منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - البصمة الوراثية و مدى حجيتها في الإثبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-02-11, 20:37   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 اضافة1

تعتبر المحاكم الكندية أن كل إجراء يهدف إلى أخذ عينات لإجراء فحص الـ ADN على شخص معين دون موافقته أو دون وجود سند قانوني يعتبر ذلك عمل غير دستوري، وهذا من قرار المحكمة العليا الكندية لسنة 1998 وهذا يعتبر بمثابة مبدأ قضائي تسير عليه كافة المحاكم الكندية(2).
وتعتبر قضية الرياضي المشهور(Simpson) هي التي مهدت لاستعمال تحاليل الـ ADN ومن حينها أصبح استعمال هذه التقنية في الإجراءات الجنائية وأصبحت كدليل قطعي في الكشف عن هوية المجرمين، وتولي دولة كندا أهمية قصوى لحماية الفرد من كل تعد على حرمة جسده وهذا ما أكدته المدونة الكندية للحقوق و الحريات لسنة 1988.
وإذا رجعنا إلى بدايات استعمال هذه التقنية في كندا حيث كان الانشغال منصبا حول مدى دستورية إجراء تحاليل ألـADN من جهة، وإجراء مقارنة مع ما وجد في مسرح الجريمة من جهة أخرى، الأمر الذي خلص إليه المؤتمر بتوحيد القوانين الكندية الذي تم سنة 1991، وجدد تأكيده سنة 1993 بإصداره لوائح قصد ضرورة أخذ تدابير تشريعية لإباحة أخذ عينات من أشخاص لإجراء فحص ألـADN، وتأكيد على ضرورة الحفاض على هذه العينات، ويمكننا إعطاء مثال على ذلك بالرجوع إلى تقرير اللجنة الكندية الخاصة بالعنف على النساء و التي اقترحت ضرورة إجراء تحاليلADN ويمكن إعطاء مثال في القضاء الكندي: قضية إلحاق نسب طفل لأبيه.

(1)- تم بث القضية على قناة (f2) يوم 28 أفريل 2004 .
2)- « ADN et preuves modernes » « les aspects constitutionnels -Alain Robert Nadeav- Avocat, (15/06/2003)
إذ تعود الوقائع إلى سنة 1995 حين التقى الطرفان(المدعى و المدعى عليها)، وحتى بداية 1996 أقاما مع بعضهما البعض لعدة شهور، وخلال هذه الفترة قامت بينهما علاقات جنسية، ووضعت المدعية في 06/10/1996مولودها.
سنوات بعد ذلك حاولت الأم من خلال دعوى إلحاق نسب الطفل إلى أبيه، أما هذا الأخير فأقر بوجود علاقات جنسية مع المدعية ولكنها كانت غير كاملة، وأنه يجهل إن كان لصديقته علاقات جنسية مع غيره دون أن ينفي وجودها ولما علم بحمل صديقته، لم تكن نيته متجهة إلى نفي أبوته بقدر ما كان يتخوف من إمكانية مطالبته بالنفقة الغذائية.
و بوجود علاقات جنسية بين الطرفين خلال المدة التي سبقت عملية الوضع اعتبر القاضي هذا العنصر كافيا لتبريره الأمر بالفحص، وبالفعل أصدر القاضي "ميشال دولورم" من المحكمة العليا لمونريال" حكما يتضمن أمرا لإخضاع المدعى عليه للفحص عن طريق أخذ عينة من لعابه، ومن ثمة إقامته الدليل على احتمال نسب الطفل له(1)
3- الســــويدي:
حيث قضت محكمة النقض السويدية سنة 1986 بأنه لا يجوز أن تتم عملية الفحص سوى بمساعدة أحد المخابر وبالعكس من ذلك قضت المحكمة العليا بأنه لا يشكل أخذ عينة من الدم من طرف شخص غير الطبيب أو الممرض، عيبا شكليا في الإجراءات يؤدي إلى استبعاد الدليل الحاسم ومبدأ حرية الإثبات في المادة الجزائية يؤدي إلى أن القاضي يبقى حرا في تقديره للدليل يوم الجلسة عند محاكمة المتهم، حتى ولو أن جمع ذلك الدليل في القضاء لم يخضع للإجراءات القانونية المطلوبة.
4- بريطانيا:
لعل أشهر قضية اهتز لها الرأي العام هي قضية " ناربرة " قرية بإنجلترا، وتتلخص وقائع القضية أن شخصا اغتصب فتاتان في هذه القرية بطريقة وحشية ومرهبة. الأولى هي الصبية ليندا مان 15سنة من العمر و التي اغتصبت في سنة 1983، أين عثر على جثتها مغتصبة ومقتولة خنقا ولا أثر للجاني إلا سائله المنوي.
أما الثانية فيتعلق الأمر (بدوين آشويرت) البالغة من العمر 15 عاما والتي اغتصبت بنفس الطريقة سنة 1986وقد تم تكرار اغتصابها بعد موتها مع جثتها بمنتهى الوحشية، وعلى إثر ذلك أرسلت النيابة عينة من دم المتهم ريتشرد بكلاند و عينة من السائل المنوي الذي وجد مختلطا بالجثتين .



(1)- cour supérieur . Montréal : 500-04-0206649-993-REJB 2003-44287, décision du 02/04/03
وهذا إلى مخبر العالم البيولوجي "جيفري" و الغريب في الأمر أن المتهم " ريتشارد" كان قد اعترف بأنه اغتصب الفتاة الثانية وأصر على إنكاره بالنسبة للفتاة الأولى.
وأسفرت نتائج التحاليل التي أجريت على العينات المشار إليها سابقا أن المتهم "ريتشارد بكلاند" لم يغتصب و لم يقتل أي من الفتاتين، وعلى إثر هذه النتائج بدأت أعجب مطاردة في التاريخ، حيث أمرت النيابة الإنجليزية بأخذ عينات دم ولعاب كل شباب ورجال القرية المعنية وحتى من القرى المجاورة.
وتجدر الإشارة إلى أنه تم نقل وقائع هذه العملية على الهواء مباشرة، وتم بالفعل التوصل إلى معرفة هوية المجرم المغتصب و المسمى "كولين تيشفورك" والذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة في 23/11/1988(1)
كما نورد مثالا آخرا يتعلق برجل كان قد أدين قبل 17 عاما باغتصاب فتاة مراهقة وقتلها، حيث حصل على البراءة بعد أن أثبتت اختبارات الحامض النووي (ADN) أنه لم يرتكب الجريمة.
القضاء الفرنسي:
يمكننا التطرق لـقضية عمر رداد « Omar Raddad » : و التي أخذت أبعادا كبيرة و هزت الرأي العام الفرنسي و الدولي و نورد وقائع القضية: [ التسلسل الزمني للقضية]:
* 23جوان 1991: تم قتل سيدة "غيسلان مارشال" البالغة من العمر 65 سنة بواسطة عدة طعنات خنجر و هذا بمقر سكنها بالمنطقة المسماة "Alpes maritimes ".
* وجدت على الحائط عبارات (قتلني عمر و عمر..... ) مكتوبة بالدم.
* 27 جوان 1991: تم اتهام "عمر" الذي كان يشتغل عند السيدة المجني عليها كبستاني و تم إيداعه في السجن، لكن عمر البالغ من العمر 28 سنة أنكر الوقائع المنسوبة إليه جملة وتفصيلا.
* 23 أوت 1991: أكد خبراء في الخطوط أن العبارات التي وجدت مكتوبة على الحائط بمنزل المجني عليها هي للضحية، الشيء الذي أثقل ملف "عمر" الخاص باتهامه.
* 02 فيفري 1994: أدانت محكمة نيس (مجلس الإنسان) "عمر" وعقابا له قضت عليه بـ 18 سنة سجنا نافذة وما زاد اقتناع المحكمة وكذا هيئة المحلفين هو شهادة خبراء الخطوط الذين أكدوا أنه للمجني عليها.
* 09 مارس 1995: محكمة النقض ترفض الطعن بالنقض الذي رفعه عمر ضد قرار محكمة الاستئناف بنيس(NICE).
10 سبتمر 1995: صرح المسجون السابق من جنسية مغربية و الذي كان مسجونا بسجن كلارفو (Clairvaux)، المدعو "محمد مومن".
(1)-جريدة الوفد المصرية،مقال صادر بتاريخ:20/10/2004. « www.elwafd.org »
- للصحافة المغربية، بأن أحد المسجونين معه (FB) اعترف بقتل المجني عليها (Ghislaine Marchal). "غيسلان مارشال"
* و في 15 سبتمبر من نفس السنة فتحت نيابة (غراس) تحقيق ابتدائي حول القضية.
* 21 سبتمبر 1995:السجين الذي تحدث عليه المغربي"محمد مومن"والمدعو"ألان فيلاس بوا"Alain Vilas-Boas) تم سماعه من قبل المحققين وأنكر ماهو منسوب له، وقدم شكوى (بالبلاغ الكاذب).
* و في نفس التاريخ 21 سبتمبر 1995: "برنار انجو" المحقق الخاص الذي كلفه والد "عمر" بالتحقيق في القضية"، تقدم للدرك الخاص بمقاطعة "قراس" الوسيلة التي تمت بها الجريمة وهي " خنجر خاص بالمطبخ".
* 10 ماي 1996: الرئيس "جاك شيراك" يمنح عفو جزئي "لعمر رداد" و تقلص بذلك عقوبته بأربع سنوات وثمانية شهورـ وقد تم إمضاء المرسوم في 23 ماي من نفس السنة.
* 26 جوان 1996: "جاك توبوت" وزير العدل الفرنسي يصرح بأنه سوف لن يحضر لجنة المراجعة بخصوص قضية "عمر".
* 20 نوفمبر1997: تم اعتماد خبرة للخطوط طلبها الأستاذ فرجاس، و التي تختلف تماما عن نتائج الخبرة الخطية الأولى، حيث خلصت الخبرة إلى أن العبارات المكتوبة على الحائط مسرح الجريمة ليست للمجني عليها.
* 02/09/1998 : مكتب رئيس القضاة بفرنسا يعطي موافقته لإطلاق سراح (حرية مشروطة )
ل "عمر رداد "
* 04/09/1998 : تم إطلاق سراح المدعو "عمر رداد" بعد 07 سنوات من السجن ، و لكن في نظر العدالة يبقي متهم .
*27/01/1999: الأستاذ فرجاس، يودع مذكرة لمراجعة القضية أمام محكمة النقض الفرنسية.
*02/02/2000: لجنة المراجعة الخاصة بالعقوبات الجنائية، تأمر بإجراء تحقيقات جديدة، وكذا إجراء خبرة خطية جديدة لمعرفة صاحب الخط للعبارات المكتوبة على الحائط بمسرح الجريمة، وعلى هذا الأساس تم تعيين الخبيرين / "آن بيروتي" و "فرنسواز درسيني دارنو" .
*17/02/2000: محامي عمر رداد /فرجاس، طلب من اللجنة إجراء تحريات إضافية بخصوص المادة المكتوبة بها العبارتين، و كذا أثر اليد الموجودة أسفل الحائط.
* 31/10/2000: الخبيرين في مجال الخطوط، يودعون نتائج الخبرة المنجزة، وهو تقرير يتكون من 150 صفحة، خلصت إلى أنه لا يكمن الجزم بأن المجني عليها هي التي كتبت العبارات، و لكن الدم المكتوب به العبارتين هو للمجني عليها.
* 27/12/2000: أما الخبرة الأخرى، فأثبتت أن الآثر لليد الموجودعلى الباب يحتوى على دم المجني عليها و لكن ممزوج ( بحمض نووي منقوص الأكسجين من جنس ذكر )
( Masulin =ADN ). و طلبت لجنة المراجعة إجراء مقارنة فورية مع ألـ ADN الخاص بالمتهم "عمر رداد".
* 14/01/2001: العدالة تأمر بإجراء خبرة جديدة على الدعامة الخشبية التي تساعد على اتمام الجريمة و قتل الضحية.
*20/02/2001: ألـADN من جنس ذكر الذي وجد على الباب ليس للمتهم "عمر رداد" ، و لكن الخبراء لم يستطيعوا تحديد هوية هذه البصمة الجينية و لا مصدرها.
*01/05/2001: لجنة المراجعة تتلقى خلاصات الخبراء اللذين فحصوا الآثار الخاصة بالدم بمسرح الجريمة، و التي مفادها أنها ليست "لعمر رداد" .
*14/05/2001: المحامي العام لمحكمة النقض الفرنسية يطلب تحويل و إحالة ملف "عمر رداد" أمام محكمة المراجعة.
* 25/06/2001: و خلصت اللجنة إلى أن الدلائل الجديدة التي أتي بها دفاع المتهن يمكن أن تثير بعض الشكوك في اتهام "عمر" و هذه النقاط هي:
أ- تم تحديد هوية و صاحب الكتابة على الجدران.
ب- تم اكتشاف نوعين من ألـ ADN الذكرين لا ينسبان لعمر.
ج- عدم معرفة تاريخ الجريمة بالضبط....إلخ .
*16/05/2002: محكمة النقض تحدد17 أكتوبر لدراسة إمكانية مراجعة محاكمة المتهم"عمر رداد"
* 17/10/2002 : المحامي العام " لوران دافناس" خلص إلى أنه ليس هناك عناصر جديدة تستدعي إعادة محاكمة عمر رداد، و طلب من لجنة المراجعة بعدم السماح بإجراء محاكمة ثانية للمتهم.
* 20/11/2002 محكمة المراجعة ) تؤكد إتهام و إدانة "عمر رداد" بجناية القتل " المحامي فرجاس يعلن عن لجوءه إلى المحكمة الأوربية بخصوص قضية موكله "عمر رداد".
و تعتبر هذه الأمثلة السابقة بمثابة نظرة سريعة على بعض القضايا التي فصلت فيها المحاكم الغربية، وما هي إلا عينة بسيطة من مجموع القضايا التي عرضت على المحاكم الغربية و التي استعملت فيها تقنية ADN ، وأثببت نجاعتها إلى حد كبير في تبرئة ساحة المئات من المتهمين و إدانة مقترفي الجرائم الحقيقيين (الفعليين)، وهذا ما يشجع الدول العربية لاسيما الجزائر على تبني هذه التقنية و اللجوء إليها و إدراجها في دراستنا القانونية، لأن الهدف الأول و الأخير هو البحث عن الحقيقة.

المطلب الثاني: في قضاء الدول العربية
نظرا لحداثة تقنية ADN من جهة، واعتماد قضاء الدول العربية على الطرق التقليدية في الإثبات من جهة أخرى وكذا خلو تشريعاتها لنصوص قانونية تنظم الإثبات عن طريق الـADN وهذا ما جعل القضاء العربي يفتقر لاجتهادات في هذا المجال، إلا أن هذا لم يمنع من وجود بعض القضايا التي استعملت فيها هذه التقنية ومنها:
1- المملكة العربية السعودية:
في قضية مشهورة وقعت بالمملكة العربية السعودية تطرق إليها ممثل معمل "الأدلة الجنائية للعلماء" في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة أثناء مناقشة البصمة الوراثية، وتتلخص وقائعها فيما يلي: أن امرأة إدعت أن أباها واقعها ونتج عن ذلك حصول حمل، وكان احتمال تصديقها ضعيفا، نظرا لكون الأب في الستينات من العمر ولقوة العلاقة التي تجمعه بالضحية تم تأجيل موضوع التحليل حتى وضع الحمل لكي لا يتضرر الجنين، وعندما تم الوضع وبعد القيام بالتحاليل تبين أن الطفل لا علاقة له بالمتهم (الأب)، و الأغرب من ذلك أنه لا علاقة له بالمرأة المدعية، واتضح أن هذه القضية فيها تلاعب وأن هناك أيادي خفية وراءها، فالنفي عن المتهم لا إشكال فيه، أما النفي عن المرأة الحامل فيه تصادم مع الواقع، وبالرجوع لأسماء المواليد للذين ولدوا في نفس اليوم بالمستشفى اتضح أن عددهم بلغ 30طفلا، وعند حصر الصفات المطلوبة انحصرت في 12 طفلا، تم الاتصال بذويهم واحدا واحدا، حتى تم الوصول للطفل المطلوب و اتضح أن بصمته الوراثية دلت على ارتباطه بالمتهم (الأب)، وأن هناك طفلا لقيطا أدخل المستشفى في نفس اليوم، وعند التسليم تم التبديل بإخفاء الحقيقة(1) من خلال هذه القضية يتضح جليا استعمال هذه التقنية في المملكة العربية السعودية لمعرفة الجاني في جريمة الإغتصاب من جهة، وإلحاق نسب الإبن بأبيه من جهة أخرى، وتجلت فائدة تقنية الـADN في كشف خيوط هذه القضية.
2- الجمهورية العربية المصرية:
لعل أهم وأحدث مثال نورده في القضاء المصري، هو ذلك المتعلق بقضية تفجيرات (طابا) المصرية و التي راح ضحيتها 32 شخصا [ 11 إسرائيليا، 09 مصريين، روسية واحدة(01)،إيطاليتان(02) و09 جثث مجهولة الهوية] وتتلخص وقائع هذه القضية في تعرض فندق بطابا المصرية، لتفجيرات عنيفة، مما أدى بالنيابة العامة المصرية تفتح تحقيقا تحت إشراف المستشارماهر عبد الواحد لمعرفة ملابسات وظروف وهوية مرتكبي الحادث والضحايا، وعلى إثر ذلك أمرت النيابة بإجراء تحليل الـADN للأشلاء المدفونة من عين المكان لتحديد شخصية الجناة، وتم كذلك تحليل البصمة الوراثية للجثث ومطابقتها بالبصمة الوراثية لأهالي المفقودين للتعرف عليها لإتمام إجراءات الدفن، ومازالت تطورات هذه القضية لم تكشف ملابساتها بعد.
(1)- الدكتور: عبد الرشيد محمد آمين بلقاسم، المقال/البصمة الوراثية 16/06/2004 ،www.islamtoday.net
و بعد التحقيقات و التحريات وإجراء فحوصات الـADN ، تم التعرف على هوية الجثتين الايطاليتين، حيث أعلنت مصادر إيطالية التعرف على جثتين لإيطاليتين بعد اعتبارهما في عداد المفقودين منذ الهجوم الذي استهدف فندق هيلتون طابا في سيناء، و أشارت وكالة الأنباء الإيطالية إلى تحليل الحمض النووي للجثتين، وأوضحت أن الجثتين كانتا في مختبر تحليل في تل أبيب، وتم التحقق من هويتهما بإرسال عينات من الحمض النووي من إيطاليا، وكان والدا الشابتين صبرينا-22عاما- وجيسيكا رينودو-20 عاما- قد وصلا في وقت سابق إلى طابا على متن طائرة تابعة للحكومة الإيطالية.
كما أدت هذه التحريات و الفحوصات إلى التعرف على 07 جثث مصرية وجثة سائح روسي ومازالت التحريات متواصلة للتعرف على هوية الجثث الأخرى.
3- السودان:
عرفت دولة السودان تطبيق تقنية البصمة الوراثية(ADN) في مجال الإثبات،وسجلنا ذلك بالخصوص في القضية الشهيرة المعروفة باسم (الحصاحيصا) (1) و التي تلخص وقائعها في وجود اختلاط في هوية طفلين يبلغان من العمر يوما واحدا، حيث قامت القابلة بتسليم كل منهما إلى الأم غير البيولوجية، أي كل أم استلمت إبنا غير الذي وضعته، وبعد طرح النزاع على المحكمة أمرت هذه الأخيرة بإجراء فحص الـADN لكل من الطفلين ومطابقتها بالـADN الخاص بالوالدين وأتت نتائج التحليل بالدليل الحاسم الذي ارتاح له ضميرالمحكمة.
4- في القضاء الجزائري:
نظرا لحداثة تقنية الـADN، ولغياب نصوص قانونية تنظم هذه المسألة، فإننا ورغم بحثنا في اجتهادات المحكمة العليا لم نجد إلا قرارا واحدا ووحيدا ( أنظر القرار في الملحق) ،هو ذلك الصادر عن غرفة الأحوال الشخصية بالمحكمة العليا، ملف رقم 222674 بتاريخ 15جوان1999 قضية (ع،ب) ضد(م،ل) تحت رئاسة السيد" الهاشمي هويدي" الرئيس المقرر (رحمه الله)، والسيدان اسماعيلي عبد الكريم وأمقران المهدي المستشارين، وتتلخص وقائع هذه القضية فيما يلي:
- حيث أن المدعوان(ع ب) و(م ل) تربطهما علاقة زوجية شرعية إلا أنه حدث خلاف بينهما أدى إلى مغادرة الزوج لمسكن الزوجية يوم 14/02/1994، غير أنه ولد لهما توأمين بتاريخ 27/10/1995 أي بعد 19 عشر شهرا من مغادرة الزوج لمسكن الزوجية.
- حلت الرابطة الزوجية بين الطرفين بموجب حكم صادر عن محكمة سعيدة بتاريخ 27/01/1996.


(1)-جريدة الوفد المصرية/ مقال صادر بتاريخ 20/10/2004.، www.el.wafd.org
(2)- الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية. المحكمة العليا الجزائرية.العدد الخاص لسنة 2002، ص88.
- رفع الزوج دعوى نفي نسب التوأمين أمام محكمة (قديل) بوهران و التي أصدرت حكما بتاريخ 18/01/1998 يقضي بتعيين الدكتور "حاكم أحمد رضا" العامل بالمستشفى الجامعي بوهران خبيرا لفحص وتحليل دم الأطراف و الولدين (ع.أ) و(ع.ع) المولودين في 27/10/1995 قصد تحديد نسب الولدين.
- تم تأييد هذا الحكم بقرار صادر عن غرفة الأحوال الشخصية لمجلس قضاء وهران بتاريخ 05/10/1998.
- تم الطعن بالنقض في هذا القرار أمام غرفة الأحوال الشخصية و المواريث بالمحكمة العليا، والتي أصدرت قرارا بتاريخ 15/06/1999 و القاضي بـ:
* قبول الطعن شكلا.
* و في الموضوع/ نقض القرار و إحالته إلى نفس الجهة مشكلة من تشكيلة أخرى.
* و من بين الأوجه التي أثيرت وأسست المحكمة العليا قرارها عليها، الوجه الثالث المأخوذ من القصور في الأسباب: و ذلك أن محكمة سعيدة و بتاريخ 27/01/1996 قضت بالطلاق مما يعني أن ولادة التوأمين موضوع نزاع كانت في ظل قيام العلاقة الزوجية بين الزوجين، ذلك أن الولادة تمت يوم 27/01/1995 و تغاضت عن مسألة الفرقة بين الزوجين لمدة 19 شهرا، إذ غادر الزوج مسكن الزوجية بتاريخ 14/02/1994. و أسست المحكمة العليا رأيها اعتمادا على أحكام نص المادة 60 من قانون الأسرة(1) و التي تعني أن الانفصال المشار إليها في المادة 43 من ذات القانون (2) .
إنما هو الطلاق لا الانفصال الذي يحدث إثر خلاف بين الزوجين إذ تبقي الزوجة فراشا للزوج إلى أن يقع الطلاق و ينسب الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا، أو أمكن الاتصال و لم ينفيه الزوج بالطرق المشروعة أي اللعان ( م 41 من قانون الأسرة )(3).
* وعن الوجه التلقائي المثار من المحكمة العليا و المأخوذ من تجاوز السلطة:
و المتعلق بتعيين خبير قصد تحليل دم التوأمين و الأطراف لتحديد نسب الولدين حيث جاء في القرار " حيث أن إثبات النسب قد حددته المادة 40(4) و ما بعدها من قانون الأسرة، الذي جعل له قواعد إثبات مسطرة وضوابط محددة تعنى بكل الحالات التي يمكن أن تحدث.




(1)- نص المادة 60 من القانون رقم 84/11 المؤرخ في 09/يونيو/1984المتضمن المتضمن "قانون الأسرة"
المادة 60 " عدة الحامل وضع حملها، وأقصى مدة الحمل عشرة(10) أشهر من تاريخ الطلاق أو الوفاة"
(2)- نص المادة 43 " ينسب الولد لأبيه إذ وضع الحمل خلال عشرة (10)أشهر من تاريخ الانفصال أو الوفاة"
(3)- نص المادة 41 " ينسب الولد لأابيه متى كان الزواج شرعيا وأمكن الاتصال و لم ينفه بالطرق المشروعة "
(4)- نص المادة 40 " يثبت النسب بالزواج الصحيح و بالإقرار و بالبينة و بنكاح الشبهة و بكل نكاح تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32و33و34 من هذا القانون"
و لم يكن من بين هذه القواعد تحليل الدم الذي ذهب إليه قضاة الموضوع، فدل ذلك على أنهم قد تجاوزا سلطتهم الحاكمية إلى التشريعية الأمر الذي يتعين معه نقض القرار المطعون فيه و إحالته لنفس المجلس"
و أضاف قضاة المحكمة العليا " من المقرر قانونا أيضا أنه يثبت النسب بالزواج الصحيح، وبالإقرار و بالبينة وبنكاح الشبهة وبكل نكاح تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32، 33، 34 من قانون الأسرة"
من كل ما سبق ذكره تبين أن السادة قضاة المحكمة العليا بصفتهم قضاة قانون طبقوا النص الحرفي للمادة 40 من قانون الأسرة التي تحدد طرق إثبات النسب، وبذلك فإن قضاة المحكمة العليا، عند نقضهم لقرار المجلس اعتبروا أن قضاة الموضوع قد تجاوزا سلطتهم عندما قضوا بإجراء خبرة طبية، وبذلك يكونوا قد انتقلوا من سلطة إصدار الأحكام إلى سلطة التشريع ومن هنا نتساءل:
س/ كيف انتهى قضاة الدرجة الأولى والثانية إلى تكوين قناعتهم بأن إجراء تحليل دم التوأمين هو الحل الوحيد و الوسيلة المجدية الكفيلة بإثبات نسبهما، رغم دراية قضاة الموضوع بفحوى نص المادة 40 من قانون الأسرة ؟ .
س/ وهل يمكن القول بأن نص المادة 40 من قانون الأسرة تعطي عدة تفسيرات عند تطبيقها ؟
س/ وهل اعتبر قضاة الموضوع أن تحليل الدم من قبيل البينة التي يثبت بها النسب ؟
إن هذه الإشكالات المطروحة تؤدي بنا لا محالة إلى الحديث عن التقنين الذي يظم المادة 40 وهو قانون الأسرة، و التي أخذت مجمل نصوصه من أحكام الشريعة الإسلامية و بالعودة إلى المادة 40 نجد أنها حددت أساليب إثبات النسب بصفة واضحة و دقيقة لا تثير إشكالات إلا فيما يخص الإثبات عن طريق البينة، فهل يقصد بها شهادة الشهود فقط ؟ أم كل ما يظهر الحق ؟
بالعودة للقانون المدني، يقصد بالبينة شهادة الشهود غير أن أحكام قانون الأسرة مستمدة من الشريعة الإسلامية. و بالعودة إلى هذه الأخيرة نجد أن البينة لم تأت في الكتاب و السنة محصورة في الشهادة و الإقرار فقط بل كل ما أظهر الحق و كشفه فهو بينة مصداقا لقوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه الصلاة و السلام مع فرعون " قد جئتكم ببينة من ربكم، فأرسل معي بني اسرائيل " قال إن كنت جئت بآية فآت بها إن كنت من الصادقين* فألقى عصاه فإذ هي ثعبان مبين* ونزع يده فهي بيضاء للناظرين" (1)




(1)- الآية 105 - 108 من سورة الأعراف
و قال ابن القيم الجوزيه: " فالبينة اسم لكل ما يبين الحق و يظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة... أو الشاهد و المرأتين لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراد بها الشاهدان وإنما أتت مراد بها، الحجة و الدليل و البرهان مفردة و مجموعة، و كذلك قول النبي صلوات الله عليه و سلم: "البينة على من ادعى" و المراد به أن على المدعي أن يقدم ما يصحح دعواه.
و لشاهدان من البينة و ليس كل البينة، و لا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها،كدلالة الحال على صدق المدعي فإن أقوى من دلالة إخبار الشاهد والبينة و الدلالة و الحجة و البرهان و الآية و التبصرة و العلامة و الأمارة متقاربة في المعنى...."(1)
فهذه الأدلة و غيرها دالة على أن الحق إذا تبين بأي وجه كان الأخذ به هو المتعين، ولاشك أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة، فالشهادة يمكن أن يعتريها الوهن أو الكذب و الإقرار يمكن أن يكون باطلا يقع لغرض من الأغراض، ومع هذا تعتبر الشهادة و الإقرار ببينة شرعية يؤخذ بهما لكونهما مبنيان على غلبة الظن.
وإذا سلمنا أن نتائج البصمة الوراثية قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين ونفيهم عنهم.
و لو نظرنا إلى واقع ثبوت النسب بالشهادة و كونها تبنى على غالبية الظن و يكفي فيها الإستفاضة و الشهرة مع وجود الإحتمال و الخطأ مع واقع البصمة التي لا تكاد نتائجها تخطئ في ذاتها، و الخطأ الوارد فيها يرجع إلى الجهد البشري، أو عوامل التلوث، أو نحو ذلك، نستطيع أن نجزم أن البصمة الوراثية حجة شرعية يجب العمل بمضمونها إذا توافرت شروطها.
ومن تأمل مقاصد الشريعة والعدل و الحكمة التي قامت عليها الأحكام يظهر جليا رجاحة هذا الأمر .
و يضيف العلامة ابن القيم الجوزية: " فإذا ظهرت أمارات العدل و اسفر وجهه بأي طريق كان، فتم شرع الله ودينه، والله أعلم و أحكم و أعدل أن يخص طرق العدل و أماراته و علاماته بشيء، تم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة و أبين أمارة فلا يجعله منها و لا يحكم عن وجودها و قيامها بموجبها، بل يبين سبحانه وتعالى في شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل و القسط فهي من الدين وليست مخالفة له" (2)
ما سلف ذكره من شواهد مستقاة من الكتاب و السنة و الفقه الإسلامي تؤكد على مصطلح البينة لا يقتصر على شهادة الشهود بل يتعداها إلى كل ما يؤدي إلى إظهار الحقيقة و إقامة


(1) د. عبد الرشيد محمد الأمين بن قاسم (البصمة الوراثية) في:16/06/2004.www.islamtoday.net.
(2)- مؤلف ابن القيم الجوزية" الطرق الحكمية ، ص19"
القسط جزما و قد سبق أن بينا أن البصمة الوراثية تؤدي إلى إظهار الحقيقة بصفة قطعية وجازمة فإنه يمكن القول أن تقنية تحليل الدم تعتبر بينة صالحة للإثبات.
ولعل هذا ما أدى بقضاة الدرجة الأولى بمحكمة قديل ومستشاري غرفة الأحوال الشخصية بمجلس قضاء وهران إلى تعيين خبير لتحليل دم التوأمين لإثبات نسبهما لأبيهما من عدمه لإعتبار أن تحليل الدم بينة يثبت بها النسب.
و هذا ما اعتبره قضاة المحكمة العليا تجاوزا للسلطة و انتقال من السلطة الحكمية للسلطة التشريعية غير أننا نرى أن قضاة الموضوع لم يجانبوا القانون بل استعملوا سلطتهم في تفسير القانون ففسروا " البينة " الواردة في المادة 40 بمفهومها الواسع، هذا من الناحية القانونية.
أما إذا نظرنا إليها من الناحية العلمية و المنطقية فإنه يمكن اعتبار المبادرة التي قام بها قضاة الموضوع لتحديد نسب التوأمين عن طريق تحليل الدم(أي معرفة مكونات ADN لكل منهما) خطوة ايجابية، فمشكلة إثبات النسب تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية حقوق الطفل أكثر مما هي معرفة نسبه، لذلك يجب مواكبة التطور الذي تعرفه التشريعات الغربية و نقول أنه إذا لم نعط تفسيرا واسعا للمادة 40 من قانون الأسرة، على أنه يتضمن تقنية تحليل الدم كبينة لإثبات النسب فإننا نتطلع مستقبلا و تماشيا مع تطور البحث العلمي في الطب و بما وصل إليه من وضع تحاليل علمية دقيقة، لا يرقى الشك إليها بينت بصفة جلية العلاقة البيولوجية بين المولود ووالديه، إلى ضرورة إدراج هذه الطرق الحديثة (البصمة الوراثية) في أساليب إثبات النسب في الحالات التي تعجز أدلة الإثبات التقليدية للكشف عنها، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية المستجدات العلمية و التكنولوجية المستعصية في إثبات النسب في بعض حالاته.
وختاما نجد أن الدول العربية قد تطورت بها أبحاث البصمة الوراثية. حيث أوصى المؤتمر العربي الثالث لرؤساء أجهزة المخابر الجهوية المنعقدة في عمان بتاريخ 10/12/1993 على تضمين تصنيف السوائل البيولوجية بنظام تصنيف الحامض النووي ADN و مدى إمكانية الإستفادة منها في مجال العدالة الجنائية بالدول العربية (1).







(1)- الدكتور: منصور عمر المعايطة " الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي"، المركز الوطني للطب الشرعي – عمان- طبعة 2000، ص79.





إن العلم يتقدم تقدما مذهلا في السنوات الحالية حتى يمكن أن يقال إنه تقدم في ربع القرن الحالي بما يعادل تقدم البشرية في تاريخها الطويل كله، و في مجال الوراثة خصوصا.
و تعتبر قضايا إثبات النسب مشكلة اجتماعية خطيرة تشغل اهتمام الكثير من العلماء في جميع أنحاء العالم، فضلا علي أنها مشكلة قضائية تستغرق سنوات طويلة أمام المحاكم، و يخطىء من يظن أن عملية الحسم في هذه القضايا تتم بسهولة بمجرد عمل تحليل طبي، فهناك فحوص و كشوفات طويلة على ثلاث أطراف: الأم، الأب و الطفل، و للتأكيد من قدرة كل من الزوجة و الزوج على الإنجاب خلال فترة إنجاب الطفل أو ادعاء الحمل فيه.
و على الرغم من مرور وقت قصير على اكتشاف بصمة الجينات إلا أنها استطاعت عمل تحول سريع من البحث الأكاديمي إلى العلم التطبيقي، الذي يستخدم حول العالم و خصوصا في الحالات التي عجزت وسائل الطب الشرعي التقليدية التي لا نجد لها حلا مثل قضايا إثبات النبوة و الاغتصاب و جرائم السطو و التعرف على ضحايا الكوارث و سوف نتطرق إلى المجالات القانونية للبصمة الوراثية و حجيتها كمبحث أول و إلى المجالات الأخرى للبصمة الوراثية كمبحث ثاني.


















I )- المبحث الأول : المجالات القانونية للبصمة الوراثية :
تعتبر مسألة البصمة الوراثية و مدى الاحتجاج بها من القضايا المستجدة التي اختلف فيها فقهاء العصر إذ تعتبر حجة يعتمد عليها كليا أو جزئيا لمعرفة حقيقة الأمور و المعطيات.

المطلب الأول : الأساليب الوراثية لإثبات النسب و الجرائم الجنسية :
لقد شاع استعمال البصمة الوراثية في الدول الغربية و قبلت بها عدد من المحاكم الأوروبية و بدأ الاعتماد عليها مؤخرا في البلدان الإسلامية و نسبة أعمال الإجرام لأصحابها من خلالها لذا كان من الأمور المهمة للقضاة معرفة حقيقة البصمة الوراثية و مدى حجيتها في إثبات النسب و الجرائم الجنسية.
الفرع الأول: إثبات النسب:
تعتبر مشكلة إثبات النسب من المشكلات الاجتماعية التي تشغل اهتمام الفقهاء و القضاة، ومع التقدم العلمي المذهل في تطبيقات الهندسة الوراثية باتت قضية إثبات النسب بالبصمة الورااثية و تداعياتها من القضايا التي تحتاج إلى اجتهاد فقهي عاجل.


















و النسب في اللغة يطلق على معان عدة، أهمها: القرابة و الالتحاق، نقول: فلان يناسب فلانا فهو نسيبه، أي قريبه و يقال: نسبه في بني فلان، أي قرابته فهو منهم نقول انتسب إلى أبيه، أي التحق به و قيل: إن القرابة في النسب لا تكون إلا للآباء خاصة. (1)
وتنحصر أسباب النسب في الإسلام في أصلين هما: النكاح و الاستيلاء لقوله تعالى:
" و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ( سورة النساء: الآية 23). فدل على أن الإبن لا يكون إبنا إلا أن لا خلاف بين الفقهاء أن النسب الشرعي لا يثبت في حال تصادم النسب مع الواقع الحسي كما لو ادعت المرأة نسب طفل لزوجها الصغير الذي لا يولد لمثله وكذا لو أتت به قبل مضي ستة أشهر من الزواج.
ويثبت النسب في الشريعة الإسلامية بالطرق التالية:
أ- الفراش:
و هو يعتبر تعبير مهذب عن حالة اجتماع الرجل بالمرأة حيث تكون المرأة كالفراش لزوجها، ولما كان التحقق من حالة (الجماع) بين الزوجين شبه متعذر لكونها مبنية على الستر اكتفى الجمهور بمظنة الدخول خلافا للحنفية الذين اكتفوا بعقد النكاح واعتبروا المرأة فراشا لزوجها يثبت به النسب وذهب بعض المتأخرين كابن تيمية وابن القيم إلى اشتراط الدخول المحقق وعدم الاكتفاء بمظنة الدخول.
ولا شك أن الأول أولى فعامة أحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن وإثبات الدخول المحقق في كل حالة متعذر، وإثبات النسب عن طريق الفراش مجمع عليه بين الفقهاء لقوله-صلى الله عليه وسلم-: " الولد للفراش "
ب- الإستلحاق:
وذلك بأن يقر المستلحق بأن هذا الولد ولده أو أن هذا أخوه أو أبوه وغير ذلك، وقد اشترط العلماء للاستلحاق شروطا أبرزها أن المقر له بالنسب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقر، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره لاستحالة ذلك عادة وعقلا.
فهل هذا الشرط يمكن تنزيله على البصمة الوراثية ؟ هذا ما سيأتي الإجابة عليه في الصفحات التالية :
ج- البينة:
و قد أجمع الفقهاء على أن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه ويكفي في ذلك الاستفاضة بمعنى الشهادة بالسماع بأن يشتهر الأمر بين الناس حتى يصير معروفا بينهم ويقول جمع كبير من الناس سمعنا أن فلانا ابن فلان...



(1)-http/www.islamonline.net/101-arabic/qadava/qd2as-ednrefl
د- القيافة:
وهي مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه، يقال: فلان يقوف الأثر ويقتافه و القائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه، والمراد بها هنا الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود.
وقد ذهب الحنفية إلى أن القيافة لا يلحق بها النسب لأنها ضرب من الظن و التخمين بينما ذهب جمهور العلماء بالأخذ بها لدلالة السنة والآثار عليها، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض"
فدل أن الابن إبنا إلا أن يكون من الصلب لقوله تعالى: " و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" سورة المؤمنون، الآيات 5-7
وجه الدلالة:
أن سرور الرسول – صلى الله عليه وسلم – دال على إقراره بالقيافة وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يسمع باطلا فيقره أو يسكت عنه.
هـ - القرعة:
وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجري القرع وهذه أضعف الطرق ولم يأخذ بها جمهور العلماء وهو مذهب الظاهرية وإسحاق ورواية عند الحنابلة وكذا المالكية في أولاد الإماء.
وهذه الطريقة غير معمول بها في هذا الزمان بفضل الله ثم التقدم العلمي في مجال تحليل الدم و البصمة الوراثية إذ شاعت واستقر العمل بها في مجال التنازع في النسب، ولا ريب أن القرعة لا يصار إليها لوجود الدليل المرجح.
II- طرق إثبات النسب في التشريع:
إن أهم ما يترتب عن الزواج من آثار هو إثبات نسب المولود إلى والده، وإذا كان نسب الولد إلى أمه ثابت بسبب الحمل المرئي و الولادة المعلومة بقطع النظر عن كونه ولدا شرعيا أو ولد زنا فإن نسبته إلى والده ليس دائما سهلا كسهولة نسبه إلى والدته، ذلك أن الشريعة الإسلامية لم تجعل من طريقة إثبات نسب شخص إلى والده إلا طريقة الزواج الصحيح، الزواج الفاسد، الوطء بشبهة أو الإقرار أو البينة، وأبطلت إثبات النسب عن طريق التبني (adoption (، وتضمنت المادة 40 من قانون الأسرة هذه الطرق أضافت إليها كل نكاح تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد/32-33-34 من هذا القانون و نوردها كما يلي:


1- ثبوت النسب بالزواج الصحيح:
إن الولد يمكن أن ينسب إلى والده من الزواج الصحيح، متى كان هذا الزواج شرعيا، ومتى أمكن الاتصال بين الزوجين، ولم يكن الزوج قد نفاه بالطرق المشروعة "الملاعنة " ، ومتى حصلت ولادته خلال أقل مدة الحمل التي هي بستة شهور (06)، وأكثرها (10) عشرة شهور ، وعليه فإن إثبات النسب بهذه الطريقة يتطلب توافر ثلاث شروط وهي:
• إمكانية الاتصال الجنسي بين الزوجين.
• عدم نفي الولد بالطرق الشرعية ( اللعان)
• ولادة الولد بين أدنى وأقصى مدة الحمل.
2- ثبوت النسب بالزواج الفاسد:
لقد ورد النص في المادة 40 من قانون الأسرة على أنه " يثبت النسب..... وبكل نكاح تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32-33-34 من هذا القانون" ومن مراجعة هذه المواد يتضح لنا جليا أن الأولى نصت على فسخ النكاح أي فساده إذا اختل أحد أركانه، أو اشتمل على مانع أو شرط يتنافى ومقتضيات العقد، أو ثبت ردة الزوج، وأن الثانية قد نصت على أنه إذا تم الزواج بدون ولي أو صداق أو شاهدين، يفسخ قبل الدخول و لا صداق فيه، ويثبت بعد الدخول بصداق المثل، ويبطل إذا اختل أكثر من ركن واحد، والثالثة نصت على أن الزواج بإحدى المحرمات يفسخ قبل الدخول وبعده، وعلى هذا الأساس يمكن الإستخلاص في ثلاث حالات ونوردها كما يلي:
أولا: إذا علمنا أن هذا العقد قد وقع بدون ولي أو بدون حضور الشاهدين على الأقل أو بدون تسمية الصداق أو إغفاله عمدا ولم يكتشف أمره إلا بعد الدخول.
فإن هذا العقد يثبت ويبقى و يترتب عليه ما يترتب على الزواج الصحيح من صداق المثل، وثبوت النسب، والتوارث بين الزوجين وكذا الأبناء.
ثانيا: أما إذا كان الزواج قد انعقد مع احدى المحرمات عن حسن نية أو ثبت ردة الزوج المسلم منهما وخروجه عن الإسلام أو كفره بعد إسلامه، فإن العقد يفسخ ولو بعد الدخول ويترتب عليه ثبوت نسب الولد إلى أبيه إذا جاءت به أمه بعد ستة(06) شهور على الأقل، وقبل انقضاء عشرة (10) شهور على الأكثر ابتداء من تاريخ الدخول أو الخلوة الصحيحة وليس من تاريخ العقد.
ثالثا: الزواج الذي عقد بحسن نية وبدون حضور شاهدين أو ولي أو كرها أو بدون تسمية صداق أو على إحدى المحرمات قد أكتشف أمره قبل الدخول، فإن عقد الزواج يفسخ حالا بحكم من المحكمة بناء على طلب من يعنيه الأمر، ولا ينتج عنه أي أثر.
3- ثبوت النسب بنكاح الشبهة:
هو نكاح يقع خطأ بسبب غلط يقع فيه الشخص، وهو إن كان يحتمل وجوده قبل سنين خلت فإن اليوم يعتبر في حكم الأحداث قليلة الوقوع، كأن يتزوج إنسان امرأة زواجا صحيحا في البداية على اعتقاد أنها حل له وهو حل لها، ثم يتضح بعد الدخول أنها أخته من الرضاع مثلا: " فإذا جاءت هذه الزوجة بولد ينسب إلى الزوج" وإذا جاءت به بعد مرور (10) شهور من تاريخ الفسخ و التفريق بين الزوجين، فلا يمكن إلحاقه بالزوج، هذا كله إذا كان الزوج يجهل أنها أخته من الرضاع.
أما إذا كان كل واحد منهما يعلم به مسبقا، فالزواج باطلا و لا اثر له و الولد يعتبر في هذه الحالة "ولد زنا".
4- ثبوت النسب بالإقرار:
جاء في المادة 44 من قانون الأسرة، وإثبات النسب بالإقرار لا يجوز اعتماده أو الحكم به إلا مع توفر شروط محددة، نوردها على العموم كما يلي:
أ‌) كون الولد المقر أو المعترف به مجهول النسب.
ب( شرط إمكانية أن يولد مثله للمقر.
ج( شرط عدم كون الولد المعترف به مولد من زنا.
د) شرط ثبوت وجود علاقة زواج سابق لتاريخ الإقرار.
ه) شرط تصديق المعترف به لادعاء المقر إذا كان راشد (أي الولد)
5- ثبوت النسب بالبينة:
المقصود بالبينة كل حجة أو دليل يؤكد واقعة مادية وجودا حقيقيا بواسطة السمع أو البصر أو غيرهما من وسائل الإثبات القانونية و الشرعية مما ورد النص عليها في قوانين الإجراءات أو لم يرد.
و لا يمكن تصور هذه الحالة إلا حين يكون الزوج و الزوجة قد جمع بينهما عقد زواج صحيح أو فاسد، أما إذا كانت قد جمعت بينهما علاقة غير شرعية و لا قانونية، ونتج عنها ولد، ثم وقع النزاع بشأن واقعة ولادته أو بشأنه هو في ذاته، فلا يمكن إثبات نسبه إلى أي شخص بأية بينة كانت و لا يمكن تسجيله على لقبه أو باسمه في سجلات الحالة المدنية، باستثناء إسناد نسبه إلى والدته و بتسجيله تبعا لاسمها ولقبها دون أن يحمل لقبها كلقب له.
6- ثبوت النسب بعد الطلاق أو الوفاة:
بمعنى أن الولد يلحق بالزوج المطلق أو المتوفي عن زوجته إذا ولد قبل عشرة (10) أشهر كاملة من يوم الطلاق و التفريق الفعلي بين الزوجين أو من يوم الوفاة، وهذا هو الشرط الواحد و الوحيد الذي وضعه المشرع في مثل هذه الحالات.
هل البصمة يثبت بها النسب ؟
ذهب العلماء المعاصرون إلى اعتبار " البصمة" الوراثية طريقا من طرق إثبات النسب من حيث الجملة و اختلفوا في بعض القضايا الفرعية وقد جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
أ- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة و نحوه.
ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال و اختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحرب و المفقودين"
وقد رأى عدد كبير من الباحثين قياس البصمة الوراثية على القيافة من باب أولى أو اعتبارها قرينة قوية و التي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود و قد جاء في توصية ندوة الوراثة و الهندسة الوراثية المنبثقة عن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: " البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية و التحقق من الشخصية، ولاسيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطورا عصريا عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى"
و من خلال التوصية السابقة و البحوث المقدمة في هذا المجال نجد أن فريقا من الفقهاء يرى قياس البصمة الوراثية على القيافة وأن الأحكام التي تثبت بالقيافة تثبت في البصمة الوراثية، ويظهر أن هذا القياس بعيد للأمور التالي:
1- أن البصمة الوراثية قائمة على أساس علمي محسوس فيه دقة متناهية و الخطأ فيه مستبعد جدا، بخلاف القيافة و التي تقوم على الاجتهاد و الفراسة و هي مبنية على غلبة الظن و الخطأ فيها وارد ففرق بين ما هو قطعي محسوس و بين ما بني على الظن و الاجتهاد.
2- أن القيافة يعمل بها في مجال الأنساب فقط بخلاف البصمة الوراثية فهي تتعداها لمجالات أخرى كتحديد الجاني وتحديد شخصية المفقود.
3- أن القيافة تعتمد على الشبه الظاهر في الأعضاء كالأرجل و فيها قدر من الظن الغالب، أما البصمة الوراثية فهي تعتمد اعتمادا كليا على بنية الخلية الجسمية الخفية و هي تكون من أي خلية في الجسم ونتائجها تكون قطعية لكونها مبنية على الحس و الواقع.
4- أن القيافة يمكن أن يختلفوا، بل العجيب أنهم يمكن أن يلحقوا الطفل بأبوين لوجود الشبه فيهما، أما البصمة فلا يمكن أن تلحق الطفل بأبوين بتاتا ويستبعد تماما اختلاف نتائج البصمة الوراثية و لو قام بها أكثر من خبير فالقياس بعيد فهذا باب وهذا باب.
و بناء على ما تقدم فالقيافة باب و البصمة الوراثية باب آخر وهو يعتبر بينة مستقلة أو قرينة قوية يؤخذ بها في الحكم الشرعي إثباتا و نفيا و ذلك للأمور التالية:
1- أن البينة لم تأت في الكتاب و السنة محصورة في الشهادة و الإقرار فقط بل كل ما أظهر الحق وكشفه فهو بينة قال تعالى في قصة موسى مع فرعون: " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني اسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين* فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين* ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين".
وجه الدلالة:
قال ابن القيم: " فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره و من خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد و المرأتين لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة و الدليل و البرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: " البينة على المدعي" المراد به: أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، و الشاهدان من البينة، و لا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، و البينة و الدلالة و الحجة و البرهان و الآية و التبصرة و العلامة و الأمارة متقاربة في المعنى... فالشرع لم يلغ القرائن و الأمارات و دلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالإعتبار، مرتبا عليها الأحكام"(1).
2- قوله تعالى: " وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد م قبل فصدقت و هو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم".
أن موضع قد القميص اعتبر دليلا على صدق أحدهما و تبرئة الآخر وسمى الله ذلك شهادة.
3- في قصة فتح خيبر قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعم حيي ابن أخطب: " فعل مسك بن حيي الذي جاء به من النضير؟ قال أذهبته النفقات و الحروب، قال: العهد قريب و المال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى الزبير فمسه بعذاب فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة" (2).
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- عمل بالقرينة العقلية واعتد بها فكثرة المال و قصر المدة فيه دلالة على الكذب، وقد اعتد بهذا الدليل وأمر بضربه وحاشاه أن يأمر بضربه بلا حجة لأنه نوع من الظلم وهذا مستبعد في حقه- صلى الله عليه وسلم- فدل ذلك على اعتبار القرينة و العمل بموجبها.


(1)- أنظر الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية، ص16.
(2)- أخرجه أبو داود(14) كتاب الخراج والأمارة(24) باب ما جاء في حكم أرض خيبر برقم 3006.



فهذه الأدلة وغيرها دالة على أن الحق إذا تبين بأي وجه كان الأخذ به هو المتعين، ولا شك أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة، فالشهادة يمكن أن يتطرق إليها الوهم و الكذب وكذا الإقرار يمكن أن يكون باطلا ويقع لغرض من الأغراض ومع هذا تعتبر الشهادة و الإقرار بينة شرعية يؤخذ بهما لكونهما مبنيتان على غلبة الظن.
وإذا علمنا أن نتائج البصمة الوراثية قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهم(1)، و في إسناد العينة(من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها بشهادة مختصين تعين الأخذ بها واعتبارها بينة مستقلة يثبت بها الحكم نفيا أو إثباتا.
و لو نظرنا إلى واقع ثبوت النسب بالشهادة وكونها تبنى على غلبة الظن ويكفي فيها الاستفاضة و الشهرة مع وجود الاحتمال بالخطأ مع واقع البصمة التي لا تكاد نتائجها تخطئ في ذاتها، و الخطأ الوارد فيها يرجع إلى الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك نستطيع أن نجزم بأن البصمة الوراثية حجة شرعية يوجب العمل بمضمونها إذا توفرت شروطها.
و من تأمل مقاصد الشريعة و العدل و الحكمة التي قامت عليها الأحكام ظهر جليا رجحان هذا الأمر قال ابن القيم:
" فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل و القسط فهي من الدين ليست مخالفة له"
ضوابط إجراء تحليل البصمة الوراثية:
اشترط الفقهاء الباحثين والأطباء المختصين في البصمة الوراثية شروطا عديدة حتى تقبل.
و الذين رأوا أنها تقاس على القيافة اشترطوا شروط القيافة مع بعض الزيادات، والشروط الواجب توفرها مايلي:
1- أن لا يتم التحليل إلا بإذن من الجهة المختصة.
2- يفضل أن تكون هذه المختبرات تابعة للدولة وإذا لم يتوفر ذلك يمكن الاستعانة بالمختبرات الخاصة الخاضعة لإشراف الدولة، ويشترط على كل حال أن تتوافر فيها الشروط و الضوابط العلمية المعتبرة محليا وعالميا في هذا المجال.
3- يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق به علما وخلقا, ان لا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعين أو حكم عليهم بحكم مخل بالشرف أو بالأمانة.


(1)- البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ، وهبة الزحيلي، ص6
4- أن يجري التحليل في مختبرين على الأقل معترف بهما، على أن تؤخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة أحد المختبرات التي تقوم بإجراء الاختبار بنتيجة المختبر الآخر.
5- توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية بدءا من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية حرصا على سلامة تلك العينات، وضمانا لصحة نتائجها مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة.
6- عمل البصمة الوراثية بعدد أكبر من الطرق و بعدد أكبر من الأحماض الأمينية لضمان صحة النتائج.
7- أن يجري اختبار البصمة الوراثية مسلم عدل، لأن قوله شهادة، وشهادة غير المسلم لا تقبل على المسلم إلا الوصية في السفر ونحوه.
هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟
اللعان:
شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج و بالغضب من جانب الزوجة.
القول الأول :
وقد شرع اللعان لدرء الحد عن الزوج إذا قذف زوجته بلا شهود أو أراد قطع نسب الحمل أو الطفل المولود عنه، وهي أيضا حماية وصيانة لعرض الزوجة ودفعا للحد عنها.
و الطريقة التي جاءت بها النصوص الشرعية لنفي النسب هو اللعان.
فهل يصح نفي النسب بالبصمة الوراثية إذا جاءت النتائج تؤكد ذلك و يكتفي بها أم لابد من اللعان أيضا ؟
اختلف الفقهاء المعاصرون في صحة نفي النسب بالبصمة الوراثية فقط دون اللعان و يمكن تلخيص آرائهم على النحو التالي:
1- لا ينتفي النسب الشرعي الثابت بالفراش (الزوجية) إلا باللعان فقط، ولا يجوز تقديم البصمة الوراثية على اللعان.
وهذا القول عليه عامة الفقهاء المعاصرين ومنهم علي محي الدين، القرداعي، وعبد الستار فتح الله سعيد، ومحمد الأشقر.
وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة وجاء فيه " لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي نسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان"
القول الثاني:
يمكن الاستغناء عن اللعان والاكتفاء بنتيجة البصمة الوراثية إذا تيقن الزوج أن الحمل ليس منه.
وهذا الرأي ذهب إليه محمد المختار السلامي، ويوسف القرضاوي، وعبد الله محمد عبد الله.

القول الثالث:
إن الطفل لا ينفي نسبه باللعان إذا جاءت البصمة الوراثية تؤكد صحة نسبة للزوج ولو لاعن، وينفى النسب باللعان فقط إذا جاءت البصمة تؤكد قوله وتعتبر دليلا تكميليا.
وهذا الرأي ذهب إليه ناصر فريد واصل، وعليه الفتوى بدور الإفتاء المصرية.
القول الرابع:
إذا ثبت يقينا بالبصمة الوراثية أن الحمل أو الولد ليس من الزوج فلا وجه لإجراء اللعان و ينفى النسب بذلك، إلا أنه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال أن يكون حملها بسبب وطء شبهة، وإذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية أو الولد من الزوج وجب عليه حد القذف.
وهذا الرأي ذهب إليه سعد الدين هلالي.
الأدلة:
أولا: استدل القائلون بأن النسب لا ينفي إلا باللعان فقط بمايلي:
1-قوله تعالى:"و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين*و الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين* و يدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين*و الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين*"
أن الآية ذكرت أن الزوج إذا لم يملك الشهادة إلا نفسه فيلجأ للعان، وإحداث البصمة بعد الآية تزيد على كتاب الله " ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمغة مني فأقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي عهد إلى فيه فقام عبد بن زمغة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا(تدافعا) إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إليه فيه، فقال عبد بن زمغة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- هو لك يا عبد بن زمغة الولد للفراش و للعاهر الحجر ثم لسودة بنت زمغة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله(1)
ب/ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أهدر الشبه البين وهو الذي يعتمد على الصفات الوراثية و أبقى الحكم الأصلي و هو " الولد للفراش" فلا ينفى النسب إلا باللعان فحسب.
3- حديث ابن عباس في قصة الملاعنة وفيه:" أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خد لج الساقين فهو لشريك بن سحماء....فجاءت به كذلك فقال الـنبي صلى الله عليه وسلم" لولا ما قضي من كتاب الله لكان لي و لها شأن".


1)- أخرجه البخاري (85) كتاب الفرائض (18) باب الولد للفراش، رقم 6749 و مسلم (17) كتاب الرضاع (10) باب الولد للفراش و توفي الشبهات رقم 1457 و فيه لفظ "فرأى شبها بينا بعتبة "
ج/ قال عبد الستار فتح الله:" إذا نفى الزوج ولدا من زوجته ولد على فراشه فلا يلتفت إلى قول القافة و لا تحليل البصمة الوراثية لأن ذلك يعارض حكما شرعيا مقررا و هو إجراء اللعان بين الزوجين، ولذلك ألغى رسول الله – صلى الله عليه و سلم ( دليل الشبه) بين الزاني و الولد الملاعن عليه.... و دليل ( الشبه) الذي أهدره رسول الله – صلى الله عليه و سلم– هنا يعتمد على الصفات الوراثية فهو أشبه بالبصمة الوراثية و مع ذلك لم يقو على معارضة الأصل الذي نزل به القرآن في إجراء اللعان"
و قال ابن القيم تعليقا على الحديث السابق أن فيه "إرشاد منه – صلى الله عليه و سلم – إلى اعتبار الحكم بالقافة، و أن للشبه مدخلا في معرفة النسب، و إلحاق الولد بمنزلة الشبه، و إنما لم يلحق بالملاعن لو قدر أن الشبه له، لمعارضة اللعان الذي هو أقوى منه الشبه له "(1)
4- إن الطريق الشرعي الوحيد لنفي النسب هو اللعان و لو أن الزوجة أقرت بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج لقوله صلى الله عليه و سلم "الولد للفراش و للعاهر الحجر " ولا ينتفي عنه إلا باللعان، ثم كيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة.
5- إننا لا نستطيع أن نعتمد على البصمة فحسب ونقيم حد الزنا على الزوجة، بل لابد من البينة، فكيف تقدم البصمة على اللعان ولا نقدمها على الحد.
ثانيا: أدلة القائلين باعتبار البصمة الوراثية:
1- قوله تعالى: " و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم.."
أن اللعان يكون عندما ينعدم الشهود و ليس ثمة شاهد إلا الزوج فقط حينئذ يكون اللعان.
أما إذا كان مع الزوج بينة كالبصمة الوراثية تشهد لقوله أو تنفيه فليس هناك موجب للعان أصلا لاختلال الشرط في الآية.
2- أن الآية ذكرت درء العذاب، ولم تذكر نفي النسب و لا تلازم بين اللعان و نفي النسب، فيمكن أن يلاعن الرجل و يدرأ عن نفسه العذاب و لا يمنع أن ينسب الطفل إليه إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية.
3- قوله تعالى: " وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم".
هـ) أن شق القميص من جهة معينة اعتبرت نوعا من الشهادة و البصمة الوراثية تقوم مقام الشهادة.



(2)- أنظر: زاد المعاد لبن القيم 5/362.
4- إن نتائج البصمة يقينية قطعية لكونها مبنية على الحس، وإذا أجرينا تحليل البصمة الوراثية وثبت أن الطفل من الزوج وأراد أن ينفيه، فكيف نقطع النسب ونكذب الحس و الواقع ونخالف العقل، و لا يمكن البتة أن يتعارض الشرع الحكيم مع العقل السليم في مثل هذه المسائل المعقولة المعنى و هي ليست تعبدية، فإنكار الزوج وطلب اللعان بعد ظهور النتيجة نوع من المكابرة و الشرع يتنزه أن يثبت حكما بني على المكابرة.
5- أن الشارع يتشوف إلى إثبات النسب رعاية لحق الصغير ومخالفة البصمة لقول الزوج في النفي يتنافى مع أصل من أصول الشريعة في حفظ الأنساب، وإنفاذ اللعان مع مخالفة البصمة لقول الزوج مع خراب الذمم عند بعض الناس في هذا الزمان وتعدد حالات باعث الكيد للزوجة يوجب عدم نفي نسب الطفل إحقاقا و باعثا لاستقرار الأوضاع الصحيحة في المجتمع.
الترجيح:
قبل ذكر القول الراجح يجدر بنا أن أشير إلى النقاط التالية:
1- لا خلاف بين الفقهاء في أن الزوج إذا لاعن ونفي نسب الطفل وجاءت النتيجة تؤكد قوله، فإن النسب ينتفي و يفرق بينهما لكن الزوجة لا تحد لوجود شبهة اللعان و" الحدود تدرأ بالشبهات"
2- لا خلاف بين الباحثين في المسألة لو أن الزوجين رضيا بإجراء البصمة قبل اللعان للتأكد وإزالة الشبهة فإن ذلك يجوز في حقهما، بل استحسن بعض الفقهاء عرض ذلك على الزوجين قبل اللعان.
ويظهر لنا أن البصمة الوراثية إذا جاءت مخالفة لقول الزوج فلا يلتفت لدعواه بنفي النسب، وإن اللاعن و طالب اللاعن، وأن نسب الطفل يثبت للزوج و يجري عليه أحكام الولد وإن جاءت موافقة لقول الزوج فله أن يلاعن وذلك للأمور الآتية:
1- أن الشريعة أعظم من أن تبنى أحكامها على مخالفة الحس و الواقع، فإن الشرع أرفع قدرا من ذلك و الميزان الذي أنزله الله للحكم بين الناس بالحق يأبى كل الإباء ذلك.
فلو استلحق رجلا من يساويه في السن و ادعى أنه أبوه فإننا نرفض ذلك لمخالفته للعقل و الحس فلا يمكن أن يتساوى أب و ابن في السن مع أن الاستلحاق في الأصل مشروع.
وقد رد جماهير العلماء دعوى امرأة مشرقية تزوجت بمغربي و لم يلتقيا وأتت بولد، فإن الولد لا يكون لزوجها المغربي البتة لمخالفة ذلك للحس و العقل وهذا النفي ليس تقديما لقوله صلى الله عليه و سلم" الولد للفراش"، إنما لمخافة ذلك لصريح العقل و الحس.




قال ابن تيمية: " فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية و الشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة فإن القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذي أنزله الله به الكتب و أرسل به الرسل و الرسول لا يأمر بخلاف العدل"(1).
2- إن آية اللعان قيدت إجراؤه بما إذا لم يكن ثمة شاهد إلا الزوج، ومفهومه أنه لو كان هناك بينة من شهود فإنه لا يجري اللعان بل يثبت ما رمى به الزوج زوجته.
و من البديهي لو كانت هناك بينة أخرى غير الشهادة فلا وجه بإجراء اللعان كما لو أقرت الزوجة زوجها فيما رماها به من الزنى. فإذا منعنا وقوع اللعان لوجود سبب مانع له، فما وجه إجرائه مع وجود بينة قطعية( البصمة الوراثية) تخالف دعوى الزوج. فإننا إذا قمنا بذلك كان ضربا من المكابرة و المخالفة للحس و العقل، و اللعان معقول المعنى معروف السبب و ليس تعبديا محضا.
قال ابن القيم: " و الشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد ..."(2)
فإذا علمنا أن الشهادة أقوى من قول الزوج في اللعان لأن الشهادة مبنية على غلبة الظن أما قول الزوج في اللعان فهو متساوي الطرفين في الصدق أو الكذب أي بنسبة 50% لأنه إما يكون صادقا أو تكون الزوجة صادقة، فهل من الفقه أن ندع بينة قطعية تصل ل 99,9 % تؤكد كذب الزوج ونأخذ ما هو محتمل للصدق بنسبة 50% وننسب ذلك للشريعة ؟؟ !! .
قال ابن القيم: " و الله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل و آماراته و أعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر و أقوى دلالة و أبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج به العدل و القسط فهي من الدين ليست مخالفة له" (3)
3- قوله تعالى: " أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ".
فإلحاق نسب الطفل بأبيه مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فإذا أثبتت البصمة الوراثية نسب طفل وأراد الأب نفيه للشكوك أو للتهرب من النفقة أو لأي غرض آخر-مع ضعف الذمم في هذا الزمان- فإن العدل يقتضي أن نلحق الطفل بأبيه و لا نمكن الأب من اللعان لئلا يكون سببا في ضياع الطفل.



(1)- أنظر جامع المسائل لإبن تيمية المجموعة 2، ص19.
(2)- الطرق الحكمية، مرجع سابق ، ص19.
(3)- نفس المرجع ، ص19 ، وقد ذكر ابن القيم صورا كثيرة دلت القرينة على الحكم الشرعي بل كانت أقوالا من الشهادة و الإقرار
4- إن الاحتجاج بقصة اختصام عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص وإلحاق الرسول – صلى الله عليه و سلم–: الولد للفراش وأمره لسودة بالاحتجاب منه مع أنه أخوها، فقد قال ابن القيم : " وأما أمره سودة بالاحتجاب ، فإما أنه يكون على طريق الاحتياط و الورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة، وأما أن يكون مراعاة للشبيهين وإعمالا للدليلين فإنا الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمال أمر الفراش بالنسبة إلى المدعى لقوته، وأعمال الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وهذا من أحسن الأحكام و أبينها، وأوضحها، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه وقال: وقد يختلف بعض أحكام النسب مع ثبوته لمانع، وهذا كثير في الشريعة، فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة و بين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة وما هذا إلا محض الفقه "(1) .
فدعوى أن الرسول – صلى الله عليه و سلم– لم يلتفت لأمر الشبه (البصمة الوراثية) واستدلالهم بالحديث هذا هو استدلال بعيد، بل الحديث حجة عليهم حيث اعتبر الرسول – صلى الله عليه
و سلم– أمر شبه لذا أمر بالاحتجاب.
ففي حال التنازع على طفل ولد على فراش صحيح نما المانع أن نعمل دليل الشبه و نثبت مقتضاه نفيا و إثباتا، يكون درء الحد عن الزوج لوجود شبهة اللعان و بهذا نعمل بالأدلة كلها
لاسيما و أن الطفل ولد على الفراش فيتقوى لإثبات النسب لطفل من جهة " الولد للفراش «، و من جهة البصمة الوراثية، هذا في حال نفي النسب و ثبوت خلاف ذلك من جهة البصمة أما إذا جاءت البصمة تؤكد قول الزوج فيجتمع دليل اللعان مع البصمة فينتفي النسب و ندرأ الحد عن الزوجة لوجود شبهة اللعان.
أما في حال الملاعنة فالأصل أن الطفل منسوب للزوج لأن الزوجة فراش له وجاء أمر الشبه (البصمة الوراثية) تؤكد ذلك الأصل فإننا نعمل بالأصل و نلحق الطفل بأبيه لدلالة الفراش و الشبه نكون أعملنا الشطر الأول من الحديث " الولد للفراش " و ندرأ الحد عن الزوج إذا لاعن لوجود شبهة الملاعنة و الحدود تدرأ بالشبهات و نكون أعملنا الشطر الثاني من الحديث " و احتجبي عنه يا سودة"
و يجاب عن حديث الملاعنة بنحو ما تقدم فقد جاء في الحديث " إن جاءت به أصهييب، أريضح أشبج حمش الساقين فهو لهلال، و إن جاءت به أورق، جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو الذي رميت به – و هو شريك بن سمحاء كما في رواية البخاري – فجاءت به أورق، جعدا، خدلج الساقين، سابغ الآليتين، أي شبيه لشريك بن سمحاء الذي رميت به أي – فقال النبي – صلى الله عليه و سلم– :" لولا الأيمان لكان لي و لها شأن " فقد أفد الحديث أنه حتى لو تمت الملاعنة بين الزوجين و ولد الطفل شبيها بالزوج صاحب الفراش فإنه ينسب له و لا ينفي عنه –


(2)- أنظر البصمة الوراثية و مجالات الاستفادة منها لنصر فريد، ص40
لأن النص جاء بنسبته إليه لأنه أقوى بكثير بمجرد التشبه الظاهري الذي أخذ به رسول الله – صلى الله عليه و سلم– في إثبات النسب و يدرأ الحد عن الزوج لوقوع الأيمان و بهذا عملنا بالأدلة كلها و هذا من دقائق المسائل التي يحضي بها من رزقه الله حظا وافرا من الفقه.
4)- إن اعتراضهم على عدم إقامة الحد على الزوجة اعتمدا على البصمة و الوراثية و اكتفاءا بها دليل على أنها ليست حجة بذاتها يجاب عنها من وجهين:
1- أن هناك فرقا بين إثبات النسب أو نفيه و بين إقامة الحد القائم على المبالغة في الاحتياط فالحدود تدرأ بالشبهات بخلاف النسب فهو يثبت مع وجود الشبهة كما في قصة عبد بن زمعة، فلو ادعت المرآة أنها كانت مكرهة أو أنها سقيت شرابا به مادة منومة و زنا بها أخر فحملت منه كان ذلك كافيا في إسقاط الحد عنها، و كذا الرجل لو ادعي أنه أودع منيه في ( بنك المني) وأن المرأة أخذت منيه بطريقة أو بأخرى واستدخلته وحملت بطفل و جاءت البصمة الوراثية تؤكد لحقوق الطفل وراثيا بذلك الرجل لم يحد لوجود شبهة، لا لأن البصمة ليست حجة.
2- إن من العلماء المعاصرين من يقول بإقامة الحد إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية ولم يدع المتهم اعتمادا على هذه البينة وأخذا بما أخذ به بعض الفقهاء المتقدمين كما قال ابن القيم: " و الرجوع إلى القرائن في الأحكام متفق عليه بين الفقهاء، بل بين المسلمين كلهم، وقد اعتمد الصحابة على القرائن فرجموا بالحبل وجلدوا في الخمر بالقيء و الرائحة وأمر النبي باستنكاره المقر بالسكر وهو اعتماد على الرائحة ... فالعمل بالقرائن ضروري في الشرع و العقل و العرف "
3- إن الفقهاء نصوا على أن الملاعن لو بدا له أن يعود في قوله ويلحق ابنه الذي نفاه باللعان جاز له ذلك لزوال الشبهة التي لاعن من أجلها، فهل من الحكمة ومن العدل أن يتجاسر الناس للتعرض للعنة الله أو غضبه وندع البينة(البصمة الوراثية) و لا نحكمها بينهم، ثم بعد اللعان يعود ويلحق ما نفاه !! فإن هذا من الفقه البارد.
أن البصمة الوراثية يجوز الاعتماد عليها في نفي النسب ما دامت نتيجتها قطعية كما يرد دعوى الزوج في نفي النسب إذا أثبتت نتائج البصمة الوراثية القطعية لحوق الطفل به، لأن قول الزوج حينئذ مخالف للحس و العقل و ليس ذلك تقديما للعان، و ينبغي للقضاة أن يحيلوا الزوجين قبل إجراء اللعان لفحوص البصمة الوراثية لأن إيقاع اللعان مشروط بعدم وجود الشهود، فإذا كان لأحد الزوجين بينة تشهد له فلا وجه لإجراء اللعان.
و الأخذ بهذه التقنية يحقق مقصود الشرع في حفظ الأنساب من الضياع و يصد ضعفاء الضمائر من التجاسر على الحلف بالله كاذبين، والله أعلم.
الطرق العلمية الحديثة لإثبات النسب وموقف القضاء منها :
تعتبر قضايا إثبات النسب مشكلة اجتماعية خطيرة تشغل اهتمام كثير من العلماء، وفي جميع أنحاء العالم فضلا على أنها مشكلة قضائية تستغرق سنوات طويلة أمام المحاكم.
و يخطئ من يظن أن عملية الحسم في هذه القضايا تتم بسهولة بمجرد عمل تحليلي طبي، فهناك فحوص و كشوفات طويلة على ثلاثة أطراف: الأم، الأب والطفل، للتأكد من قدرة كل من الزوجة و الزوج على الإنجاب خلال فترة إنجاب الطفل أو ادعاء الحمل فيه، وكذلك شخصية وسن الطفل بعد ذلك يأتي دور التحاليل الطبية، وتشمل فصائل الدم الرئيسية و الفرعية و اختبارات مصلية تتعلق بمستحضرات ( أنتيجينات) خلايا الدم البيضاء، و هو ما يطلق عليه: (HLAS) ولكن هذه التحاليل لا تعطي أكثر من 40% فقط، وهي نسبة تثير الشك أكثر من اليقين في مسائل إثبات البنوة.
على الرغم من مرور وقت قصير على اكتشاف بصمة الجينات إلا أنها استطاعت عمل تحول سريع من البحث الأكاديمي إلى العلم التطبيقي الذي سيخدم العالم، وخصوصا في الحالات التي عجزت وسائل الطب الشرعي التقليدية التي لا نجد لها حلا، مثل قضايا إثبات البنوة، والإغتصاب وجرائم السطو و التعرف على ضحايا الكوارث.
1- النتائج العلمية لفحص الدم:
نتيجة للتجارب التي قام بها الطبيب النمساوي " لاندستيتر" عام 1900م تم وضع الأساس الكيميائي الذي على أساسه صنف الدم البشري إلى الفصائل الأربعة المعروفة: A,B,AB,O وهو:
- وجود مواد مولدة (أنتيجينات) Antigènes على أسطح كرات الدم الحمراء.
- وجود أجسام مقابلة للمواد المولدة، وهي الأجسام المضادة Anti – corps في بلازما الدم.
ويتضح من الجدول التالي هذه الفصائل و ما يقابلها من أنتيجينات وأجسام مضادة و تراكيب جينية.

تراكيب الجينية الأجسام المضادة المادة المولدة الفصيلة
(AA) نقي
(AO) هجين B A A
(BB) نقي
(BO) هجين B B B
(AB) - AB AB
(OO) AB - O
و من هنا نتساءل كيف تنفى الأبوة بناء على معرفة فصائل الدم ؟ و للإجابة عن هذا السؤال نتعرض لمرحلتين:
2- نتائج فحص الدم دليل للنفي:
أ- تحدد فصيلة دم كل من الطفل و الرجل و الأم و التراكيب الجينية المحتملة لكل من هذه الفصائل.
ب- يقارن التركيب الجيني لفصيلة الطفل مع فصيلة الرجل:
إذا كان هناك احتمال مشاركة أحد جيني فصيلة الرجل في التركيب الجيني لفصيلة الطفل فإنه في هذه الحالة تحتمل البنوة، وذلك لوجود أكثر من رجل يحمل هذه الفصيلة.
مثال: الطفل الذي فصيلته o فيكون التركيب الجيني لفصيلة أبيه oo والأم التي فصيلتها Aفيكون التركيب الجيني لفصيلة دمها AA أو AO و الرجل الذي فصيلته B فيكون التركيب الجيني لفصيلة دمه BB أو BO.
واضح أن الأم لابد أن تكون فصيلتها AO وحتى لو كان الرجل فصيلة دمه BOفهذا لا يثبت البنوة بل يحتملها لنفس السبب السابق.
أما إذا كان هناك استحالة مشاركة التركيب الجيني للرجل في التركيب الجيني لفصيلة الطفل في هذه الحالة تنفى البنوة تماما.
في المثال السابق إذا كانت فصيلة الرجل ABتنفى البنوة تماما لعدم وجود التركيب الجينيOالثاني للطفل في فصيلة الرجل(1)، وتمكن المعلومات الوراثية لأي خلية من تتابع الشفرة الوراثية(تتابع القواعد النيتروجية الأربعة التي وهبها الله للحياة، وهي الأدينين(A)، و الجوانين(G)، و السيتوزين(C)، والتيامين(T) التي تكون المادة الوراثية في صورة كلمات وجمل تقوم بتخزين المعلومات الوراثية في لوح محفوظ مسئول عن حياة الفرد.
فحديثنا تمكن " إليك جيفيرس"، من جامعة لستر بالمملكة المتحدة، من اكتشاف اختلافات في تتابع الشفرة الوراثية في منطقة " الأنترون Intron " متمثلة في الطول و الموقع وقد وجد أن هذه الاختلافات ينفرد بها كل شخص تماما مثل بصمة الإصبع، لذلك أطلق عليها بصمة الجينات، باستثناء نوع نادر من التوائم المتطابقة الناشئة عن انقسام بويضة مخصبة واحدة. وبحساب نسبة التمييز بين الأشخاص باستخدام بصمة الجينات، وجد أن هذه النسبة تصل إلى شخص من بين 300مليون شخص، أي يوجد شخص واحد يحمل نفس بصمة الجينات، وقد وجد أيضا أن بصمة الجينات تورث طبقا لقوانين "مندل" الوراثية.
3- تعيين بصمة الجينات:
كل ما هو مطلوب لتعيين بصمة الجينات هو عينة صغيرة من الأنسجة التي يمكن الاستخلاص منها الحمض النووي الريبوني المنقوص الأكسجين ADN فعلى سبيل المثال نحتاج:
- عينة من الدم في حالة إثبات البنوة، و من الأمثلة الغريبة في قضايا البنوة و التي عرضت على الطب الشرعي، وكان للفصائل فيها الكلمة الحاسمة، قضية أحد أثرياء الوجه البحري وكان متزوجا بإحدى السيدات في القاهرة ثم طلقها بعد أن أنجبت طفلا، وذهب إلى بلدته وتزوج إحدى قريباته وانجب منها عددا من الأطفال، وكانت السيدة الأولى قد نسبت طفلها إليه ولم ير الرجل غضاضة غي الإنفاق عليه حتى شب وتعلم تعليما عاليا وتخرج ليشغل إحدى الوظائف الكبيرة في الشركات.



بقلم د/وجدي سواحل. المرجع السابق. ص 45.
(1)- www.islamonline.net
وعند ذلك تراءى للثري أن يكتب كل ما يملك من مال وعقار باسم أولاده و علمت السيدة التي تقطن بالقاهرة أنه لم يشرك إبنها في ثروته، فدفعها ذلك إلى شكواه أمام القضاء.
- وعند سؤال الثري قرر أن الشاب ليس إبنه وطلب إحالة القضية إلى الطبيب الشرعي لتحليل دمائه، وعندما سئل لماذا أنفق على الشاب منذ ولادته قرر أنه كان يعلم منذ مولده أنه ليس إبنه وإن إنفاقه عليه كان على سبيل الإحسان. وعندما فحص الطبيب الشرعي دم الثري ودم كل من الشاب وأمه ثبت له بصفة قاطعة أن الشاب لا يمكن أن يكون إبنا للثري(1)
- عينة من الحيوان المنوي في حالة اغتصاب.
- قطعة جلد من تحت الأظافر أو شعيرات من الجسم بجذورها في حالة وفاة بعد مقاومة المعتدي(2)
- دم أو سائل منوي مجمد أو جاف موجود على مسرح الجريمة أو عينة من اللعاب، وحديثا تمكن العالمان الأستراليان " رولندفان" و " ماكسويل جونز" في عام 1997 من عزل المادة الوراثية من الأشياء التي تم لمسها مثل: مفتاح التيليفون و الأكواب بعد استخلاص المادة الوراثية، حيث يتم تقطيعها باستخدام انزيمات التحديد ثم تفصل باستخدام جهاز الفصل الكهربائي، ثم تنقل إلى غشاء نايلون، ثم باستخدام مسابر خاصة Probes يتم تعيين بصمة الجينات على فيلم أشعة.
و على ضوء هذه المعطيات العلمية المتاحة، تبين أن فصائل الدم تفيد في الحصول على دليل نفي قاطع، ولكنها لا تفيد في الحصول على دليل إثبات مؤكد بل هي قرينة يعوزها البرهان. وهكذا يكون واضحا أهمية هذا التحليل بالنسبة للطرف الذي يريد التوصل إلى دليل نفي. فهذا الفحص يمكن أن يفيده في خصوص دعواه، إذ قد يثبت من نتيجة التحليل أن الطفل لا يمكن أن ينسب إليه. وهو ما يفسر لنا جواز التمسك للخصوم أمام المحاكم بضرورة فحص الدم في مجال النسب بهدف الحصول على دليل نفي البنوة.
أما بالنسبة للطرف الذي يريد التوصل إلى دليل إثبات البنوة، فلن يجدي معه هذا التحليل. فالزوجة العفيفة التي اتهمها زوجها زورا وبهتانا بأن الولد ليس منه لن تجد في تحليل الدم الوسيلة التي تنهض لإثبات أن الطفل يعزى للزوج غاية ما تحصل عليه هو احتمالات غير مؤكدة لا تؤدي إلى أي اقتناع بصحة موقفها.
أما اليوم وقد أضاف التقدم البيولوجي في مجال الوراثة إلى المعطيات العلمية السابقة (حيث كان فحص الدم يعتمد على نظام الفصائل) معطيات علمية أكثر تطورا ( حيث أصبح من الممكن الإعتماد على ما لا يقل عن عشرين نظاما لفحص الدم)، فإنه كان وحتما أن تضاف نتائج جديدة على ما سوف نراه في المرحلة الثانية.



(1)- د.رمسيس بينهام: المرجع السابق، ص115،114
(2)- www.Islam Online.Net
4- نتائج فحص الدم مؤكد للنفي أو الإثبات:
على إثر اكتشاف حمض معين في جسم الإنسان، أمكن اكتشاف جزء معين في تركيب هذا الحمض، ويتميز هذا الجزء بأنه يحمل الصفات الوراثية الخاصة بكل فرد و التي تبقى ملازمة له مدى حياته، ولقد سميت هذه الصفات البصمة الوراثية لأنه لا يتشابه فيها إنسان آخر، فلكل إنسان على وجه الأرض بصمته الوراثية الخاصة به. ومعرفة البصمة الوراثية لشخص ما يتم عن طريق فحص الحمض النووي لإحدى المواد السائلة في جسمه كالدم، و المني، و اللعاب. أو لأحد أنسجة الجسم (اللحم أو الجلد) أو مواد أخرى كالشعر و العظام.
ففي مجال النسب، أتاحت دراسة توافق الصفات المميزة الموجودة في الحمض النووي للأم وتلك الموجودة في الحمض النووي للطفل إلى تخريج تركيبة لا توجد إلا عند شخص واحد فقط. هذا الشخص هو الاب الحقيقي أو البيولوجي للطفل. وعليه إذا وجدت هذه التركيبة عند المدعي عليه بأنه الأب، فهذا يعني بشبه يقين أنه الاب الذي منه كان الطفل. وهكذا لم يعد فحص الدم قاصرا على دوره التقليدي وهو كونه دليلا مؤكدا على نفي البنوة، وإنما أصبح له دور حديث صار دليلا على إثبات البنوة و بطريقة لا تقبل الشك(1).
ونظرا لأهمية هذا الفحص الحديث سواء في مجال النسب أو غيره وخطورته في نفس الوقت فلقد أوصت اللجنة القومية للأخلاقيات في فرنسا بقصر استخداماته على بعض المعامل المتخصصة و المعتمدة رسميا. كما أوصت بألا يجري هذا الفحص إلا بناءا عن أمر أو حكم قضائي، وأوصت أخيرا بألا ينتدب في هذه المسائل كخبراء لدى المحاكم سوى المختبرات المعتمدة رسميا و المتخصصة في هذا المجال.
5- موقف القضاء من نتائج فحص الدم:
يتضح للمتتبع لأحكام القضاء الفرنسي بخصوص دعاوى النسب مدى الترحاب الذي قوبلت به النتائج الحديثة لأنظمة فحص الدم باعتبارها وسيلة نفي أو إثبات بطريقة لا تقبل الشك، أو بالأحرى بطريقة تقترب من اليقين، وهو ما يتأكد من خلال استعراضنا لعدد من المنازعات التي عرضت على القضاء، وذلك على النحو التالي:
أ- دعوى تنازع النسب:
في هذا المجال ننظر إلى الأحكام الصادرة عن محكمة استئناف باريس حول النزاع الذي تتلخص وقائعه في أن سيدة متزوجة أنجبت طفلا وألحق نسبه لزوجها ثم طلقت وتزوجت بآخر. وبعدها رفعت دعوى تطلب فيها نفي نسب الطفل من مطلقها وثبوته من زوجها الثاني.




(1)- محمد أبو زيد: " دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب " العدد 2، 1996، جامعة الكويت، ص280.
قضت محكمة الاستئناف في 11 ديسمبر 1975 بتكليف خبير حددت مهمته بإجراء اختبارات الوراثة بالنسبة للأطراف المعنية (الأم، الطفل، المطلق، الزوج الثاني) بغرض توضيح أي من الزوجين يعد مستبعدا ولا يعزى إليه نسب الطفل، و أيهما لا يعد مستبعدا ويمكن اعتباره الأب و في حالة عدم الاستبعاد على الخبير أن يوضح درجة احتمال الأبوة.
و قد أودع الخبير في 03/03/1976 تقريره الذي يفيد استبعاد الزوج الأول واعتبار الزوج الثاني هو الأب الحقيقي للطفل على وجه يقترب من اليقين حيث قدر نسبة احتمالات الأبوة بدرجة تصل 999،84 من الألف، واستنادا إلى هذا التقرير قضت المحكمة في 16/12/1976 بلزوم ثبوت نسب الطفل إلى الزوج الثاني باعتباره الأب الحقيقي.
ب) دعوى إثبات البنوة الطبيعية:
أيدت محكمة النقض في 17 نوفمبر 1986حكم محكمة الاستئناف فيما انتهت إليه هذه الأخيرة من ثبوت البنوة الطبيعية لطفل من الأب المدعي عليه بعد أن كشف فحص الدم الذي أمرت به المحكمة أنه من المستحيل استبعاده كأب. وقد رأت محكمة النقض أنه لا تثريب على محكمة الاستئناف إن هي التفتت عن إجابة طلب الأب المدعي عليه بإجراء فحص دم مكمل للفحص السابق بغرض تحديد نسبة ترجيح كونه الأب متى وجدت في الفحص الأول ما يقيد استحالة أن الطفل لا يعزى إليه.
وفي حكم آخر لها في 01 فبراير 1983 أيدت حكم محكمة الاستئناف الذي قضى بنسب طفل للاب المدعى عليه بعد أن تبين أن فحص الدم قد قطع في عدم استبعاد المدعى عليه وأن ترجيح اعتباره الأب يكاد يكون يقينا. ولذا فلا تثريب على محكمة الاستئناف أن ترفض طلب الأب المدعى عليه بإجراء فحوصات تكميلية لتحديد تاريخ بدء الحمل، بهدف أن يثبت أن الحمل حدث في الفترة التي كان متغيبا فيها و من ثم لا يكون الحمل منه.
و حصيلة حيثيات الحكمين السابقين، كما يقول أحد الفقهاء، هي أن الأب المدعى عليه يجد نفسه منساقا إلى الكمية، إذ يطلبه إجراء فحص الدم في ظل المعطيات العلمية الحديثة التي تقطع بنتائج شبه يقينية لا بإثبات النسب فقط و إنما في إثباته أيضا إنما يشير بنفسه إلى نفسه بأنه الأب الحقيقي أو الأب البيولوجي.
ج)- دعوى النفقة:
دعوى النفقة هي دعوى تقوم-وفقا لأحكام القانون الفرنسي- على أساس توافر ما يشير إلى أن الطفل يمكن أن ينسب للشخص المدعى عليه، ولو بدليل محتمل. فهي إذن دعاوى لا تستند إلى وجود دليل مؤكد بأن المدعى عليه هو الأب الحقيقي. وهي تثور غالبا في الحالات التي تثبت فيها أن أم الطفل على علاقة بعدد من الرجال أثناء فترة الحمل. وعندئذ وبشروط معينة تسمح أحكام القانون الفرنسي بتوزيع عبء النفقة المطلوبة على من يثبت تحليل الدم أنه من المحتمل أن يكون
الأب، هذا في ظل المعطيات العلمية التي لم تكن تسمح بتقديم دليل مؤكد في إثبات النسب. أما اليوم و في ظل النتائج الحديثة لفحص الدم، فإن القضاة يلجأون لهذا الدليل العلمي لمعرفة من بين هؤلاء الذين كانوا على صلة بأم الطفل يمكن أن ينسب إليه الطفل بطريقة مؤكدة(1).
وهذا ما يتضح من موقف محكمة باريس الجزائية حيث قضت في 29نوفمبر 1982 بتكليف خبير تكون مهمته إجراء فحص الدم للأشخاص الذين كانوا على صلة بأم الطفل موضوع النزاع لمعرفة أيهما هو الذي تفيد النتائج بأنه الأب الحقيقي أو البيولوجي. وكانت المفاجأة أمام محكمة باريس في حكمها الصادر في 06 ديسمبر 1983، حيث جاء بتقرير الخبير أن نتائج تحليل الدم تفيد أن أيا من الرجلين اللذين اقتسما العلاقة مع أم الطفل في إحدى الليالي لا يمكن أن يكون الأب. ولذا يقول أحد المعلقين إنه يجب على الأم أن تبحث عن رجل ثالث لتحصل منه على التعويض.
د) دعوى إثبات البنوة الشرعية:
في هذا المجال نجد الحكم الصادر عن محكمة باريس الجزائية في 24 يناير 1983، وتتلخص الوقائع في طلب الزوج لإجراء فحص الدم من أجل التحقق من ادعائه بأنه ليس أبا للطفل الذي ولدته زوجته بعد أكثر من 300 يوم من تاريخ عدم إمكان المصالحة بينهما وقرار المحكمة بانفصالهما.
وقد استجابت المحكمة لهذا الطلب رغم أنه قد ثبت لديها من وقائع النزاع أن الزوج كان يقضي في غالب الأحيان الليل أو عطلة نهاية الأسبوع عند زوجته وأيضا على الرغم من ثبوت أنه كان قد اصطحبها في زيارة أحد الأطباء لإجراء عملية إجهاض. و هكذا يبقى واضحا أنه رغم قيام الدليل الظاهري على أن الزوج هو الأب الحقيقي، إلا أن المحكمة استجابت لطلب فحص الدم لتقديم الدليل على أنه لا يمكن الأب الحقيقي للولد المزعوم أنه منه.
و إذ يظهر من الأحكام المتقدمة مدى اقتناع القضاة بالنتائج الحديثة لفحص الدم واختبارات الوراثة كدليل على نفي النسب أو إثباته، فإن هذا أمر يسجل لهم بكل فخر إذ ما كان يجب لبيئة تنظر بعين الارتياح لمحاولات التقريب بين الطب و القانون أن تهدر دليلا علميا مؤكدا في مجال مهم كهذا وخاصة أن الأدلة الأخرى لا تقدم مثل ما يقدمه هذا الدليل العلمي من مساعدة في إظهار الحقيقة.
فرع ب) إثبات الجرائم الجنسية:
إن ترك المجرم لآثار على مسرح الجريمة وراءه سواء بصماته على الأجسام أو عينة من دمه أو لعابه.....الخ تعد دليلا للإثبات ومن ثمة فالإنسان يكون قد قدم دليلا ضد نفسه.



(1)- د. محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص284.
ومع هذا يؤخذ به في مجال الثبوت وهذه الطريقة يقتصر إجراؤها على عدد قليل جدا من المشبوهين في القضية ذاتها ولكن قد تتوسع فيما بعد عند إنشاء قاعدة بيانات تشمل جميع المشبوهين وأصحاب السوابق في القضايا الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع و استقراره وهي ما سنتطرق إليها بشيء من التفصيل كالجرائم الجنسية (الإغتصاب و الفعل المخل بالحياء)
I) الاغتصاب:
إن نسبة النجاح التي تقدمها الجينات تصل إلى حوالي 96% مما شجع الدول المتقدمة الرائدة في هذا المجال مثل أمريكا و بريطانيا و الدول الأخرى المسايرة لها على استخدامها كدليل جنائي بل إن هناك اتجاه لحفظ بصمة الجينات للمواطنين مع بصمة الأصبع لدى الهيآت القانونية إذ تم على أساسها الحسم في الكثير من القضايا بناء على استخدام بصمة الجينات كدليل جنائي.
ويعد جرم الاغتصاب من أخطر الجرائم الماسة بحرية الفرد و من ثمة تهديد استقرار المجتمع وهو ما دفع أغلبية مشرعي العالم إن لم نقل جلهم إلى توقيع أقصى العقوبات لردع مقترفيه محاولة لإرضاء ضحاياه.
- إن تعريف الاغتصاب مختلف من بلد إلى آخر نتيجة لإختلاف عقائدها و عاداتها فإذا نظرنا إلى قانون العقوبات الجزائري بمنظار إسلامي يبدو لنا أنه قانون ليبرالي إلى درجة الإباحية باعتباره مبنيا على مبدأ الحرية الجنسية و يترتب على ذلك أن لا جريمة و لا عقوبة متى بلغ الطرفان سن التمييز (16 سنة) و توافرت لديهما الإرادة (1) .
أما إذا نظرنا إليه بمنظار غربي فيبدو لنا أنه قانون محافظ كونه يقيد الحرية الجنسية من حيث تجريمه للزنا على سبيل المثال و ما يشد الانتباه بالنسبة لهذا النوع من الجرائم من خلال الممارسة القضائية هو صعوبة ضبطها و يرجع ذلك إلى عدة عوامل مجتمعة وهي:
- الإعتبارات الأخلاقية.
- السرية
- قسوة ردة فعل المجتمع.
- صعوبات الإثبات.
و هو الفعل المنصوص و المعاقب عليه في قانون العقوبات الجزائري بنص المادة 336 قانون العقوبات وعبر عنه بلفظ هتك العرض « viol » دون تحديد مفهومه و بالرجوع إلى القضاء الجزائري نجده يتمثل في فعل المواقعة الذي يتم بين الرجل و المرأة بغير رضاها و هو التعريف الذي خلص إليه القضاء الفرنسي قبل تعديل قانون العقوبات لسنة 1992.



1)- الوجيز في القنون الجنائي الخاص ج I .د. أحسن بوسقيعة. ط 2000 .ص 93
و بصدور القانون الجديد للعقوبات الفرنسي لسنة 1992 تطور الأمر وتحديدا في المادة 23-222: التي أصبحت تعرف الاغتصاب على النحو التالي: " كل فعل إيلاج جنسي مهما كانت طبيعته ارتكب على ذات الغير بالعنف أو الإكراه أو التهديد أو المباغتة"
وتبعا لذلك لم يعد الاغتصاب في فرنسا مقصورا على الرجل كما أنه لم يعد محصورا في فعل الوطء الطبيعي وأصبح جائزا حتى على الذكر (منذ صدور قانون 23-12-1980).
العقوبات المقررة لجريمة الاغتصاب في القانون الجزائري (1) هي عقوبات ملطفة، مقارنة بما هو مقرر لنفس الجريمة في بعض التشريعات سواء العربية أو الغربية(2).ففي تونس على سبيل المثال: يعاقب على الاغتصاب بالسجن المؤبد وترفع العقوبة إلى الإعدام حال توافر استعمال العنف أو السلاح أو التهديد كما يعاقب القانون الفرنسي مقتر فيه بعقوبة السجن لمدة 20 سنة.
و تجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري لم يأخذ بعين الاعتبار الآثار التي قد تنتج عن الاغتصاب مثل فض البكارة و الحمل في حين أخذ بها المشرع المغربي و اعتبراهما ظرفا تشديد تغلظ فيهما العقوبة.
II) الفعل المخل بالحياء: