب الموازنة بيـن السيادات التشريعية و القضائية للدول .
أما في مجال تسليم المجرمين و المساعدة القانونية فقـد أدرجت الاتفاقـية في مادتها السادسة على أن كل جريمة من الجرائم المنصوص عليها يجـوز فيهـا تسليم المجرمين فيما بين الدول و تعتبر الاتفاقية نفسها المرجع القانوني في ذلك .
و في حالة عدم التسليم تلزم الدول الممتنعة عن التسليم بتنفيذ العقوبة المسلطة علـى الفاعل أو الفاعلين من طرف الدولة طالبة التسليم . و يكون التنفيذ بالشروط التالية :
1- أن يتم ذلك بناءا على طلب الدولة التي تطلب التسليم.
2- أن يسمح بذلك قانون الدولة المطلوب منها التسليم .
3- أن يتعلق الأمر بتنفيذ عقوبة محكوم بها بموجب قانون الدولة الطالبة التسلـيم.
و في مجال المساعدة القانونية حرصت الاتفاقية في مادتها السابعة على حث كافة الدول الأطراف أن تقدم لبعضها البعض أكبر قـدر مـن المساعدة مـن تحقيقات وملاحقات و إجراءات و تشمل عموما المساعدة القضائية ما يلي :
1- اخذ شهادات الأشخاص و إقراراتهم .
2- تبليغ الأوراق القضائية .
3- إجراءات التفتيش و الضبط ، فحص الأشياء ، الإمداد بالمعلومات و الأدلة
4- توفير النسخ الأصلية للسجلات المالية و المصرفية وسجلات الشركات .
و أهم عنصر أ وردته الاتفاقية في مجال التعاون القضائي هو إمكانية إحالـة الدعاوى للملاحقة الجنائية من دولة إلى أخرى بشأنه الجرائم المنصوص عليها مثلما هـو وارد في المادة الثامنة منها للكشف عن عائدات هذه الجرائم .
وتجدر الإشارة إلى أن المشـرع الفرنسي قـد أقر صراحة تنفيذ الأحكام الجزائيـة الأجنبية الناطقة بالمصادرة على الإقليم الفرنسي و ربط ذلك بتوافر شروط :
1- أن يكون الحكم نهائيا وفقا لقانون الدولة طالبة التنفيذ .
2- أن تكون الأمـوال المحكوم بمصادرتها ممن يجوز مصادرته وفقـا للتشريـع الفرنسي .
3- أن يكون الترخيص بتنفيذ الحكم من محكمة الجنح بناءا على طلب النيابة العامة
على أنه يحق لمحكمة الجنح أن تسمع بطريـق الإنابة القضائية عند الحاجـة الشخص المحكوم عليه و كل الأشخاص الذين تتعلق حقوقهم بأموال محل المصادرة .
تجريم الظاهرة وفقا للتشريع الجزائري
مواكبة للتشريعات المقـارنة التي تجـرم ظاهرة تبييض الأموال والحد مـن سرعـة انتشارها ، واحتراما للالتزام الوارد في اتفاقية فينا والتي صادقت عليـها الجزائـر ، أصدر المشرع الجزائري القانون رقـم 04/15 المؤرخ في 10/11/2004 المعـدل والمتمم للأمر 66/156 المتضمن قانون العقوبات ونص في مواده من 389 مكرر وما يليها على الأحكام المقررة لجريمة تبييض الأموال .
وقد تأثر كثيرا في هـذا النص بما ورد في المادة الثالثة مـن اتفاقية فينا لسنـة 1988 في تحديد الركن المادي والمعنوي للجريمـة ، بحيث جرم كل فعـل يراد بـه تحويل الممتلكات أو نقلها ، إخفاء أو تمويه المصدر غيـر المشروع سواءا للممتلكات أو لطبيعتها الحقيقية أو لمصدرها أو مكانها وكذا حيازتها أو إكتسابها فضلا على مجرد إستخدامها بشرط علم قائم بذلك وقت تلقيها بأنها عائدات إجرامية .
وقد تجاوز المشرع الجزائري ما توصل إليه القضاء الفرنسي من أحكام سواءا بتوسيعه لمفهوم الحيازة ليشمل مجرد الإستخدام بشرط علم المستخدم بأنـها عائدات إجراميـة أو بتوسيعه لمفهوم الجريمة الأولية ليشمل كل العائدات الناتجة عن جريمة بما في ذلك المخالفات .
كما جرم المساعدة اللاحقة عن الجريمة الأولية بإعتبار القائم بها فاعلا أصليـا لجريمة تبييض الأموال مثلما هو واضح مـن الفقرة الأولى من المادة 389 مكـرر ، فضلا عن تجريمه للأعمال التحضيرية لإرتكاب جريمة تبييض الأموال وذلك باستعمال المشرع لعبارة ( إسداء المشورة بشأنه ) ، كمـا جرم التحريض وكـذا الشروع في الجريمة .
وقد أولى أهمية بالغة بعقوبـة المصادرة التي تشمل الممتلكات والعـائدات التي تـم تبييضها والمعدات والوسائل التي استعملت في أرتاب الجريمة ، وفي إطار محاربتها أعد مشروعا هو قيد الإثراء والمناقشة من طرف نواب البرلمان لمحاربة هذه الظاهرة محليا ودوليا ، ولمزيد من التفصيل أنظر المبحث المتعلق بأركان الجريمة .
و كخلاصة عامة فإن التصدي لجريمة تبييض الأموال بنـص خاص ضرورة أملتـها التطورات العلمية و التكنولوجية . لذلك فإن أغلب الدول قد دأبت على سن تشريعـات تجرم الظاهرة و توفي بإلتزامها الدولي المحدد في اتفاقية فيينا و تضع بذلك حدا فاصلا بين جريمة تبييض الأموال و غيرها من الجرائم المشابهة لها لا سيما جريمة الصرف جريمة تحويل المال العام و كذا جريمة الرشوة و هو ما نتناوله في المطلب الثاني .
المطلب الثاني :تمييز جريمة تبييض الأموال عن بعض الجرائم المشابهة لها :
هناك بعض الجرائم التي تتداخل مع جريمة تبييض الأموال سـواء مـن حيث الطبيعة أو من حيث الأركان أو من حيث الغاية و سنتعرض من خلال هذا المطلب إلى التمييز و ذلك باستعراض التعاريف و الأركان لنخلص على أوجه الاختلاف و الشبـه مقتصرين في ذلك على ثلاثة جرائم نذكرها ضمن الفروع الآتية :
أولا : جريمة تبييض الأموال و جريمة الرشوة
لم يعرف المشرع الجزائري جريمة الرشوة لكنـه اكتفى بالنص علي صورهـا مبينا صفة الجاني و الأفعال التي تتم بها الجريمة و من التعاريف الفقهية للرشوة بوجه عام بأنها " الاتجار بأعمال الوظيفة أو الخدمة أو استغلالها بأن يطلب الجاني أو يقبـل أو يحصل على عطية أو وعد بها أو أية منفعة أخرى لأداء عمل من أعمـال وظيفته أو الامتناع عنه "(1) .
كما تعرف على أنها " اتفاق بين شخصين يعرض أحدهم على الآخر عطية أو وعـد بعطية أو فائدة فيقبل بها لأداء عمل أو الامتناع عـن عمل يدخل في أعمال وظيفتـه أو مأموريته (1) .
أما عن جريمة تبييض الأموال فلم يتم التوصل لحد الآن إلى تعريف شامل لها نظرا لحداثتها و قد تمايز تعريفها عند الفقهاء فتعرف من حيث موضوعها و غايتـها و طبيعتها و هو ما سبق و تعرضنا له في الفصل التمهيدي .
وقد عرفها المشرع الفرنسي بموجب المادة 324/1 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد على أن :
"تبييض الأموال هو تسهيل التبرير الكاذب بأي طريقة كانت لمصدر أموال أو دخـول فاعل جناية أو جنحة تحصل عنها فائدة مباشرة أو غير مباشرة .
و يعتبر أيضا من قبيل التبييض مجرد القيام بمساعدة في عمليات إيداع أو إخفاء أو تحويل العائد المباشر أو غير المباشر لجناية أو جنحة " .
كما نص قانون العقوبات الجزائري المعدل بالقانون رقم 04 /15 على هـذه الجريمة و ساير إلى حـد بعيد نص المـادة الثالثة مـن معاهدة فيينا المتعلقة بمكافحة الاتجار الغير مشروع في المخذرات و المؤثرات العقلية التي سبـق عرضـها بحيث اعتمد في تعريفه للجريمة على ذكر صورها و ذلك حسب ما جاء في نص المادة 389 مكرر من قانون العقوبات التي نصت على ما يلي:
" يعتبر تبييضا للأموال :
أ- تحويل الممتلكات أو نقلها مع علم الفاعل بأنها عائدات إجرامية بغرض إخفـاء أو تمويه المصدر الغير مشروع لتلك الممتلكات أو مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية التي تأتت منها هذه الممتلكات ، على الإفلات من الآثار القانونية لفعلته .
ب-إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات أو مصدرها أو مكانـها أو كيفيـة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها ، مع العلم بأنها عائدات إجرامية .
ج- اكتساب الممتلكات أو حيازتها أو استخدامها مع علم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها، بأنها عائدات إجرامية .
د- المشاركة في ارتكاب أي من الجرائم المقررة وفقا لهذه المـادة ، أو التواطؤ أو التآمر على ارتكابها و محاولة ارتكابها و المساعدة و التحريض على ذلك و تسهيله و إسداء المشورة بشأنه "(1) .
أوجه الاختلاف بين الجريمتين :
*على عكس جريمة تبييض الأموال التي هي جريمة تبعية تفترض وجود جريمة سابقة لها تسمى بالجريمة الأصلية فإن جريمة الرشوة لا تفترض وجود جريمة سابقة و إنمـا تشمل هذه الجريمة جريمتين متميزتين الأولى سلبية من جانب الموظف العام و من في حكمه ، و قـد اصطلح على تسميتها " الرشوة السلبية" و الثانية إيجابيـة مـن جانب صاحب المصلحة ، و قـد اصطلح على تسميتها " الرشوة الإيجابية " و الجريمتـان مستقلتان عن بعضهما في التجريم و العقاب .
*جريمة الرشوة هي اتجار الموظف بأعمال وظيفته و بالتالي فصفة الجاني هي عنصر مفترض في أركانها، إذ يشترط المشرع صفة خاصة في المرتشي و هي أن يكون إمـا موظفا عموميا أو من في حكمه أو خبيرا أو محكما أو طبيبا أو من شابهه و إما عاملا أو مستخدما و هذا حسب نص المادتين 126 و127 من ( ق.ع ) ، في حين أن جريمة تبييض الأموال يمكن أن تقترف من أي شخص طبيعي أو معنوي فالمشرع لا يشتـرط صفة خاصة في الجاني .
*جريمة الرشوة هي اتجار الموظف بأعمال وظيفته و يكون الغرض إما أداء المرتشي عمل إيجابي أو الامتناع عنه تتحقق به مصلحة صاحب الحاجة، بينما غرض جريمـة تبييض الأموال هو تسهيل التبرير الكاذب بأي طريقة كانت لمصدر أموال أو مداخـيل فاعل جناية أو جنحة تحصل منها فائدة مباشرة أو غير مباشرة أو المساعدة على تحويل العائدات المباشرة أو غير المباشرة لجناية أو جنحة .
*جريمة الرشوة جريمة وقتية أي محكومة بوقت وقوعها فتقوم بمجرد ارتكابها في حين أن جريمة تبييض الأموال فهي جريمة مستمرة مثلها مثل جريمة التزوير .
*من حيث العقوبة :
في جريمة الرشوة تختلف العقوبة و الوصف بحسب صفة المرتشي ، بحيث قد تكـون جنحة عقوبتها الحبس من سنة إلى 5 سنوات أو جنحة مشددة عقوبتها من سنتين (02 ) إلى 10 سنوات أو جناية تتراوح عقوبتها بين 5 إلى 20 سنة (1).
أما عقوبة جريمة تبييض الأموال وفقا للتشريع الفرنسي فقد رصد لها المشرع الفرنسي في صورتها البسيطة عقوبة السجن لمدة 05 سنوات و غرامة مالية
قدرها 250000 فرنك فرنسي ، و تشدد العقوبة لتصل إلى 10 سنـوات و مضاعفـة الغرامة إذا اقترنت بأحد من الظرفين التاليين :
- وقوعها بطريق الاعتياد أو استخدام الوسائل التي ييسرها مزاولة نشاط مهني .
وقوعها في صورة جريمة منظمة(2) .
و قد جاء تعديل قانون العقوبات الجزائري المجرم لنشاط تبييض الأموال مسايرا للنص الفرنسي من حيث العقاب حيث قرر عقوبة الحبس من 05 إلى 10 سنوات فـي الصورة البسيطة ، و شددها لتصل من 10 إلى 15 سنة في الحـالة التي ترتكب على سبيل الاعتياد أو باستعمال التسهيلات التـي يمنحها نشاط مهني أو في إطار جماعـة إجرامية(3).
أوجه التشابه بين الجريمتين :
*كلا الجريمتين قصديتين يقتضي قيامهما توافـر القصـد الجنائي الذي يتكون مـن عنصري العلم و الإرادة .
*لكلا الجريمتين عواقب وخيمة تهدد أساس استقرار المجتمع و الدولة و هو ما دفع المشرع الداخلي إلى التصدي لها ، بالإضافة إلى ما تلقاه كلا الجريمتين من اهتمـام عالمي على صعيد المؤتمرات الدولية و التوصيات و الاتفاقيات الصادرة عنها .
ثانيا: جريمة تبييض الأموال و جريمة تحويل المال العام
يقصد بجريمة تحويل المـال العام الفعل المنصوص و المعاقب عليه في المـادة 119
( ق.ع)و تتمثل في اختلاس أو تبديد أو حجز بدون وجه حق أو سرقة أمـوال عامة أو خاصة أو أوراق سلمت للجا ني بمقتضى وظيفته أو بسببها .
و يأخذ السلوك المجرم الذي هو أحـد عناصر الركن المادي لهـذه الجريمة أربعـة
صور هي(1) :
الاختلاس : و هو تحويل الأمين حيازة المال المؤتمن عليه من حيازة وقتية على سبيل الأمانة إلى حيازة نهائية على سبيل التمليك .
التبديد : هو تصرف لاحق على الاختلاس و فيه يقوم المختلس بإخراج المال المؤتمن عليه من حيازته بالتصرف فيه إما بالبيع أو الرهن أو الهبة ، فهو التصرف في المال على نحو كلي أو جزئي بإنفاقه أو إفنائه .
الاحتجاز بدون وجه حق : هو التصرف الذي من شأنه أن يعطل المصلحة التي أعد المال لخدمتها ، وقد يكون الاحتجاز تصرفا سابقا على الاختلاس .
السرقة : و يقصد بها الاستيلاء على مال الغير بنية تملكه .
فيمكن القول أن المشرع الجزائري عرف هذه الجريمة من خلال النص على صورها في حين أنه سبق لنا التعرض لتعريف جريمة التبييض عند تمييزنا لها عـن جريمة الرشوة .
أوجه الاختلاف بين الجريمتين :
*جريمة تبييض الأموال يمكن أن تقترف مـن أي شخص طبيعي كـان أو معنـوي فالمشرع لا يشترط صفة خاصة في الجاني ، في حين أن جريمة تحويل المال العـام تقوم على ركن مفترض يتمثل في صفة الجاني الـذي يجب أن يكون قاضيا أو موظفا أو ضابطا عموميا أو في حكم الموظف ، بمعنى من يتولى وظيفة أو وكالة في خدمـة الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات أو الهيئات الخاضعة للقانون العام .
* جريمة تبييض الأموال تعد جريمة تبعية لكونها تفترض وجود جريمة سابقة تسمى بالجريمة الأصلية ، في حين أن جريمة تحويل المال العام لا تشترط وجود جريـمة سابقة فيما عدا صورة التبديد الذي هو تصرف لاحق على الاختلاس ، غير أنه رغم ذلك يبقى وصف الاستقلالية هو الغالب على هـذه الجريمة في صـورة التبديد لأن تلاحقها مع الاختلاس ما هو إلا تداخل مكون لمختلف مراحل الجريمة .
* في جريمة تبييض الأموال المحل الذي يـرد عليه السلوك المجرم هـو أمـوال أو عائدات أية جريمة أخرى ، بمعنى كونه غير مشروع ابتداء ، في حين أن محل جريمة تحويل المال العام حسب ما جـاء به نص المادة 119 (ق.ع ) عـام وواسـع ، بحيث يشكل كل مال سلم إلى الأمين بسبب وظيفته أو بمقتضاها سواء كان للمال قيمة ماليـة واقتصادية ، أو كانت قيمته اعتبارية فقط بل وقد يكون شيئا يقوم مقامه أو وثيقة أو سند أو عـقد أو مال منقول بمعنى أن المال محل الجريمة مشروع .
* جريمة تبييض الأموال غرضها هـو تسهيل التبرير الكاذب بـأي طريقة كـانت لمصدر أموال أو مداخيل غير شرعية فيكفي فقط أن يتحقق هذا الغـرض عند تسـلم المال أو تواجده بيد الفاعل ، في حين أن غرض تحويل المال العام هو الإستيلاء على أموال عامة أو خاصة سلمت للجاني بشرط أن يكون تسلم المـال أو تواجده بمقتضى الوظيفة أو بسببها ، فلا يكفي معرفة صفة الجاني لتطبيق المادة 119 ( ق ع ) بـل يجب أن يكون المـال محل الجريمة موضوع تحت يـد الموظف بمقتضى وظيفتـه أو بسببها(1).
* بالنسبة لجريمة تحويل المال العام فقد تدرج المشرع في تحديد العقوبـة والوصف الجزائي حسب قيمة المال محل الجريمة بحيث تكون الجريمة جنحة أو جناية و تبعـا لذلك تكـون العقوبـات جنحية إذا كانت قيـمة المـال محل الجريـمة أقـل مـن
5.000.000 دج وتكون جناية إذا ما عادلت هذا المبلغ أو تجاوزته ، في حين أنـه وكما سبق لنا عرضه فإن تعديل قانون العقوبات الجزائري الرامي إلى تجريم نشاط تبييض الأموال قد رصد لهذا الفعل عقوبات جنحية فقط وهذا وفقـا للصـورة البسيطة والمشددة .
* لا يتصور الشروع في جريمة تحويل المال العام ، فأما أن تقع كاملة وإمـا أن لا تقع ، في حين أن الشروع وارد في جريمة تبييض الأموال ، و هو ما نصت عليـه المادة 389 مكرر 3 من قانون العقوبات المعدل بالقانون 04 / 15 .
أوجه التشابه :
* كلا الجريمتين قصديتين يقتضي قيامها توافـر القصد الجنائي الذي يتكـون مـن عنصري العلم والإرادة.
لكلا الجريمتين طابع اقتصادي بحيث يضران بالمصلحة الاقتصادية للدولة .
ثالثا :جريمة تبييض الأموال وجريمة الصرف
لا تعـرف جريمة الصرف نسبة للتنظيم النقـدي فحسب ، بـل نسبة كذلك للتشريـع والتنظيم الخاص بحركة الأموال مع الخارج ، باعتبار أن هذا المفهوم الأخير قد كرسه القانون المتعلق بالنقد والقرض (1).
فتحديد هذه الجرائم يقوم على عامل المخالفة للتشريع والتنظيم الخاص بالصرف وحركة رؤوس الأموال مع الخارج .
وقد أفرد المشرع الجزائري هذه الجريمة بقانون خاص وذلك من خلال صدور الأمر 96/22 المؤرخ في 09/07/1996 والمتعلق بقمـع مخالفة التشريـع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج والمعدل والمتمم بالأمر رقم 03/01 المؤرخ في 19-02-2003 ، وقد حصر هذا الأمـر مختلف مظاهـر الجريمة بحيث أن كل مظهر يشكل في حد ذاته جريمة ، وبالتالي فالمشرع الجزائري كعادته لم يعرف الجريمة وإنما لجأ إلى تعداد صورها وذلك ما نصت عليه المـادة 1 و 2 من الأمر 96/22 المعدل و المتمم بالأمر 03-01 والتي تعتبر مخالفة أو محاولة مخالفة للتشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج بأية وسيلة كانت ما يأتي :
- التصريح الكاذب .
- عدم مراعاة التزامات التصريح .
- عدم استرداد الأموال إلى الوطن .
- عدم مراعاة الإجراءات المنصوص عليها أوالشكليات المطلوبة .
- عدم الحصول على الترخيصات المشترطة أو عدم الاستجابة للشروط المقترنة بهذه الترخيصات(1) .
- لا يعذر المخالف بحسن نيته .
بالإضافة إلى :" كل شراء أو بيع أو استيراد أو تصدير أو حيازة السبـائك الذهبيـة والقطع النقدية الذهبية أو الأحجار والمعادن النفسية ، دون مراعاة التشريع والتنظيـم المعمول بهما ".
أوجه الاختلاف بين الجريمتين :
* جريمة الصرف جريمة متميزة تمتاز بغياب تقنين موحد فأهم الأحكـام المتعلقـة
بمخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وبحركة رؤوس الأموال مـن والـى الخارج مقيدة في نصوص مبعثرة ومتقلبة تقلب الظروف الاقتصادية والمالية في فترة معينة ، ومجمل النصوص يغلب عليها الطابع التنظيمي وهي صادرة أساسا عن البنك المركزي ، ويعد النظام رقم 95/07 المؤرخ في 23/12/95 المتعلق بمراقبة الصرف النص المرجعي في هذا المجال(2) ، في حين أن جريمة تبييض الأمـوال لا تحتاج إلى تقنين خاص وموحد وإنما يتم النص عليها في قسم من أقسام قانـون العقوبات الخاص بكل تشريع داخلي كما هو الحال بالنسبة للمشرع الفرنسي ، وكذلك الحـال بالنسبـة للمشرع الجزائري و لم يشذ عن هـذه القاعدة سـوى المشـرع السوداني و اللبناني و اللذان أفرداها بنص خاص .
* يتمثل محل جريمة مخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحـركة رؤوس الأموال من والى الخارج أساسا في النقود والأحجار و المعادن الثمينة ، والنقود يمكن أن تكون معدنية أو ورقية كما يمكن أن تكون مصرفية وهي وسائل الدفع المصرفيـة كالشيكات السياحية وبطاقات الائتمان والأوراق التجارية ، في حين أن محل جريمـة تبييض الأموال يشمل كافة صور الأموال متى كان مصدرها نشاط غير مشروع يشكل جناية أو جنحة وكذلك كافة الإشكال التي يندمج فيها هذا المال أو يتحول إليها أو يتبدل على شاكلتها فلا عبرة بطبيعة هذه الأموال ذات المصدر غير المشروع ، فقد تكـون ذات طبيعة مادية أو غير مادية أو منقولة أو ثابتة لأنها في كـل الحالات تشكل محلا لجريمة التبييض .
* جريمة الصرف عندما يكون محلها نقودا تعـد جريمة ماديـة بحـتة لا تقتضـي
لقيامها توافر قصد جنائي ، فتعفى النيابة من إثبات سوء نية مرتكب المخالفة وهذا ما نصت عليه الفقرة الأخيرة للمادة الأولى من الأمر 96/22 المعـدل والمتمم بالأمـر
03-01 والتي نصت على أنه " لا يعذر المخالف على حسـن نيته " في حيـن أن جريمة تبييض الأموال هي جريمة قصدية يشترط لقيامـها توافـر عنصري العـلم والإرادة.
* جريمة تبييض الأموال كما سبق ذكره جريمة تبعية تفترض وجود جريمة سابقـة
لها ، في حين أن جريمة الصرف ليست كذلك وإنما قد يكون لها طابع مزدوج بحيث يمكن أن تشكل في آن واحد مخالفة جمركية ومخالفة مصرفية وذلك في حالة استيراد بضاعة أو تصديرها بـدون تصريح أو بتصريح مزور متى كـان الهدف مـن عدم التصريح أو التصريح الكاذب أو نتيجتهما هو مخالفة التشريـع أو التنظيم الخاصيـن بالصرف أو بحركة رؤوس الأموال من والى الخارج .
* تتوقف المتابعات الجزائية في مجـال مخالفة الصرف على شكوى مـن الوزيـر المكلف بالمالية أو محافظ بنك الجزائر أو أحد ممثليهما المؤهلين لهذا العرض وهـذا بحسب ما نصت عليه المادة 9 من الأمر 96/22 المعدل والمتمم بالأمـر 03-01، وتبعا لذلك لا يجوز للنيابة العامة مباشرة المتابعات القضائية ضد مرتبكي جرائـم الصرف بدون شكوى من الجهات المخولة قانونا ، وإذا بودر بالمتابعات دون شكوى فإن الإجراءات تكون مشوبة بالبطلان ، في حين أن المتابعة فيما يخص جريمة تبييض الأموال غير مقيدة بطرح شكوى من أي طرف كان ، وللنيابة المبادرة بمباشرة المتابعة من دون أن يكون ذلك سببا للبطلان .
* بالنسبة لجرائم الصرف فـإن الأصـل أن المصالحة جائزة في مختلف صورهـا
وهذا بحسب ما نصت عليه المادة 09 مـن الأمر 96/22 المـعدل و المتمم بالأمـر
03-01،في حين أن المصالحة غير واردة فيما يخص جريمة تبييض الأموال .
أوجه التشابه :
* كلا الجريمتين يمكن أن ترتكبا عن طريق فعل إيجابي أو سلبي ، فجريمة الصرف يمكن أن ترتكب بعدم احترام واجب الترخيص أو بعدم الامتثال لواجب وكذلك الأمـر بالنسبة لجريمة تبييض الأموال التي يمكن أن ترتكب بفعل من أفعال التحويل أو النقل ، أو بعدم الامتثال لواجب التبليغ والتحري .
* لكلا الجريمتين طابع جنحي في الأساس يهدف لتفادي ثقل الإجراءات .
* كلا الجريمتين يعاقب على المحاولة بشأنهما وهو ما يستشف من نص المادة الأولى من الأمر 96/22 التي صنفت جرائم الصرف إلى مخالفات التشريع ومحاولات مخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف ،كما أن المشرع الفرنسي نص على المعاقبة في المحاولة بالنسبة لجريمة تبييض الأموال وهو ما كرسه القانون 04/15 المعدل لقانون العقوبات الجزائري من خلال نص المادة 389 مكرر 3 .
* للجريمتين طابع دولي بحيث يفترض فيهما الامتداد من إقليم دولتين على الأقل وهي الصورة الشائعة عنها، كما أن طابعهما الاقتصادي يظهر جليا في الأضرار والمخاطر التي تشكلانها على اقتصاديات الدول واستقرارها .
المبحث الثاني : أركان جريمة تبييض الأموال
من المتفق عليه فقها أن لكل جريمة وجهان مـادي يتمثل في السلوك الإجرامي الصادر عن الفاعل وهو ما يعبر عنه بالركن المادي للجريمة ونفسي يتمثل فيمـا يدور في ذهن الفاعل وما تتجه إليه إرادته وهو ما يعرف بالركن المعنوي للجريمة .
ويضيف أغلب الفقهاء ركن ثالث وهو الركن الشرعي وهو ما يخرج السلـوك الإجرامي من دائرة الأفعال المباحة ويجعله فعلا مجـرما و معاقبا عليه بصفة مجردة
وبنص خاص وإذا كان هناك خلاف فقهي حـول هذا الركن فإن الراجح هـو قيـام الجريمة على ثلاثة أركان حسب التقسيم التقليدي السالف الذكر وهو ما سنعتمده لدراسة أركان جريمة تبييض الأموال لذلك سنتناول هذا المبحث الركن الشرعي(1) للجريمة في المطلب الأول ، و الركن المادي لها في المطلب الثاني ، و الركن المعنوي في المطلب الثالث .
المطلب الأول : الركن الشرعي لجريمة تبييض الأموال
الركن الشرعي هو النص الجنائي الخاص(2) الذي يلبس الصفة غير المشروعة على السلوك المادي للجريمة فيخرجه مـن ضمن الأفعال المباحة التي تعتبر القاعـدة العامة للسلوك البشري ، ويدخله ضمن الأفعال المجرمـة والمعاقب عليـها، لذلك لا يتصور وجود جريمة بدون وجود نص خاص يجرم ويعاقب عليها وهو ما يعرف بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المنصوص عليه بالمادة الأولى من قانون العقوبات، ولعـل هذا ما جعل البعض من الفقهاء ينفون وجود الركن الشرعي للجريمة ويكتفون بركنيها المادي والمعنوي لكون الركن الشرعي(3) حسبهم هو الـذي يخلق الجريمة فلا يتصور أن يكون بعد ذلك ركنا فيها ، ودون الدخول في الجدل حول هذا الموضوع فإنه مـن المستقر عليه عند أغلب الفقهاء أن لكل جريمة ركن شرعي وهو الرأي الذي اعتمدناه لحظة بحثنا و سنحاول إبراز كل ما يتعلق بالركن الشرعي لجريمة تبييض الأموال في عنصرين ، نتناول في الأول الركن الشرعي لجريمة تبييض الأموال وفقا لاتفاقية فينـا لسنة 1988 و يتعرض في الثاني للركن الشرعي للجريمة حسب التشريع الجزائري .
أولا : الركن الشرعي وفقا لاتفاقية فينا لسنة 1988 :
بالرجوع إلى اتفاقية الأمم المتحــدة لمكافحة الاتجار غيـر المشروع فـي المخدرات والمؤثرات العقلية وللمادة الثالثة منها تحت عنوان الجرائم والجزاءات التي تنص على ما يلي :
» 1 / يتخذ كل طرف ما يلزم من تدابير لتجريم الأفعال التالية في إطار قانـونه الداخلي في حال ارتكابها عمدا :
أ ) –إنتاج أية مخذرات أو مؤثرات عقلية ، أو صنعها ، أو استخراجها أو تحضيرها أو عرضا أو عرضها للبيع ، أو توزيعها ، أو بيعها أو تسليمها بـأي وجه كـان أو السمسرة فيها ، أو إرسالها بطريقة العبور ، أو نقلها أو استيرادها و تصديرها .
ب) 1/ تحويل الأموال أو نقلها مـع العلم بأنـها مستمدة مـن أي جـريمة أو جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية (أ) من هذه الفقرة أو مـن فعل من أفعال الاشتراك في محل هذه الجريمة ، أو الجرائم بهدف إخفاء أو تمـويه المصدر غير المشـروع للأموال ، أو قصد مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب مثل هذه الجريمة أو الجرائم على الإفلات من العواقب القانونية لأفعاله(1) .
2- إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها ، أو مكانها عن طريق التصرف فيها، أو حركتها ، أو الحقوق المتعلقة بها ، أو ملكيتها مع العلم بأنها مستمدة من جريمة أو جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية (أ) من هذه الفقرة أو مستمدة من فعل مـن أفعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة أو الجرائم .
ج- مع مراعاة المبادئ الدستورية والمفاهيم الأساسية لنظامه القانوني:
1- اكتساب أو حيازة أو استخدام الأموال مع العلم وقت تسليمها بأنـها مستمدة مـن جريمة أو جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية (أ) من هـذه الفقرة أو مستمـدة
من فعل من أفعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة أو الجرائم .
2- حيازة معدات أو مواد مدرجة في الجدول الأول ، والجدول الثاني مع العلم بأنهـا ستستخدم في زراعة مخدرات أو مؤثرات عقلية ، أو لإنتاجها ، أو لصنعها بصـورة غير شرعية .
3- تحريض الغير ، أو حثهم علانية بأية وسيلة كانت على ارتكاب أية من الجرائـم المنصوص عليها في هذه المادة ، أو استعمال مخدرات ، أو مؤثرات عقلية بصـورة غير شرعية .
4- الاشتراك أو المشاركة في ارتكاب أية جرائم منصوص عليـها في هـذه المـادة أو التواطؤ على ذلك أو الشروع فيها ، أو المساعدة أو التحريض عليها ، أو تسهيلـها أو إبداء المشورة بصدد ارتكابها .
2/ يتخذ كل طرف مع مراعاة مبادئه الدستورية والمفاهيم الأساسية لنظامه القانوني ما يلزم من تدابير في إطار قانونه الداخلي ، لتجريم أو حيازة مخدرات أو مؤثرات عقلية للاستهلاك الشخصي في حال ارتكاب هذه الأفعال عمدا .
3/ يجوز الاستدلال من الظروف الواقعية الموضوعية على العلم والنيـة أو القصـد المطلوب ، ليكون ركنا لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرة 1 من هـذه المادة « .
وما تجدر الإشارة إليه في بادئ الأمر أن هذا النص يخاطب أطراف المعاهـدة وهم الدول المصادقين عليها حيث يلزمهم باتخاذ الإجراءات التشريعية المناسبة لتجريم الأفعال التي تعتبر تبييضا لأموال ناتجة عن المتاجرة غـير المشروعة في المخدرات والمؤثرات العقلية ، وبذلك فهذا النص لا يرقى ليكون نـصا تجريميا يمكن الاعتمـاد عليه في متابعة مرتكبي الأفعال الواردة في نفس المادة بقدر ما يعتبر التزاما دوليا على عاتق الدول الأطراف لاتخاذ تدابير تشريعية لقمع وتجريم تبييض عائدات الاتجار فـي المخدرات ، و هذا عملا بمبدأ شرعية الجرائم و العقوبـات التي تنص عليـه أغلب دساتير العالم و الذي مفاده ضرورة وجود نـص خاص يجـرم الفعل بصفة مجـردة و يضع له جزاءا محددا سلفا ، و هـو ما يخلق اصطدام بـين نص الاتفاقيـة الدولية و القانون الداخلي الدستوري منه و الجنائي و هو ما يعبر عنـه في القانون الدولـي بإشكالية تطبيق الاتفاقية الدوليـة على المستوى الداخلي للـدول في الجانب الجزائي إذ يشترط أن يكون نص المعاهدة دقيقا بحيث يجرم السلوك الإجرامي بشكل دقيق و محدد كما يحدد نفس النص الجزاء المترتب على ارتكاب هذا الفعل ،و بهذا الشكل يكون نص الاتفاقية مخاطبا للأفراد الذين يرتكبون الجرائم و ليس الدول الأطراف في المعاهدة(1) .
و غني عن البيان أنه لتكون هذه الاتفاقية سارية المفعول في مواجهة الأشخاص مرتكبي جرائم تبييض عائدات الاتجار بالمخدرات يجب أن تكون هذه الاتفاقية مصادقا عليها و مدرجة في المنظومة القانونية الداخلية للـدول حسب ما يشترطه دستور كـل منها .
و خلاصة القول أن هذه الاتفاقية اكتفت بسـرد الأفعال التي قـد تشكل الركـن المادي لجريمة تبييض عائدات الاتجـار بالمخدرات دون أن تحدد الجزاء و العقوبـة المقررة لهذا الفعل إضافة إلى كونهـا تخاطب الدول الأطراف في الاتفاقية و ترتـب عليهم التزام دولي يتمثل في وضع التدابير المناسبة – في قوانينها الداخلية – لتجريـم هذه الأفعال مما يجعل هذا النص قاصرا على أن يشكل لوحده الركن الشرعي لجريمة تبييض أموال المتاجرة بالمخدرات و يحتاج إلى تدخل المشرع الوطني للدول الأطراف لتجنب الاصطدام بمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات كـما سبق بيانه، أمـا القضـاء الجزائري و أمام الفراغ التشريعي و عدم التجريم المبين أعلاه فقد اتخذ موقف مميزا في تفسير و تطبيق اتفاقية فيينا لسنة 1988 السالفة الذكر حيث تم الاعتماد على نص المادة 03 من الاتفاقية لمصادر متحصلات المتاجرة بالمخدرات و هو الموقف الذي تبناه قضاة المحكمة العليـا في القرار رقـم 167921 المؤرخ في 22/فيفري2000(2) و السؤال المطروح هـل أن قضاة المحكمة العليا لـم يخالفوا مبـدأ شرعية الجرائـم و العقوبات الواردة بالمادة 01 من قانون العقوبات . و قد اعتمد قضاة المحكمة العليا في هذا القرار على كون اتفاقية فيينا لسنة 1988 قد تم المصادقة عليها من طـرف الجزائر وفقا للدستور و تم نشر مرسوم المصادقة و الانضمام و هو ما اعتبره قضاة القانون أمرا كافيا للحكم بمصادرة الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات باعتبارهـا مجرمة في فحوى الاتفاقية أعلاه ، خاصة و أنها أسمى من القانون حسب المادة 132 من الدستور ، غير أن الفقه وجه لهذا الرأي انتقادا حادا فيما يخص احترام مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات إذ لا يوجد بالاتفاقية نص يخاطب الأفراد مباشرة و يمنعهم مـن الاتجار بالمخدرات بمعنى آخر عـدم قيام الركن الشرعي لجريمة المتاجرة بالمخدرات في حين تكتفي الاتفاقية بجعل الدول الأطراف فيـها ملزمين باتخاذ التدابير اللازمـة لتجريم الفعل المنوه أعلاه.
و بغض النظر عن مدى صحة هذا الموقف فإنـه من الأكيد أن غياب نـص تجريمي لمثل هذه الأفعال الخطيرة في تلك الفترة جعـل مـن قضاة المحكمة العليـا يذهبون في اتجاه تفسير موسع لنصوص الاتفاقية في حيـن يفترض التفسير الضيـق للنصوص القانونية في الجانب الجزائي.
ثانيا : الركن الشرعي للجريمة حسب المشرع الجزائري .
لقد جـاء الأمر رقم 66/156 المؤرخ فـي 08 يونيو 1966 المتضمن قانـون العقوبات خاليا من أي نص يجرم عملية تبييض الأموال و ذلك لكون هـذه الجريمـة حديثة مقارنة بالأمر السالف الذكـر حين استفحلت في العقدين الأخيرين مـن القـرن العشرين و تماشيا مع مستجدات العصر فقد بادرت الجزائر للمصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالمخدرات و المؤثرات العقلية الموافق عليها بفيينا بتاريخ 20 ديسمبر لسنة 1988 و التي دخلت حيز التنفيذ في 11 نوفمبر 1990 ، و ذلك بموجب المرسوم رقم 95/41 المؤرخ في 28 يناير 1995 المتضمن المصادقـة بتحفظ على الاتفاقية السالفة الذكر .
و رغم المصادقة المبكرة على هذه الاتفاقية إلا أن المشرع الوطني الجزائري لم يأخذ أي موقف إيجابي بشأن المادة الثالثة من اتفاقية فيينا و التي تلزم الدول الأطراف باتخاذ تدابير تشريعية لتجريم أعمال تبييض عائدات الاتجار بالمخدرات كـما سبـق شرحه في المطلب السابق إلى غاية 10 نوفمبر 2004 تاريخ صدور القانون 04/15 المعدل و المتمم للأمر 66/156 المتضمن قانون العقوبات و الذي استحدث قسما خاصا لتجريم تبييض الأموال و ذلك في المواد من 389 مكرر إلى 389 مكرر 7 ، و أمـام هذا الموقف السلبي للمشرع الجزائري خلال هذه الفترة بقيت اتفاقية فيينا تمثل التزامـا دوليا على عاتق الجزائر و لعل عدم تدخل المشرع الجزائري في هـذا الجانب راجع للوضع الأمني و الاقتصادي و السياسي التي شهدته البلاد في العقد الأخير مـن هـذا القرن مما عرقل عملية الدخول في المنظومة القانونية الدولية وفـق التطورات الجديدة التي انطلقت في بداية التسعينات مع التوجه الاقتصادي الجديد و فتـح المجال لحـرية تداول رؤوس الأموال و ما يصاحبه من جرائم نوعية خاصة مثل تبييض الأمـوال و بذلك توقفت عملية وضع النصوص التجريمية لمثل هذه الجرائم في حين تفشت الجرائم نفسها من الناحية الواقعيـة حيث استغل البعض تدهور الوضـع الأمني و الاقتصادي ليقوم بتبييض مبالغ معتبرة ناتجة عن الاتجار بالمخدرات و الرشوة و هو ما أشار إليه تقرير أمني معد في الأشهر الأخيرة لسنـة 2000 و الذي أفـاد أن الأمـوال غـير المشروعة للفترة ما بين 1995 و1999 تم تبييضها باستثمارات في العقارات و إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة و إعادة شراء مؤسسات عمومية مفلسة و أسهم و قسيمات بأسماء مجهولة . كما كشف نفس التقرير أن جزءا كبيرا من هذه الأموال حـول إلى الخارج و قد قدر بـ 16.3 مليار دولار .
و هو ما جعل المشرع الجزائري يتدخل و يضع حد لهذا الفراغ بتجريمه الفعل ليس فقط فيما يخص تبييض الأموال العائدة من الاتجار بالمخدرات بـل و تجريم كل تبييض الأموال غـير مشروعة المصدر كمـا فعلت باقي التشريعات الأجنبية و ذلك بواسطة التعديل المذكور أعلاه و الذي جرم كل عملية تبييض للعائدات الإجرامـية سواء أكان الفعل تاما أو مجرد الشروع كما جـرم الاشتراك و المساعدة في الفعـل الأصلي و باختصار كل من يدخل ضمن دائرة تبييض المال غير المشروع مع علمه بذلك ، و قد استعمل المشرع الجزائري في المادة 389 مكرر من قانون العقوبـات مصطلح العائدات الإجرامية بدل مـن الأموال غـير المشروعة المستعملة في الفقـه و التشريع المقارن .
ولعل من مفارقات الأمور ما عايناه خلال تربصنا بمجلس قضاء وهران حيث تم معاينة قضية تتلخص وقائعها في أن قاضي تحقيق و خلال توليه التحقيق في جريمة مسيري أحد البنوك الجزائرية بتهمة مخالفات الصرف وتحـويل رؤوس الأموال(1) للخارج الفعـل المنصوص والمعاقب عليه بالقانون 96/22 المعدل بالأمـر 03/01 المتعلق بحركة رؤوس الأموال من و إلى الخارج ، حيث قام قاضي التحقيق بإرسـال إنابة قضائية دولية لمحكمة باريس لطلب بعض المعلومات حول متهمين في حالة فرار بفرنسا في نفس القضية وبعـد الإنجاز أجاب وكيل الجمهورية لدى محكمـة باريس ، الفرع الاقتصادي والمالي و أعطى كل المعلومات المطلوبة حول التهمة محل المتابعة ليضيف بصفة تلقائية أن الأشخاص محـل المتابـعة لهم أرصدة بنكية بفرنسا بمبالـغ ضخمة بالعملة الصعبة وأنهم عاجزون عـن تبرير مصدر هـذه الأموال وعلى هـذا الأساس وبالإضافة إلى تكييف مخالفات الصرف محل المتابعة في الجزائر أبدى وكيل الجمهورية الفرنسي استعداده لتقديم المسـاعدة في حـال المتابعة على أسـاس تبييض الأموال مقدما كل النصوص القانونية الفرنسية الممكنة وللإشـارة فـإن حجم رؤوس الأموال المحول بطريقة غير شرعية - تهريب رؤوس الأموال – محل الجريمة المتابع بها في الجزائر يعادل حجم الأرصدة الموجودة في البنوك الفرنسية المنوه عنها في رد وكيل الجمهورية الفرنسي وهنا تبرز أهمية التجريم وضرورة الإسراع في تجريم هذا الفعل إذ أنه من غير المعقول أن تكون المتابعة جائزة في بلد استفاد مـن الجريمة بأن تحصل على مبالغ ضخمة بالعملة الصعبة و لـم تكن نفس المتابعة الجزائية جائزة في البلد محل اختلاس وتبديد هذه الأموال كما تبرز هذه القضية مدى فعالية التعاون الدولي لمكافحة الظاهرة و عموما فقـد غطى القانون 04/15 المذكور سابقا هـذا الفـراغ و أصبحت هذه الأفعال تشكل جريمة حسب قانون العقوبات الجزائري في قسمه السادس مكرر من الفصل الثالث من الباب الثاني للكتاب الثالث و الذي تضمن ثمان مواد نصت على ما يلي :"
المادة 389 مكرر : يعتبر تبييضا للأموال (1):
أ- تحويل الممتلكات أو نقلها مـع علم الفـاعل بأنها عائدات إجرامية ، بغرض إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الممتلكات أو مسـاعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية التي تأتت منها هذه الممتلكات ، على الإفلات من الآثـار القانونية لفعلته .
ب- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها ، مع علم الفاعل أنها عائدات إجرامية
ج- اكتساب الممتلكات أو حيازتها أو استخدامها مـع علم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها ، أنها تشكل عائدات إجرامية .
د- المشاركة في ارتكاب أي من الجرائم المقررة وفقا لهذه المادة ، أو التواطؤ أو التآمر على ارتكابها و محاولة ارتكابها و المساعدة و التحريض على ذلك و تسهيله و إسداء المشورة بشأنه .
المادة 389 مكرر 1 : يعاقب كل من قام بتبييض الأموال بالحبس من خمس (5) سنوات إلى عشر (10) سنوات و بغرامة من 1.000.000 دج إلى 3.000.000 دج .
المادة 389 مكرر 2 : يعاقب كل من يرتكب جريمة تبييض الأموال على سبيل الاعتياد أو باستعمال التسهيلات التي يمنحها نشاط مهني أو في إطار جماعة إجرامية ، بالحبس من عشر (10) سنوات إلى خمس عشرة (15) سنة و بغرامة من 4.000.000 دج إلى 8.000.000 دج .
المادة 389 مكرر 3 : يعاقب على المحاولة في ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في هذا القسم بالعقوبات المقررة للجريمة التامة .
المادة 389 مكرر 4 : تحكم الجهة القضائية المختصة بمصادرة الأملاك موضـوع الجريمة المنصوص عليها في هذا القسم ، بما فيها العائدات و الفوائد الأخرى الناتجة عن ذلك ، في أي يد كانت ، إلا إذا أثبت مالكها أنه يحـوزها بمـوجب سند شرعي ، و أنه لم يكن يعلم بمصدرها غير المشروع .
يمكن الجهة القضائية المختصة الحكم بمصادرة الأموال محل الجريمة عندمـا يبقى مرتكبو التبييض مجهولين .
إذا اندمجت عائدات جناية أو جنحة مع الأموال المتحصل عليها بطريقة شرعية،
فإن مصادرة الأموال لا يمكن أن تكون إلا بمقدار هذه العائدات .
كما تنطق الجهة القضائية المختصة بمصادرة الوسائل و المعدات المستعملة في ارتكاب جريمة التبييض إذا تعـذر تقديم أو حجز الممتلكات محـل المصادرة تقضي الجهة القضائية المختصة بعقوبة مالية تساوي قيمة هذه الممتلكات .
يجب أن يتضمن الحكـم أو القرار القاضي بالمصادرة تعيين الممتلكات المعنية و تعريفها و كذا تحديد مكانها .
المادة 389 مكرر 5 : يطبق على الشخص الطبيعي المحكوم عليه بارتكابه الجرائـم المنصوص عليها في المادتين 389 مكرر 1 و 389 مكرر 2 عقوبة واحدة أو أكـثر من العقوبات التكميلية المنصوص عليها في المادة 9 من هذا القانون .
المادة 389 مكرر 6 : يجوز الحكم بالمنع من الإقامة على الإقليم الوطني بصفة نهائية أو لمـدة عشر (10) سنوات على الأكثر ، على كـل أجنبي مدان بإحدى الجرائـم المنصوص عليها في المادتين 389 مكرر 1 و 389 مكرر 2 .
المادة 389 مكرر 7 : يعاقب الشخص المعنوي الذي يرتكب الجريمة المنصوص عليها في المادتين 389 مكرر 1 و 389 مكرر 2 بالعقوبات الآتية :
- غرامة لا يمكن أن تقل عـن أربع (4) مرات الحـد الأقصى للغرامـة المنصوص عليها في المادتين 389 مكرر 1 و 389 مكرر 2 من هذا القانون .
- مصادرة الممتلكات و العائدات التي تم تبييضها .
- مصادرة الوسائل و المعدات التي استعملت في ارتكاب الجريمة .
إذا تعذر تقديم أو حجز الممتلكات محـل المصادرة ، تحكم الجـهة القضائيـة المختصة بعقوبة مالية تساوي قيمة هذه الممتلكات .
و يمكن الجهة القضائية أن تقضي بالإضافة على ذلك بإحدى العقوبتين الآتيتين:
أ- المنع من مزاولة نشاط مهني أو اجتماعي لمدة لا تتجاوز خمس (5) سنوات.
ب- حل الشخص المعنوي ."
المطلب الثاني : الركن المادي لجريمة تبييض الأموال
تتفق معظم تشريعات العالم حول عدم المعاقبة على مجـرد النية الإجرامية إذ يجب أن تتجسد هذه النية مهما كانت خطورتها ودرجة عقد العزم على ارتكابـها في سلوك مادي يمثل جسم الجريمة وهو ما يعبر عنه بالركن المادي للجريمة .
ونقصد بالسلوك نشاط الإنسان في محيطه الخارجي لذلك غالبا ما يفهم بالمعنى الإيجابي أين يتدخل الشخص بعمل مادي يكون معاقبا عليه بنص خاص وبذلك يكون العقاب على السلوكات الإيجابية للإنسان كمبدأ عام و لا يتم تجريم السلوك السلبي إلا في حالات استثنائية وهي ما تعرف بجرائم الامتناع(1) وعموما فـإن جريمة تبييض الأموال تتطلب سلوكا إيجابيا من الجاني ولا يمكن تصورها في حـالة امتناع إلا إذا تعلق الأمر بعدم التبليغ عن الجريمة . وسنتطرق فيما يلي إلى عناصر الركن المادي للجريمة في البداية ثم إلى صوره ثم نتطرق للركن المادي حسب اتفاقية فيينا لسـنة 1988 و المشرع الجزائري ثم نتناول في الأخير إشكالية إثبات الركن المادي للجريمة.
أولا : عناصر الركن المادي للجريمة
تبييض الأمـوال هي جريمة كـما يدل عليها اسمها تهدف إلى إضفـاء طابـع الشرعية على أموال مـن مصدر إجرامي وهي بذلك تقـوم على جريمة أولـية هـي الجريمة مصدر الأموال المراد تبييضها مـثل جريمة المتـاجرة بالمخدرات أو الرقيق البيض أو الأسلحة ...الخ كما سبق بيانه المبحث الأول المتعلق بمصدر الأموال محـل الجريمة لذلك يمـكن القول أن الركن المـادي لجريمة تبييض الأمـوال يتكون مـن عنصرين هما :
1- أموال مـن مصدر إجرامي (غير مشروعة ) : وهـو ما يعرف أيضـا بالركـن المفترض للجريمة أو الركن الخاص حيث تستلزم الجريمة وجود أمـوال غير نظيفـة أصلا، غالبا ما تكون من عائدات بعض الجرائم المنظمة أو جرائم المنفعة كما يسميها فقهاء علم الإجرام مثل : الرشوة والاختلاس والاتجار بالمخدرات أو الأسلحة أو الرقيق الأبيض أو الأموال العائدة مـن الجرائم الإرهابية التي شاعت في العقد الأخير لهـذا القرن وبغض النظر عن المصدر المباشر لهذه الأموال يكفي أن تكون متحصل عليها من جريمة مثل الأموال الناتجة عن جريمة تحويل رؤوس الأموال للخارج .
و قد اختلفت التشريعات المقارنة نسبيا في تحديد طبيعة الركن المفترض لجريمة تبييض الأموال و ذلك حسب نظرتها للأموال المبيضة و مراعـاة أنظمتها القانونيـة الداخلية خاصة في المجال الجبائي و المصرفي فنجد المشرع اللبناني كان يقتصر على تجريم تبييض الأموال الناتجة عن الاتجار في المخدرات دون غيرها من الأموال غير المشروعة و لعل سبب ذلك هو كون أمـوال المخدرات هـي التي وضعت الإطـار القانوني الدولي لتجريم عملية التبييض من خلال اتفاقية فيينا إضافة إلى كـون هـذه الجريمة توفر الوعاء الأكبر للجرائم المبيضة ثم تدارك الوضع في سنة 2001 ليضيف تجريم الأموال العائدة مـن نشاط جمعيات الأشـرار المعتبرة دوليـا جرائم منظمة ، و جرائم الإرهاب و الاتجار غـير المشروع بالأسلحة ، و جرائم السرقة ، اختلاس الأموال العمومية أو الخاصة أو الإستيلاء عليـها بوسائل احتيالية ، المعاقب عليـها بعقوبة جنائية ، و جرائم تزوير العملة ، أما المشرع الفرنسي فقد نص في المادة 324 مكرر من قانون العقوبات أن الأموال التي يمكن أن تكون محل جريمـة التبييض هي تلك ناتجة عن جناية أو جنحة أو مخالفة و بهذا يكون المشرع الفرنسي قد توسـع في تحديد الركن المادي للجريمة باعتبار أن كل العائدات الجرائم أيا كانت طبيعتـها أو تسميتها في القانون الجنائي الخاص يمكن أن تكون محلا لجريمة تبييض الأموال غير أن ما يلاحظ عن نص المادة المذكور أعلاه أنه يستعمل لفظ جناية ، جنحة ، مخالفة لذلك يمكن الاستخلاص أنـه يشترط لقيام المتابعة الجزائية و الإدانة بجريمة تبييض الأموال وجود إدانة سابقة لجناية أو جنحة أو مخالفة و هـذا بسبب قرينة البـراءة المتوافرة بصفة أصلية في ذمـة الأشخاص و التي لا يجوز دحرها إلا بحكم قضائي نهائي و هـذه الفكرة ليست جديدة في النصوص الجزائية إذ يمكن المقارنة في هـذا المجال بجريمة عدم تسديد النفقة التي لا تقوم إلا بوجود حكم سابق يلزم تسديدها كون الذمة المالية للأشخاص خالية من أي التزام كأصل عام ، و من خلال كل هذا نستنتج أن المشرع الفرنسي وإن كان قد وسع في مفهوم الركن المادي لجريمة تبييض الأموال إلا أنه حصرها في تبييض الأموال الناتجة عن جريمة سبقت المتابعة الإدانة بها .
أما المشرع الجزائري فعند تدخله لتجريم هذا الفعل صـاغ نص عام يجرم كل تبييض للعائدات الإجرامية باختلاف طبيعتها و تسميتها و ذلك لوضع حد أمـام تنامي هذه الظاهرة و لا يقصد في هذا المجال بالنص العام عدم تحديد الأفعال المادية التـي تكون الركن المادي لجريمة تبييض الأموال بشكل دقيق و إنما التوسع في تحديد محل جريمة تبييض الأموال بشكل يدخل كل دخل غير مشروع و ذلك لتوافـر علة التجريم و يتجلى ذلك في اكتفاء المشـرع بلفظ العائدات الإجرامية عند تحديده لمحل جريمـة التبييض و إن كان هذا اللفظ يثير بعض من اللبس فهـل معنى العائدات الإجرامية تلك الأموال التي سبقت الإدانة بها ؟ أم أنها كل دخل غير مشروع ؟ ذلك أنـه في الحالـة الأولى تصبح الجريمة مصدر الأموال ركن مفترض و تشكل مسألة أولية في الدعوى العمومية التي ترمي إلى المتابعة على جريمة تبييض الأموال إذ لا يمكن الفصل فيـها إلا بعد الفصل النهائي في الجريمة مصدر الأموال للتأكد من توافر الركـن المفترض لجريمة تبييض الأموال و هي الأموال ذات المصدر الإجرامي ، و مـا يعـاب على المشرع الجزائري في نصه العربي استعمال لفظ الممتلكات عند تحديد محل الجريمة و ذلك لما يمكن أن يثيره من لبس مع مفهوم حـق الملكية الوارد في القانـون المدني فيصعب بذلك تطبيق النص على الحقوق العينية و الشخصية الأخرى التي تكون لـها قيمة مالية محل جريمة التبييض ، و كان على المشرع استعمال لفظ الأموال المتداول في الفقه و التشريع المقارن لما له من شمولية و اتساع يخدم مكافحة الجريمة ، لذلك نجد المشرع الجزائري في المادة 389 مكرر 4 يخلط بين المصطلحين في الفقرتين 1 و4 عند تحديد عقوبة المصادرة غير أنه و بالرجوع إلى النص الفرنسي لنفس المادة نجده يستعمل لفظ Les Biens و الذي يؤدي معنى الأموال مما يدعو إلى الاعتقاد أن الاختلاف وقع خلال عملية الترجمة .
2- الشروع أو إتمام عملية التبييض : ويقصد بها القيام بالسلوك المادي الذي بمقتضاه تكتسي العائدات الإجرامية المنوه عنـها أعلاه صفة أو مصـدر وهمي مشروع يبيح لحائزها التصرف فيها بكل حرية لاحقا . وقد يتخذ هذا السلوك عدة صور تتعقد مـع تعقد الأنظمة المصرفية والمحاسباتية التي تسـاعد في التمويه وخلق عمليات وهمـية لتبرير أرباح كبيرة في عالم الأعمال والمبادلات التجارية إضافة إلى كون آليات العمل المصرفي والتجاري محكومة بعدة اعتبارات لعل أهمها السرعة في الإنجاز والثقة عند التعامل و نشير إلى أن التعديل الجديد يعاقب على الفعل التام كما يعاقب على الشروع و المشاركة و المساعدة في العمل الأصلي أو حتى إسداء المشورة للفاعلين كما يعاقب على المساعدة اللاحقة للجريمة و ذلك خروجا عن القواعد المقررة في القسم العـام ، و هو نوع من التشدد للمشرع الجزائري في هذه الجريمة بالذات .
ثانيا: صور الركن المادي للجريمة
لقد حددت المادة 389 مكرر و ما يليها صور السلوك الإجرامي المكون للركن المادي للجريمة و هي لا تخرج عموما عن أربع حالات و عن كانت تتسم بالعمومـية و هي:
1) حيازة الأموال المتحصلة من عائدات الإجرام أو اكتسابها أو استخدامها(1) :
وهذه الحالة تنطبق بالأخص على البنوك والمؤسسات المالية أيـن توضع الودائع والمبالـغ المالية غير المشروعة وذلك متى علم المصرف عن طريق مسيره بمصدر الأمـوال غير المشروع وسواء كان الإيداع في شكل رصيد أي فتح حساب أو في شكل أمانة أي تأجير خزانة وبهذا الخصوص عمدت أنظمة الصرف في التشريع المقارن الذي جـرم عملية التبييض إلى وضع ميكانزمات تقنية لتجنب هـذا الافتراض وذلك عـن طريق إبراء ذمة البنك من خلال تبليغ السلطات المختصة عن كل رصيد بنكي يتجاوز مبلـغ معين حسب متوسط قدرة الادخار للمواطن العادي كما يبلغ البنك عن كل مبلغ مـالي يدخل كسيولة لأحد الأرصدة بدون أن يكون مبـررا بشكل كاف وهذا لافتراض أن يكون ذلك ضمن عمليات صرف وهميـة تهدف في النهاية إلى تبييض الأموال .
و إذا كان الواقع يثبت نجاعة هذه الطريقة في وضع حاجز قوي لعمليات صرف وهمية تهدف إلى تبييض أموال عن طريق الإيداع في أرصدة مختلفة فإن مـا يمكـن إثارته من الناحية القانونية هو مدى شرعية هذه الطريقة ومطابقتها لمجمل الدساتير في التشريعات المقارنة بخصوص قرينة البراءة إذ تلزم صاحب الحساب دوما بتقديم دليل على مشروعية أمواله في حين يفترض أن يكون ذمـة الشخص خالية مـن أي عبئ و على من يدعي خلاف ذلك إقامة الدليل وفقا للطرق القانونية للإثبات (1).
2/ تحويل الأموال : يتمثل التحويل في النقل المادي لعائدات إحدى الجرائم المنوه عنها سابقا و ذلك بقصد إخفاء مصدرها غـير المشروع و إضفاء صفة المشروعية عنـها و ذلك بإبعادها عن مكان ارتكاب الجريمة مصدر الأموال أو لمساعدة مرتكبي هـذه الجرائم من الإفلات مـن المتابعة و العقاب سواء أكـان شخص طبيعي أو معنـوي و تكتسي هذه الصورة أهمية بالغة في الجرائم المنظمة العابرة للحدود حيث يتم فيـها انتقال رؤوس الأموال ماديا من البلد محـل ارتكاب الجرائم مصـدر الأمـوال غـير المشروعة إلى بلد ثان تتم فيه عملية التبييض من خلال إدخال هـذه المبالغ في الدورة الاقتصادية للبلد الجديد سواء في مشاريع حقيقية أو صورية من أجل إضفاء الصبـغة الشرعية لهذه الأموال لذلك يجب أخذ هذه الصورة على محمل الجد عند التفكير فـي وضع سياسة دولية لمكافحة تدويل جرائم تبيض الأموال .
و إذا كانت معظم التشريعات المقارنة تضع ضوابط للتحويل المـادي لرؤوس الأموال و انتقالها من و إلى الخارج و هي تتفق حول ضرورة المرور عبر المؤسسات المالية و البنكية لما توفره هذه الأخيرة من رقابة و إمكانية استفاء الحقوق المتعلقة بها و المستحقة للدولة و هو ما أعتمده المشرع الجزائري(1) مـن خلال الأمـر 96 /22 المعدل و المتمم بالأمر 03/01 المتعلق بقمـع مخالفات التشريع و التنظيم الخاصـين بالصرف و حركة الأموال من و إلى الخارج . و بذلك تزداد خطورة هذه الصورة في الدول التي لا تملك أجهزة مصرفية و بنكية حديثة و متطورة و تكون في نفس الوقت ملزمـة بمسايرة التطور الحاصل على المستوى الدولي و هـو مـا يعرض أمـوال المدخرين على مستوى البنوك الوطنية المحلية إلى التحويل و التهريب إلى بنوك خارج الوطن بطرق غير مشروعة ليتم إعادة استثمارها في الخارج بقصد التبييض(2) .
3/ إخفاء أو تمويه مصدر الأموال العائدة من الجريمة : يعتبر التصريح الكاذب أحـد أهم أوجه إخفاء أو تمويه مصدر الأموال غير المشروعة غير أنـه مـن المستحسن استعمال مصطلح التمويه بدل التصريح الكاذب لإضفاء نوع من التوسع و الشموليـة للإحاطة بكل المناورات الإحتيالية التي تعتمد على الوسائل المتطـورة و تستفيد مـن التقنيات البالغة التعقيد التي تساعد بشكل أو بآخر في عملية تبييض الأموال و من أبرز أوجه هذه الصورة المشاريع الوهمية و الصفقات الخيالية التي يقوم بها الأشخاص من أجل تبرير مبالغ الفوائد و الأرباح الوهمية التي تكون أصلا جزء من رأس مال غيـر مشروع بل و تتعدى الأمر أحيانا إلى إنشاء أشخاص معنوية وهمية مـن حيث النشاط خاصة في مجال المبادلات التجارية الدولية ، أما الإخفاء فغالبا ما يكون عبر شـراء أسهم و سندات غير اسمية وفقا للتقنيات المصرفيـة الحديثة و هـذا ما يجعـل مـن الصعوبة مما كان أن نميز بين رأس المال المشروع و غـير المشروع لذلك أطلـق بعض الفقه على هذه العمليات اسم مرحلة التعتيم في عملية تبييض الأمـوال حيث لا يمكن بعدها التمييز بين ما هو مال مشروع و ما ليس كذلك .
4/ المساهمة فـي الجريمة أو تقديم المشورة أو التحريض عنـها:يمكن تقسيم هـذه الصورة إلى حالتين :
أ/ المساعدة في أنشطة تبييض الأموال : تعتبر هذه الجريمة قصدية تتطلب توافر العلم بالمصدر غير المشروع للأموال كما تتطلب اتجاه الإرادة إلى تحقيق النتيجة المتوخاة من الجريمة وهي إضفاء الصفة المشروعة على المال غير المشروع .
ونظرا لطبيعة هذه الجريمة وخصوصيتها التي يتطلب أحيانا تدخل خبراء في المحاسبة المالية والتقنيات المصرفية وأعمال الاستثمار فقد يتعقد الركن المادي للجريمة ويتعـدد الفاعلين فيـها لذلك يعتبر تجريم المساعد عامـلا أساسيا لقمع هـذه الجريمة ويستوي الأمر إن كانت المساعدة فـي أنشطة تبييض الأمـوال ذاتها أو كانت فـي مساعـدة الفاعلين الأصليين في الإفلات مـن الآثار القانونية المحتملة ، كمـا يتابع مـن يكتفي بإعطاء النصائح و إسداء المشورة للفاعلين ، و ذلك لمـا تتطلبه هـذه الجريمة مـن مهارات و خبرات فنية عالية ، خصوصا في عالم المال و الأعمال ، و ينطبـق هـذا الحكم على المحرض أي كانت الوسيلة التي استعملها و هذا خروجا عن القاعدة العامة الواردة بالمادة 41 من قانون العقوبات ، و هـذا لمـا هذه الجريمة مـن خصوصيـة و ضرورة التشدد في العقاب .
ب-المؤامرة و التواطؤ : يتخذ الركن المادي في هذه الحالة صورة سلوك مادي سلبي غالبا ما يتمثل في عـدم إبلاغ السلطات المعنية عـن ارتكاب الجريمة وتعتبر هـذه الصورة نوعا من مسايرة تطور أشكال الجريمة والأشخاص الفاعلين فيها فغالبا تتحقق في المؤسسات المصرفية التي تكشف بحكم طبيعة عملها عن عمليات التحويل والإخفاء أو التمويه التي تهدف إلى تبييض الأموال وعن الأشخاص المتورطين فيها كـما قـد تتحقق هذه الصورة في المؤسسات والشركات وبصفة عامة في الأشخاص المعنويـة التي قد ترتكب فيها هذه الجريمة ويكون الموظف أو العامـل ملزم بالتبليغ عـن مـا اكتشفه من معاملات غير شرعية باسم الشخص المعنوي ، ويساوى في هذه الصورة بين عدم الإبلاغ عن الجريمة والإهمال في كشفها لسد الباب أمـام حجة حسن النيـة وعدم العلم وذلك لدفع الأشخاص المعنوية والطبيعية لبذل أقصى جهد وتوخي الحيطة والحذر اللازمين للتصدي لهذه الجريمة .
ثالثا : الركن المادي للجريمة حسب اتفاقية فيينا لسنة 1988
من خلال تفحص ظاهر نص الاتفاقية يتبين أن الركن المادي لجريمة تبييض الأموال الناتجة عن الاتجار في المخدرات يمكن أن يكون في صورتين و ذلك علـى النحو التالي :
الصورة الأولى : تعتيم الأموال غير المشروعة : و تنقسم هذه الصورة بدورها إلى وجهين رئيسيين هما :
1- إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال و ذلك بالتصريح الكاذب لمكانـها أو مصـدرها أو التصرف فيها أو التهرب من الحقوق المتعلقة بها مثل الضرائب و الرسوم الجبائية و الجمركية(1) و يتساوى الأمر في كل هذه الحالات بين الفعل التـام أو الشروع كمـا يتساوى الفاعل الرئيسي و الشريك أو مساعدة المتورطين على الإفلات مـن العقـاب و يتطلب الإخفاء العلم بمصدر الأموال المجرم طبقا للحالات الواردة في نفس المادة من الاتفاقية
2/ تحويل الأموال أو نقلها مع العلم بأنها مستمدة من أحد الأعمال الواردة بالمادة الثانية للاتفاقية . و يستوي في هذه الحالة أيضا الفاعل الرئيسي مع الشريك كما يساوى بيـن الفعل التام و الشروع طالما كان الهدف في كل الحالات هو إسقاط صفة اللاشرعية عن الأموال الاتجار بالمخدرات أو مساعدة المتورطين في هذه الأفعـال من الإفلات مـن المتابعات القانونية و العقاب .
الصور الثانية : استغلال الأموال غير المشروعة : غالبا ما تكون هذه الصورة تكملة للصورة الأولى إذ توظف الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات في مشاريـع مختلفة و يستشف هذا من فكرة اكتساب الأموال الواردة في نص الاتفاقية و ذلك عن طريـق الحيازة و الاستثمار بحـيث يصعب لاحقا التمييز بين ما هو مـن مصدر الاتجـار بالمخدرات و المؤثرات العقلية و بين ما هو مصدر اقتصادي مشروع .
و ما يلاحظ حول نص الاتفاقية أنها تحاول الإلمام بكـل جوانب الظاهـرة و وضع حد لها عن طريق قمع كل من يمد يد العون و المساعدة في تنفيذ ركنها المادي مما يجعل هذا الأخير يتسم بالتوسع و هذا الأمر طبيعي للتصدي للظاهرة و ما يرتبط بها من تعقيدات تقنية و مناورات احتيالية ، و الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية تجرم كل ما يدور حول التعامل بالمخدرات و المؤثرات العقلية أو التعامل في الأموال الناتجـة عن الاتجار فيها أو صناعتها أو إنتاجها أو حيازتها و ذلك بشرط واحـد وهـو العلم بمصدر هذه الأموال و ذلك يمكن القول قيام هذه الجريمة تقتضي الإدراك و القصـد الجنائي و هو ما سنحاول التطرق إليـه في المطلب الثالث المتضمن الركن المعنـوي للجريمة .
رابعا : إثبات الركن المادي للجريمة
قبل التطرق لإثبات الركن المادي لجريمة تبييض الأموال نتطرق و لـو بشكل موجز لأهم المبادئ التي تحكم الإثبات في المسائل الجزائية لتسهيل عملية الإسقاط على هذه الجريمة كحالة خاصة .
أقر المشرع الجزائري في المادة 212 مبدأ حرية الإثبات(1) كقاعدة عامة ما لـم يـرد على ذلك حكم خاص بنص صريح كمـا أقرت نفس المادة مبـدأ الاقتناع الشخصي للقاضي و يرد على ذلك قيد مناقشة الدليل بالجلسة إمـا عن عبئ الإثبات فهـو مبدئيا على عاتق النيابة بصفتها سلطة اتهام و يبقى فيه المتهم ذو دور سلبي و هذا مستمد من الأصل العام و هو قرينة البراءة التي يتمتع بها كل شخص و المقرر في أغلب دساتير العالم و نعتبر قرينة البراءة نتيجة طبيعية للأصل العام و هـو الإبـاحة في الأشياء و بذلك يعفي أي شخص من إقامة الدليل على براءته .
و السؤال المطروح حاليا ما مدى انطباق هذه القواعد على جريمة تبييض الأموال ؟
جريمة تبيض الأموال بطبيعتها تتطلب التعقيد و المناورات الإحتيالية المركبة و التي يمكن من خلالها تمويه الغير و خاصة السلطات و إظهار أمـوال ذات مصـدر إجرامي على أنها أموال مشروعة و من مشاريع اقتصادية مشروعة .و هو ما يجعل أمر إثباتها عبئا مرهقا على عاتق سلطة الاتهام في حالة إعمال القواعد العامة للإثبات السالف بيانها ذلك أن المعاملات الوهمية التـي تعتمد في عملية التبييض، إضـافة إلى كون مثل هذه الجرائم ترتكب مـن طرف أشخاص طبيعية و معنـوية متخصصين في عالم الأعمال و المحاسبات المالية و خاصة في المعاملات التجارية الدولية ممـا يجعل النيابة شبه مشلولة في بعض الأحيان مهما تكن تحت يدها من الوسائل و إمكانيات لذلك تقتضي المصلحة العامة تدعيم المبادئ العامة في الإثبات الجزائي ببعض الإستثناءات طبقا لما هو مقرر في المادة 212 "... ما عدى الأحوال التي ينص فيها القانون علـى غير ذلك ..." و هذا في كل الأحوال ليس مساسا بحقوق الدفاع أو حرية الأفراد لكـن تماشيا مع طبيعة الركن المادي لهذه الجريمة ، و الحقيقة أن المشرع أمام خيارين :
- إما أن يدقق في تحديد الركن المادي للجريمة و يضع استثناءات على قاعدة قرينة البراءة لتخفيف العبء على النيابة العامة في الإثبات .
- أو أن يضع تعريفا عاما و فضفاضا للركن المادي للجريمة بحيث يسهل معه إثبات قيامه حتى بدون ترتيب استثناء على مبادئ و قواعد الإثبات المعروفة .
و إذا كان لكل حل إيجابياته و عيوبه فإن بعض التشريعات المقارنـة سارعت للحل الأول باعتباره يتماشى و المبادئ الدستورية لحقوق الأشخاص و التي من أهمها مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات الذي يقتضي تحديد فعلا تحديدا دقيقا ثم تجريمـه و العقاب عليه كما ينطبق هذا الحل و قرينة البراءة المقررة في ذمة الأشخاص ، غير أن هذا الحل يتطلب وضع استثناءات معينة لتخفيف عبء الإثبات المفروض على عاتق السلطة الاتهام و لعل أهمه ما اتجهت إليه التشريعات التي طبقت هذا الحل الذي مفاده وضع قرينة قانونية بسيطة على عدم مشروعية الأموال المودعة نقدا في الأرصـدة البنكية إذا زادت عـن حـد معينا و على صاحب الحساب إثبات مشروعية أمـواله ، و على هذا يكون البنك ملزم بالتبليغ عن كل عملية إيداع لحساب زبائنه إلى تجاوز المبلغ المودع حدا معينا حسب التنظيم و يخول للسلطات التحري عـن مصدر هـذه الأموال و على صاحب الحساب تقديم شروحات حول مصدر الأموال العائدة لحسابـه هذا الوضع الذي يحتم على الشخص تبرير مداخيله في أي وقت طلب منه ذلك قد يعد خرقا لقاعدة البراءة طالما لا توجد دعوى ضده .
و إذا كانت مثل هذه الحلول صالحة في المجتمعات المتطورة و الدول التي لها أنظمة جبائية قوية بحيث يمكن تتبع مداخيل الأشخاص كما يكون لهؤلاء دوما مداخيل معلومة و منتظمة فإنه في الدول الفتية كما هو الحال في الجزائر و إذا كانت مصالح الجباية تؤكد أن جزءا كبيرا من المبادلات التجارية يكون خـارج التصريح الجبائي كمـا أن ظاهرة الاتكال بين أفراد الأسـرة الواحدة و المعاملات العرفية المبنية على أسلـوب الأسواق الشعبية حيث ينعدم أدنى دليل على المعاملة التي تدور بين طرفين يجعل من هذا الحل الذي يلزم الأفراد بتبرير مداخيلهم أمرا شاقا أيضـا كمـا يوسع في مدلـول الركن المادي لجريمة تبييض الأموال ، ولذلك يقتضي مـن جانب آخر توخي العقلانية في وضع القرائن و الإستثناءات على القواعد العامة للإثبات تحت شعار تخفيف العبء على سلطة الاتهام لإقامة الدليل على بعض المجـرمين الذين يستطيعون الإفلات مـن المتابعات القضائية اعتمادا على وسائل جـد متطورة تمنع من إقامة دليل دامغ علـى إدانتهم .
المطلب الثالث : الركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال .
كما هو معلوم لا يكفي لقيام جريمة ما ارتكاب عمل مادي ينص و يعاقب عليـه قانون جزائي بل لابد أن يصدر هذا العمل المادي عن إرادة الجاني ، هذه العلاقة تشكل ما يسمى بالركن المعنوي .
و للركن المعنوي أهمية كبيرة بالنسبة لجريمة تبييض الأموال ، و تتمثل فـي اشتراط العلم المصدر غيـر المشروع للعائدات و المتحصلات التي يتم تحويلـها أو إخفاءها أو تمويلها أو حيازتها .
و بهذا المنظور فإن جريمة تبييض الأموال هي جريمة عمدية تقوم على إرادة السلوك و العلم بكافة العناصر المكونة له ، و لا يتوفر بنيانها القانـوني دون انصراف إرادة الشخص إلى ارتكابها(1) ، و هذا وفقا لما هو مقرر في القواعد العامة بالنسبة للركـن المعنوي .
و بالرغم من أن جريمة تبييض الأموال من الجرائم المستمرة التي يترتب عليها تحقق الركن المعنوي و قيام الجريمة قانونا متى علم الشخص المصدر غير المشروع للأموال حتى و لو كان حسن النية لحظة اكتسابها أو استخدامها ، إلا أن اتفاقية فيينـا لسنة 1988 أخذت بغير ذلك ، حيث تعتبرها ذات طبيعة وقتية ، فالمادة (03) منـها فقرة (ج)1 تتطلب توافر العلم فقط وقت التسليم .
بناءا على ما تقدم نقسم هذا المطلب إلى النقاط التالية :
أولا: تحديد الركن المعنوي وفقا لاتفاقية فيينا (1988) و التشريع الفرنسي.
ثانيا : وفقا للتشريع الجزائري .
ثالثا : إشكالية المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي .
أولا : تحديد الركن المعنوي وفقا لاتفاقية فيينا (1988) و التشريع الفرنسي
1/ الركن المعنوي وفقا لاتفاقية فيينا لسنة 1988 : بالرجوع إلى اتفاقية فينا نجد أنها قد أشارت إلى الركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال في مواضع عدة فنجدها فـي المادة الثالثة وبالأخص في البند الأول منها تنص على تجريم عدة أفعال من ضمنها تبييض الأموال واستخدام عائدات الجرائم - في حالة ارتكابها عمدا – وهو ما يعني استبعاد تصور وقوع الجريمة بطريق الخطأ أو الإهمال .
كما تبرز الاتفاقية عنصر العلم كمضمون لهذا الركن في الصور الثلاثة التي يتجسد فيها الركن المادي للجريمة .
* إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال مع العلم بأنها مستمدة من إحدى الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقية .
* تحويل أو نقل الأموال مع العلم أنها مستمدة من إحدى الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقية وبهدف إخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع أو قصد مساعـدة أي شخص متورط على الإفلات من العواقب القانونية.
* اكتساب أو استخدام الأموال مع العلم وقت تسلمها بأنها مستمدة من إحدى الجرائـم المنصوص عليها في الاتفاقية .
أما من حيث طرق الاستدلال على الركـن المعنوي تقـرر الاتفاقية في المـادة الثالثة منها ، أنه يجوز الاستدلال من الظروف الواقعية الموضوعية على العلم أو النية أو القصد المطلوب ليكون ركنا للجريمة المنصوص عليها في الاتفاقية(1) .
2/ الركن المعنوي وفقا للتشريع الفرنسي : لـم يتعرض المشرع الفرنسي فـي نص المادة 324/1 من قانون العقوبات الفرنسي المضافة بقانـون 13 ماي 1996 لطبيعـة الركن المعنوي على عكس ما كان عليـه في النص القديم للمادة 222/38 مـن نفس القانون الذي كان يستوجب أن تقع جريمة تبييض الأموال المتحصلة مـن جريمـة المخدرات عمدا ، ويمكن فهم إغفال المشرع الفرنسي لوجـوب وقوع جريمـة تبييض الأموال عمدا من خلال ما استحدثه في نص المادة 121/3 من نفس القانون التي تنص على أنه لا جناية ولا جنحة دون أن تتوفر نية ارتكابها ، وبالتالي فقد عمم المشرع من اشتراط ركن العمد في الجرائم ما لم يقرر نص خاص على العقاب على الخطـأ فـي صوره المختلفة .
وبالتالي فلم تعد هناك ضرورة لاقتضاء توافـر العمـد أو النية الإجرامية لدى فاعـل الجريمة ، ومع ذلك فقد أوجب المشرع الفرنسي علم الفاعل صراحـة بطبيعة المصدر غير المشروع للأموال ، أو بالظروف المحيطة به ، فإذا كانت الجريمة الأولية التي تم تحصيل الأموال غير النظيفة منها يعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية تزيد في مقدارهـا عن العقوبة المقدرة لجريمة تبييض الأموال في صورتها البسيطة ( المـادة 324/1 قانون العقوبات الفرنسي ) أو المشـددة ( المـادة 324/2 قانـون العقوبات الفرنسي ) فلا تسري هذه العقوبة إلا إذا توافر علم الفاعل بهذه الجريمة ، بالإضافة إلى ذلك إذا اقترنت الجريمة الأولية التي تحصلت منها الأموال غير النظيفة بظروف مشددة ، فلا تسري العقوبات المقررة لهذه الظروف إلا إذا كان الفاعل عالما بها .
وكخلاصة لما سبق ، فإن جهـل الفاعل في جريمة تبييض الأمـوال بطبيعـة مصدرها غير المشروع ( متى تمثل في جريمة ذات عقوبـة أشد مـن عقوبة تبييض الأموال ) يحول دون تطبيق العقوبة المقررة لهذه الجريمة ولا تطبق إلا عقوبة جريمة تبييض الأموال في صورتها ، البسيطة والمشددة ،أما إذا كان الفاعل يعلم بطبيعة هذا المصدر جاز تطبيق العقوبة المقررة لهذه الجريمة الأولية التي تحصلت عنها الأموال غير النظيفة ، وهذا ما يعني إمكان خضوعه لعقوبة أشد من تلك المقـررة لجريمـة تبييض الأموال .
ثانيا: الركن المعنوي وفقا للتشريع الجزائري
بالرجوع إلى المواد 389 مكرر 7 من قانون العقوبات نجد أن المشـرع الجزائري قد سلك(1) نفس النهج الذي سلكته اتفاقية فينا ، والقانون الفرنسي المشار إليه وهـو المعاقبة على نشاط تبييض الأمـوال أو الاشتـراك فيه بوصفه جريمة عمـدية ومنه لا يمكن تصور قيام هذه الجريمة قانونا إلا بإرادة النشاط المكون لركنها المـادي من ناحية والعلم بالعناصر الواقعية التي تضفي على الجريمـة خصوصيتها القانونية ومن جهة أخرى يتبلور ذلك في ضرورة العلم بالمصدر الإجرامي للأموال محل الجريمة.
1- إرادة النشاط المكون للركن المعنوي
أ/ الإرادة كجوهر للقصد الجنائي :إن الإرادة هي تحقيق سلوك معين فإذا كـان هـذا السلوك إجرامي كان القصد جنائيا وعليه فلا يتصور قيـام جريمة متى انتقى ركنـها المعنوي ، فهذا الأخير يتطلب توافر الإرادة لدى الجاني لارتكاب الفعل المعاقب عليـه وتحقيق النتيجة (2).
ويمكن القول أن توافر جريمة تبييض الأموال قانونا يتطلب إرادة إحدى صـور النشاط المكون لركنها المادي ، وانصراف نية الفاعـل إلى تحقيق النتيجة المحظـورة قانونا ، وهناك صعوبات جمـة تواجهنا لاستخلاص النية الإجرامـية والتحقق مـن توافرها ويتجلى ذلك في حالة قبول إيداع أو تحويل الأموال غير النظيفة لا سيمـا وأن هذه العمليات المصرفية أصبحت تتم وفقا لآليات وأساليب متطورة .
ب/ انتفاء إرادة النشاط المكون لتبييض الأموال : كل ما يعدم أو يعيب إرادة النشـاط يمكن أن يهدم الركن المعنوي وبالتالي انتفاء المسؤولية الجنائية للفاعل . غيـر أنه لا يمكن الاحتجاج بالإكراه الأدبي أو تنفيذ أوامر الرؤساء لنفي إرادة النشاط إلا إذا انتفى حسن النية مـن قبل بإيداع أو تحويل الأمـوال غـير النظيفة أو بتوافـر العلم بعدم مشروعية ما يقوم به .
2- العلم بالمصدر الإجرامي للأموال
لا يثور الشك في أن جريمة تبييض الأموال تعـد صنف متميز من الجرائـم عموما ومن الجرائم الاقتصادية على وجـه الخصوص ، وعنصر العلم يتطلب العلم بالقانون من ناحية والعلم بالواقع من ناحية أخرى(1) .
أ-مدى وجوب توافر العلم بالعناصر القانونيـة : القاعدة العامـة أنـه يفترض علـم الأشخاص بالصفة الإجرامية للسلوك ، ولقد أقر المشرع الفرنسي في المادة 03 مـن قانون 12 جويلية 1990 خضوع سائر الأشخاص الآخرين ممن لم يرد ذكرهـم في المادة الأولى بضرورة إخطار عن كل العمليات التي يتوافر لديهم العلم بكونها تنصب على أموال ناتجة عن النشاط الاتجار في المخدرات أو نشاط منظمات إجرامية .
الأصل أن المخاطبون بأحكام القانون هو افتراض علمهم به ، لكن هذا الأصل لا يحول دون إمكانية الاعتداد بما يقعون فيه من جهل وغلط مبررين .
ب- وجوب العلم بالواقع :
العلم بالواقع عنصر ضروري لا بد من توافره لقيام الركن المعنوي للجريمة إذ يعتبـر العنصر المميز لركن القصد إذا انصرف هذا العلم إلى سائر عناصر هذه الواقعة كمـا يحددها النص الجنائي صراحة أو ضمنيا وبالتالي ينتفي القصد إذا وقـع الشخص فـي جهل أو غلط في إحدى العناصر الواقعية للجريمة(1) .
ويمكن القول في جريمة تبييض الأموال بضرورة توافر العلم بسائر العناصـر الواقعية الجوهرية التي تشكل نموذج الجريمة ويثير عنصر العلم بالوقائع في الركـن المعنوي لجريمة تبييض الأموال ثلاثة مسائل على النحو التالي :
1- صعوبة تحديد نطاق العلم بالمصدر الإجرامي للأموال:
يتحقق القصد إذا كان الفاعل يعلم بأن الأموال التي قـام بإخفاء مصدرها غيـر المشروع أو شارك في ذلك ، ولا يقوم القصد متى كان الفاعل جاهلا بمصدرها غيـر المشروع ، وبالتالي فإن جريمة تبييض الأموال هـي جريمـة تبعية يقتضي اكتمـال نموذجها القانوني علم فاعلها بكون الأموال متحصلة من نشاط إجرامي وفي هذا الصدد يثار إشكال فهل العلم بعدم مشروعية مصدر الأمـوال كاف ؟ أم أنـه زيادة على ذلك يجب العلم بطبيعة الجناية أو الجنحة أو المخالفة وزمان ومكان ارتكابها وكذا الظروف المحيطة بها ؟ .
وللتساؤل أهمية خاصة لسببين أولهما يتعلق بتوافر أو تخلف البنيان القانوني للجريمـة
حيث انه لو كان العلم المتطلب هو العلم بمصدر الأموال بذاتها لأمكن الدفـع بانتفـاء
الركن المعنوي بمجرد أن الفاعل اعتقد بكون الأموال المتحصلة مـن جريمة أخـرى
كأن يعتقد الفاعل أن الأموال حصلت من جريمة المخدرات وفي حقيقة الأمر هي كانت نتيجة عملية تهريب أو حصيلة بيع أشياء مسروقة .
والسبب الثاني متعلق بالعقوبـة الواجبة التطبيق ، ويلاحظ أن المشـرع الفرنسي في قانون غسيل الأموال لسنة 1996 قد اشترط ضرورة علم الفاعـل بحقيقة الجريمـة مصدر الأموال غير النظيفة وما قد يقترن بها من ظروف مشددة ، إذا كانت العقوبة المنصوص عليها لهذه الجريمة ولظروفها المشددة تزيد عن عقوبة تبييض الأموال في صورتها العادية .
وباستقراء نصوص القانون الفرنسي الجديد يجب التمييز بيـن فرضيتين أولهما أن تكون الأموال المتحصلة ناتجة عن جنحة لا تزيد عقوبتها عـن العقوبة المقـررة لجريمة تبييض الأموال في صورتيها ، وهنا يكفي علم الشخص بكون الأموال غيـر النظيفة المتحصلة عن جناية أو جنحة ، حتى يقوم الركن المعنوي ، بقطع النظر عما إذا كانت الجريمة ذات طبيعة خاصة .
والفرض الثاني يقوم على أساس أن مصدر الأموال غير النظيفة في جنحة أو جناية تزيد عقوبتها عن تلك المقررة لجريمة تبييض الأموال في حد ذاتها وبصورتيها(1)
في هذه الحالة فإن تطبيق العقوبة يرجع إلى انصراف علـم الشخص بطبيعة هـذه الجريمة ، ما قد يكون قد اقترن بها من ظروف مشددة(2) .
ويترتب على ما سبق ذكره أن انتفاء العلم بطبيعة هـذه الجريمة أو بظروفـها المشددة يحول دون توقيع عقوبتها ويستحق الفاعل بذلك عقوبة جريمة تبييض الأموال الأصلية في صورتها البسيطة أو المشددة بحسب الأحوال .
أما بالنسبة للمشرع الجزائري فإنه يكتفي بالعلم بالمصدر الإجرامي للأمـوال دون التفصيل في هذا المصدر سواءا أكان جناية أو جنحة أو حتى مخالفة و يضيف النص الفرنسي De biens dont l’auteur sait qu’ils sont le produit d’un crime
و ذلك ما يمكن التأكيد به أن المشرع الجزائري يشترط علم الفاعل بأن الأموال ناتجة عن جريمة .
2- إثبات العلم بمصدر الأموال الإجرامي : بما أن جريمة تبييض الأموال من الجرائم العمدية فإن عنصر العلم ينطوي على ضرورة العلم بمصدر هذه الأموال الإجرامـي ، وعليه يقع عبء إثبات توافر الركن المعنوي عموما على النيابة العامة ، أو المدعـي بالحق المدني وهذا ما ستقر عليه القضاء ، ويخضع ركن العمد للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع ، على ضوء عناصر الإثبات المطروحة للمناقشة في الجلسة ، وبالرغم من ذلك يجوز استخلاص عنصر العمد من قرينة مفادها عدم استطاعة المتهم تحديد مصدر الأموال وكذا من الكذب الذي يحيط بأقواله .
بيد أن حكـم الإدانة يجب أن يتضمـن في طياته حيثية تبين علم المتهم بالجريمة الأم مصدر الأموال المتحصلة المراد تبييضها(1) .
وفي هذا الصدد تضمنت اتفاقيـة فينا لسنة 1988 لمكافحة الاتجار غـير المشـروع للمخدرات والمؤثرات العقلية الإشارة إلى كيفية استخلاص الركـن المعنوي لجريمـة غسيل الأموال في المادة الثالثة فقرة 03 بقولها:
" يجوز الاستدلال من الظروف الواقعية الموضوعية على العلم أو النيـة أو القصـد المطلوب ليكون ركنا لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة "
ومن جهة أخرى هناك التزام على عاتق سائـر المؤسسات المالية والمصرفية وغيرها مـن الأشخاص الطبيعية والمعنوية ، بالشفافية والمساهمة في كشف حركـة رؤوس الأموال والصرف ، والإخطار عن العمليات التي يحوم الشك حول مصدرها بأنه غير مشروع ، والخروج عن هذه القواعد المنظمة للنشاط المالي والمصـرفي، وعدم اتخاذ ما يفرضه القانون في هذا الشأن مـن قيود والتزامات يمـكن أن يعزز استخلاص عنصر العمد واثبات توافر النية الإجرامية في الجريمة ولكن ذلك لا يعني أن عدم اتخاذ هذه الاحتياطات يمثل قرينة على توافر العمد ، بل تبقى هذه الضوابط والالتزامات مجرد عوامل تفيد لا أكثر في استخلاص العمد .
3- وقت تقدير توافر العلم بالمصدر الإجرامي:لتحديد ذلك يجب أن نتساءل هل يتم ذلك لحظة بدء سلوك إخفاء هذه الأموال أو قبول إيداعها أو تحويلها أم يكفي أن يقدر ذلك في أية لحظة تالية على بدء هذا النشاط ؟
إن هذا التساؤل يجرنا للتساؤل حول الطبيعة القانونية لجريمة تبييض الأموال ، هل