منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الاستقامة في السرائر
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-10-13, 22:07   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
قدوري رشيدة
عضو مبـدع
 
الصورة الرمزية قدوري رشيدة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


5 ـ التوبة:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” لَلّهُ أشَدّ فَرَحا بِتوبَة عبدِهِ من أحَدِكُم سَقَطَ عَلى بَعيرِهِ ، وَقَد أضَلّهُ بأرض فلاة ” (متفق عليه)ـ

هكذا يحب الله توبة عبده ، لذا عليه أن يتوب بعد كل ذنب أومعصية ، وليس ذلك فحسب بل عليه أن يجدد التوبة مرة بعد أخرى ، ” إن اللّه يُحِبّ التوّابين ويُحِبُّ المُتَطَهّرين ” (26) ، فالتواب هو الذي يجدد التوبة مرة بعد أخرى وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إنّي لأستَغفِرُ اللّهَ في اليومِ والليلَة أكثَرَ من سَبعينَ مَرّة ” (27). وإذا كان هَذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستغفار والتوبة وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكم علينا أن نستغفر الله؟ ومع ذلك تجد بين المسلمين من يغفل عن ذلك نسيانا أو إهمالا أو إستهانة .

وللتوبة شروط ، فإن كانت متعلقة بأمر هو لله فقط فشروطها ثلاثة هي الإقلاع عن الذنب والتصميم على عدم العودة فيه والندم على فعله.أما إذا كانت متعلقة بحق آدمي فلها شرط رابع هو أن يسترضي صاحبها . ولا تتم التوبة إذا فُقد أي شرط من شروطها.

إن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى: ” وإن تَعُدّوا نعمةَ اللّهِ لا تُحصوها (28)ـ " ولكن على المؤمن أن يصبح تائبا ويمسي تائبا . فالتوبة والإستغفار دأب الصالحين فقد سبقهم إلى ذلك الأنبياء والمرسلون . فآدم وحواء عليهما السلام: ” قالا ربّنا ظَلمنا أنفسَنا وَإن لَم تَغفِر لنا وَتَرحمنا لَنَكونَنّ من الخاسرين ” (29) ، ويونس عليه السلام: ” فنادى في الظلُماتِ أن لا إلَه إلاّ أنتَ سُبحانَكَ إني كُنتُ من الظالمين ” (30) ، فالإنسان معرّض في حياته إلى النسيان والوقوع في الأخطاء ، فكل إبن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون . وكلما كان إستدراك الخطأ أسرع ، كلما كان ذلك أفضل . فإذا أعقب الذنب إستغفارا سريعا ، كان ذلك أدعى لقبول التوبة .

إن الأرض لتشهد لأي عمل يُرتكب عليها فهي تشمئز من ذنوب العباد ، وتطرب فرحا بالأعمال الصالحة فتشهد له بذلك يوم القيامة ، فعلى المرء أن يحرص على أن لا يترك أرضا عمل فيها بمعصية الله إلاّ بعد أن يتبع ذلك بطاعة لله فيها ، ” إن الحَسَناتِ يُذهِبنَ السيِئات ” (31) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” أتبِع السيئةَ الحَسَنةَ تَمحُها ” (32).ـ

وعلى المسلم أن يعلم إن من الذنوب ما تكون عاقبته للمرء خيرا من الطاعات ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ العبدَ ليُذنِب الذَنبَ فيدخلَ بهِ الجَنّة ” ، قيل يارسول الله ، كيف ذلك؟ قال: ” يكون نُصبَ عينيهِ ، تائِبا منه فارّا ، حتى يدخُلَ الجَنّةَ ” (33) ، فالمؤمن ليس ملَكا ولا نبيا معصوما من الخطايا لكنه يقظ يعمل جهده في أن لا يعصي ربه ، فإذا أذنب أو أخطأ تاب وأناب فيكون ممن يحبهم الله تعالى.

يحكى عن السري السقطي(34) رضي الله عنه أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي الحمد لله مرة . قيل له وكيف ذلك؟ قال وقع ببغداد حريق ، فاستقبلني رجل فقال لي نجا حانوتك ، فقلت الحمد لله ، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين.

ـ 6 ـ جهاد النفس:
عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: ركبت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال لي:

” يا غلام إني مُعَلِّمك كلمات ، إحفَظ اللّه يحفَظك ، إحفظِ اللّه تَجِدهُ تِجاهَكَ ، وإذا سألتَ فَلتسألِ اللّه ، وإذا إستَعَنتَ فاستَعِن باللّه ، واعلَم أن الأمّةَ لو إجتمَعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوكَ إلا بشيء قد كتبهُ اللّهُ لكَ ، ولو إجتَمَعوا على أن يَضّروك لم يضُّروك إلا بشيء قد كَتَبَهُ اللّهُ عَليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُحُف”

(رواه أحمد و الترمذي)

حفظ العبد ربه هو إلتزامُ أوامره وإجتناب نواهيه ، وحفظ الله تعالى عبده هدايته ومضاعفة ثوابه وتجنيبه الآثام وتيسير أموره . قال تعالى: ” والّذينَ جاهدوا فينا لَنَهدينّهُم سُبُلَنا ” (35) وقال أيضا: ” ومَن يَتَّق اللّهَ يَجعَل لَهُ من أمرهِ يُسرا ” (36). وكلما إزداد المؤمن تقوى ، كلما إزداد عون الله له وتسديدهُ لخطاهُ ، فإذا أحَسَن وجد الثواب سريعا كإجابة الدعاء أو تيسير المزيد من الصالحات أو وقايته من السيئات ، قال تعالى:” فأما من أعطى وإتّقى وصَدّقَ بالحُسنى فسنُيَسِّرَهُ لليُسرى ”(37).ـ

أما إذا غفل المؤمن التقي فأخطأ ، فإن تسديد الله له يكون بتذكره لخطئه بشكل ما ، قال الله تعالى: ” إن الّذين إتّقوا إذا مَسَّهُم طائف من الشيطان تذَكّروا فإذا هُم مبصرون ” (38).ـ

فتمام اليقين أن لايرى المؤمن نافعا إلا الله ولا ضارا غيره ، ولا مجيبا يستحق أن يسأل إلاّ هو ، ومنه الهداية وحده لا شريك له في كل ذلك ، فإذا استسلم العبد لله كان البلاء عنده نعمة لرفع الدرجات وكسب المزيد من الحسنات وتكفير السيئات ، وصار الرخاء عنده إختبارا يخشى أن لا يستطيع أن يؤدي شكره. فالمؤمن قوي اليقين بالله يرى أن الله تعالى فعّال لما يريد وأنه وحده الذي يستحق السؤال ويقدر على الإجابة . وعليه أن يسدد ويقارب ما إستطاع ويعمل الخير ولا يقول إن كان الله كتبني شقيا فأنا شقي وان كان كتبني سعيدا فأنا سعيد ، فعليه أن يعلم أن التوفيق لعمل الخير هو بشرى من الله أنه من السعداء فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إعمَلوا واتَّكِلوا ، وكُل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ ، فَمَن خُلِقَ لِلنَعيمِ فييسرَهُ لِلنَعيمِ ، وَمَن خُلِقَ لِلجَحيم فييسرَهُ لِلجَحيمِ ” (39).ـ

ـ 7 ـ الرضا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” إن أعظم الجزاء من عِظَم البلاء ، وأن اللّه تَعالى إذا أحَبّ قوما إبتلاهُم ، فَمَن رَضي فَلَهُ الرضا وَمَن سَخِطَ فَلَهُ السُخط ”

(رواه الترمذي وقال حديث حسن)

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وإجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس ، وأدّ ما إفترض الله عليك تكن من أعبد الناس ، ولا تشكُ من هو أرحم بك (الله عزوجل) إلى من لا يرحمك (الناس)ـ ، وإستعن بالله تكن من أهل خاصته.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن الخير كله في الرضا ، فإن إستطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر. وقيل للامام الحسين رضي الله عنه إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى ، والسقم أحب إليّ من الصحة ، فقال: رحم الله تعالى أبا ذر ، أما أنا فأقول من إتّكل على حسن إختيار الله تعالى له لم يتمن غير ماإختاره الله عزوجل له. وقال أبو علي الدقاق(.4): وليس الرضا أن لاتحس بالبلاء ، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء. ويكون العبد راضيا حق الرضا إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة.

كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: ” أللّهُمّ إنّي أسألُكَ الرضا بعد القضاء ” (41) ، وواضح أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذي أمر الرضاء به ، إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا به ، كالمعاصي ومختلف أنواع محن المسلمين... ويعني ذلك أنه عند وقوع المعصية والمحنة يكون الواجب هو العمل على تغييرها لا الخنوع والرضا بها . ويمكن للعبد أن يستشعر رضاء الله عنه إذا كان هو راضيا عن ربه في حالات الضراء والسراء على السواء ، قال تعالى ” رضِيَ اللّهُ عَنهُم ورَضوا عَنهُ ” (42).ـ

إن عدم الرضا بمصائب الدنيا قد يصحبه الجزع. ومن جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه ، لأن الجزع نفسه هو مصيبة في الدين ، فالمؤمن يرضى عن ربه وعن ما يقضي به ربه ، فالخير ما يختاره الله لعبده المؤمن لا ما يحبه هو لنفسه.



ـ 8 ـ الصبر:

عن صهيب بن سنان رضي الله عنه(43) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” عَجَبا لأمر المُؤمن إنّ أمرَهُ كلّهُ لهُ خير ، وليسَ ذلك لأحَد إلاّ للمُؤمن ، إن أصابتهُ سَرّاءُ شَكَرَ فكان خيرا لهُ وإن أصابَتهُ ضّراء صَبَر فكانَ خيرا لهُ ”

(رواه مسلم)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :ما أصابتني مصيبة إلاّ رأيت أن لله عليّ فيها ثلاث نعم: أن لم تكن المصيبة في ديني ، ولم يكن ما هو أكبر منها فدفع الله بها ما هو أعظم منها ، والثالثة ماجعل الله فيها من الكفارة لما كنا نتوقاه من سيئات أعمالنا.

الصبر هو أن يتصرف المرء مع البلاء مثل تصرفه عند العافية . فالله تعالى ما أخذ شيئا أعطاه للعبد إلا ليصبر فيحبه على ذلك ، ” واللّهُ يحب الصابرين ” (44) ، وإذا أحب الله عبدا إختار له ما هو خير له وما تقتضيه مصلحته ، فعلى العبد أن يرضى بذلك ، وكذلك إذا ما أعطى الله العبد فإن ذلك العطاء هو لأجل الشكر فيجازيه الله تعالى على ذلك الشكر حيث وعد الله: ” وسَنَجزي الشاكِرين ” (45). عن الخباب بن الأرت رضي الله عنه(46) قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: ” قد كانَ من قبلَكُم يُؤخذُ الرجل فيُحفَرَ لَهُ في ألأرضِ فيُجعَلُ فيها ، ثُمّ يؤتى بالمنشارِ فيوضَعَ على رأسِهِ فيُجعلُ نصفين ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِهِ وعَظمِهِ ، ما يصّدُهُ ذلك عن دينهِ ، واللّه ليُتِمّنّ اللّهُ هذا الأمر حتّى يسيرَ الراكِبُ من صَنعاءَ إلى حَضرَموت لا يخافُ إلاّ اللّه والذئبَ على غَنَمِه ، ولكنّكم تَستَعجلونَ ” (47). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ما يُصيبُ المُسلم من وَصَب (الوصب هو المرض) ولا هَمّ ولا حَزَن ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكَةُ يُشاكَها إلاّ كَفّرَ اللّهُ بها من خَطاياهُ ” (48).ـ

والصبر التام هو الثبات مع الله وتلقي بلاءَهُ بالرحب والدعة . قال تعالى: ” ياأيُّها الّذينَ آمنوا إصبِروا وصابروا ورابطوا واتّقوا اللّهَ لعلَّكُم تفلحونَ ” (49) فاصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوى ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله. فالمؤمن يصبر ويوصي غيره من المؤمنين بالصبر لئلا يكون من الخاسرين: ” والعَصرِ إنّ الإنسانَ لَفي خُسر إلاّ الّذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصالِحاتِ وتواصوا بالحَقّ وتواصوا بالصَبرِ ” (50) ، وكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حالة السراء: ” الحَمدُ لِلّهِ الّذي بِنِعمَتِه تَتُمّ الصالِحاتُ ” وفي حالة الضراء: ” الحَمدُ لِلّهِ على كُلّ حال ” (51).ـ

ـ 9 ـ التوكل:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

” لو توَكّلتُم على الله حَقّ توَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطيرَ تَغدو خِماصا وتَروحُ بِطانا ”

(الترمذي وقال حديث حسن وصححه الحاكم)(52)

معناه تذهب في أول النهار ضامرة البطون من الجوع وتعود آخره ممتلئة البطون . والتشبيه بذهاب الطير بحثا عن قوتها يشير بوضوح إلى أن التوكل على الله حق التوكل هو البحث عن الرزق لا القعود إنتظار أن يأتِ الرزق إلى الإنسان كما يظن ذلك بعض الجهال . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي ترك ناقته بغير عقال ظنا منه أن ذلك هو التوكل على الله فقال له: ” إعقِل وَتوَكّل ” (53). التوكل هو الثقة بما في يد الله واليأس مما في أيدي الناس. قال عبدالله بن المبارك(54): من أخذ فلسا من حرام فليس بمتوكل . وسئل أحد الصالحين(55) عن التوكل فقال: إن كان لك عشرة آلآف درهم وعليك دانق دين لا تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ، ولو كان عليك عشرة آلآف درهم دين من غير أن تجد له وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك . فالتوكل على الله يكون بفقدان الثقة بالمال ، فالغني المتوكل يتوكل على الله لا على ماله ، والفقير المعدم يثق بالله ويرجو عنايته ويتوكل عليه ولا يفقد الثقة به بسبب عدم توفر المال لديه. قال اللّه تعالى: ” وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموتُ ” (56) وقال أيضا: ” وعلى اللّه فليتوكّل المُؤمنون ” (57) وقال: ” ومَن يتوكّل على اللّه فَهُوَ حَسبُهُ ” (58).ـ

وروي أن موسى عليه السلام قال يارب ممن الداء والدواء ؟ فقال تعالى مني ، قال موسى فما يصنع الأطباء ، قال: يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي. فالمؤمن متوكل على الله آخذ بالأسباب لأن رب الأسباب قد أمره بالأخذ بها لكن قلبه معلق بالله تعالى لا بالأسباب.

ـ 10 ـ القناعة:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

” قد أفلح من أسلَمَ ورُزقَ كفافا وقَنّعَهُ اللّهُ بما آتاهُ ”

(رواه مسلم)

القناعة متعلقة بالرضا ، فإذا رضي العبد عن ربه قنع بما قسم الله له وقلبه مطمئن مرتاح لذلك . والقناعة تناقض التكالب على الدنيا سعيا وراء متاعها الزائل ، سواء كان حلالا أم حراما . فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلا ، ويمقت الحرام ولو كان كثيرا . وقناعته لا تقعده عن الكسب ولا عن أخذ ما هو صالح من غيره ، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقا وفيرا ، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعا في المزيد من متاع الدنيا ، وتناقض الكسب مع التفريط بفرائض الله وعبادته. والقناعة يحتاجها الغني والفقير وكذلك يحتاجها من كان رزقه كفافا بين الغنى والفقر ، لأن القناعة في القلب ولا علاقة لها بما في اليد من مال.

ومن قنع بما آتاه الله وجد طمأنينة القلب والسعادة ، قال الله تعالى: ” مَن عَمِلَ صالِحا مِن ذَكَر أو أنثى وهو مُؤمن فلنحيينهُ حياة طيبة ” (59). قال كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة في الدنيا هي القناعة . وقيل أيضا في قوله تعالى: ” إن الأبرار لفي نعيم ” (60) هو القناعة ، وفي قوله تعالى ” وإن الفجار لفي جحيم ” (61) هو الحرص في الدنيا.

وقد ذم الله تعالى التكاثر في متاع الدنيا وعدّه من الملهيات: ” الهاكُمُ التَكاثُرُ حَتّى زُرتُم المقابِرَ ” (62). وهكذا يفلح من قنع بما آتاه الله تعالى وكان رزقه كفافا على قدر حاجته ، وسطا بين الغنى والفقر ، وهو أفضل من كليهما ، لأن خير الأمور أوسطها ، فرب غني ألهاه غناه عن معرفة ربه ورب فقير شغله فقره وإكتساب قوته عن عبادة ربه.

ـ 11 ـ الزهد:


عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال يا رسول الله دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال:

” إزهد في الدُنيا يحبّكَ اللّهُ وإزهد فيما عند الناسِ يُحبّك الناس ”

(إبن ماجه وغيره بأسانيد حسنة)(63)

ضرب الله تعالى أمثلة عديدة للدنيا ” كماء أنزلناهُ من السماء فاختَلط به نباتُ الأرضِ ” فأصبَحَ هَشيما تَذروهُ الرياحُ ” (64)ـ ووصفها بأنها لعب ولهو وأنها متاع الغرور(65) وحذر منها ” فلا تغُرّنّكم الحياةُ الدُنيا ” (66).ـ

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ” كن في الدُنيا كأنكَ غريب أو عابرَ سبيل ” ، وكان إبن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (67 ـ) قيل في شرح ذلك أن لا يتعلق القلب بالدنيا ، إلاّ كما يتعلق الغريب في غير وطنه حيث لا ينبغي له أن يشتغل بما لا ضرورة له. والدار الآخرة هي وطن المؤمن وليست الدنيا.

قال سفيان الثوري(68): الزهد في الدنيا ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء ولكنه قصر الأمل.

يحكى أن شيخا معروفا بالزهد كان يسكن في بغداد ، أتاه أحد تلامذته مستأذنا إياه بالسفر في حاجة إلى الشام ، فقال له إن هناك رجلا صالحا فيها ، فإذهب إليه وأقرئه مني السلام وإطلب منه أن يدعو لي ، فتخيل التلميذ في ذهنه حال ذلك الرجل أن يكون أزهد من شيخه ، فلما ذهب التلميذ إلى الشام ، سأل عن الرجل فأرشد إلى قصر مهيب فعجب أن يكون الرجل المقصود هو صاحب هذا القصر ، ولما أستأذن على الرجل وجده محاطا بالأبهة والخدم ، لكنه وجده متواضعا كريما . فلما أبلغه تحيات الشيخ البغدادي ، سأله ألم يطلب شيئا قال بلى طلب أن تدعو له ، فرفع الرجل يديه إلى السماء وقال: أللهم أخرج حب الدنيا من قلبه. فازداد التلميذ عجبا على عجبه ، ثم ودّعه عائدا إلى بغداد. ولما زار شيخه سأله عن سفره وفيما إذا كان قد لقي الرجل الصالح ، قال نعم ولكنه إستحيى أن يخبره بمضمون دعوته ، فسأله الشيخ وهل طلبت منه أن يدعو لي قال نعم قال فما كانت دعوته قال قال أللهم أخرج حب الدنيا من قلبه ، قال صدق والله يا ولدي ، لايغرنك مظهر الزهد علي ، أترى ما حولي من المتاع ، فنظر التلميذ فلم يجد سوى حصير وإبريق ماء ورأى متاعا باليا لا يكاد يؤبه له ، قال فإن قلبي معلق بهذا المتاع حتى إني لأستيقظ في الليل ألتمس الإبريق خشية أن يكون قد سرق.

قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام وهو زهد العوام ، وترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص ، وترك ما يشغل العبد عن الله وهو زهد العارفين . وقال الفضيل بن عياض: جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت واحد وجعل مفتاحه الزهد. وقال الحارث المحاسبي(69): خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ولا دنياهم عن آخرتهم ، ولذلك كان الإمام علي رضي الله عنه يقول: إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . أما الزهد فيما عند الناس فهوعدم الطمع بما في أيديهم ، والقناعة بما قسم الله تعالى من رزق وعدم التكالب على الدنيا بجمع الحلال والحرام والشبهة ، بل تحرّي ما هو حلال خالص وإن كان قليلا وقليل من يفعل ذلك اليوم . وعلى المؤمن أن لا ينظر إلى من هو فوقه في الأمور الدنيوية بل ينظر إلى من هو دونه حتى يزداد شكرا لله تعالى ، ولا ينظر في أمور الآخرة إلاّ إلى من هو فوقه كي يُقتدى بهم فيزداد تقوى

يتبع