حلمه وصفحه ـ رحمه الله ـ
قال الأستاذ ناصر بن عبد الله الميمان : امتلأ قلب الشيخ ـ رحمه الله ـ بحب العلم والحق والخير ن ولم يكن فيه مجال لحظوظ النفس ، والانتقام لها ، والثأر لمصالحها ومن هنا تجده يقف من خصومه وأعدائه الذين سعوا ما أمكنهم في إذاء ، وتجاوزوا في خلافهم معه حدود العلم إلى الصراع الشخصي ، والرغبة في إذلاله ، وكبت أمره ، وتقليل شأنه ، نجد الشيخ ـ رحمه الله ـ يقف منهم موقفا حميدا ينم عن قلب طاهر نقي ، فو يحلل ويسامح كل من ظلمه وأذاه.
جاء في رسالة كتبها في مصر إلى إخوانه في دمشق : " ….. وقد أظهر الله نور الحق وبرهانه ، ما رد به إفك الكاذب وبهتانه ، فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مسلم من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي ، وأما ما يتعلق بحقوق الله ن فإن تابوا تاب الله عليهم ، وإلا فحكم الله نافذ فيهم ، فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ولكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاءا إلا كان خيرا له ".
وأكبر من ذلك وأعظم موقفه من خصومه من علماء مصر الذين أمروا بسجنه وسعوا في قتله ، فإنه لما عاد الملك الناصر إلى القاهرة واسترد حكمه كان أول شيء فعله أن طلب شيخ الإسلام من الإسكندرية ، فلما قدم عليه أكرم وفادته ، واستقبله أحسن استقبال ن ثم أخذه إلى طرف المجلس وتحدث معه ساعة.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا من ذلك الشباك الذي جلسا فيه ، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه ، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ، ومبايعة الجاشنكيروانهم قاموا عليك وأذوك أنت أيضا ، وأخذ يحثه بذلك على ان يفتيه في تقل بعضهم ن وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكز ففهم الشيخ مراد السلطان ، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء ، وقال له : إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم فقال له : إنهم قد أذوك ، وأرادوا قتلك مرارا,
فقال الشيخ : من آذاني فهو في حل ، ومن أذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي ، وما زال به حتى لحم عنهم السلطان وصفح.
قا لوكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول : ما رأينا مثل ابن تيمية ، حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا..
محنة الشيخ ـ رحمه الله ـ
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ وقع للشيح ـ رحمه الله ـ من أهل عصره قلاقل وزلازل ، وامتحن مرة بعد أخرى في حياته وجرت فمن عديدة ، والناس قسمان في شأنه ، فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم ، وبعض منهم يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه ، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ، ويفوق أهل عصره ، ويدين بالكتاب والسنة فإنه لابد وأن يستنكر المقصرون ، ويقع له معهم محنة ، ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ ولا يكون لغيرة ، وهكذا حال هذا الإمام ، فإنه بعد موته عرف الناس مقدار ، واتفقت الألسن بالثناء عليه ، إلا من لا يعتد به ، وطارت مصنفاته ، واشتهرت مقالاته.
فقد تعرض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لمحن كثيرة متابعة ، فلا يكاد تمر عليه فترة من الزمن حتى يتعرض لمحنة أو يشارك في معركة ، أو تقع بينه وبين بعضهم مخاصمة ، أو مناظرة حتى ختمت حياته بقلعة دمشق ن وهو صابر محتسب وقد حيل بينه وبين الكتابة والإفادة ، فعكف على تلاوة القرآن ، فختمه إحدى وثمانين ختمة انتهى في ىخر ختمة قوله تعالى " إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر " ( القمر : 54-55).
ثمن المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن أهل حماة كانوا قد وجهوا للشيخ سؤالا سنة 698هـ فأجابهم بما عرف بالفتوى الحموية الكبرى التزم فيها قانون السلف في الأسماء والصفات والبعد عن التأويل والتعطيل وكان الحسد قد استقر في قلوب كثير من الفقهاء ، فألبوا عليه بعض الولاة ، ولكن التتار كانوا مستمرين في زحفهم ، ففر الولاة والفقهاء ، وصمد لها الشيخ ـ رحمة الله ـ فلما من الله بالنصر على التتار ، واستقرت امور العباد ، وعاد الشيخ إلى الإفادة والتصنيف تحرك الحسد من جديد في قلوب الحاقدين لغلو كعب الشيخ وارتفاع مقامه عند العامة والولاة على السواء.
ومن ذلك ما حدث بينه ـ رحمه الله ـ وبين أبي حبان في القاهرة سنة 700 هـ وكان أبو حيان قد استقبل شيخ الإسلام استقبال حسنا وقال : ما رأت عيناي مثل هذا الرجل وامتدحه بأبيات من نظمه تقدم ذكرها ثم دار بينهما كلام فجري ذكر سيبوية فأغلظ ابن تيمية القول في سيبوية ، فنافره أبو حيان وقطعه ، وصير ذلك ذنبا لا يغفر ، وسئل عن السبب فقال : ناظرته في شيء من العربية ، فذكرت له كلام سيبويه فقال : ما كان سيبويه نبي النحو ، ولا كان معصوما بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت.