التحذير
من تكفير أحد المسلمين
هذا، والنصوصُ مِن الآيات والأحاديث جاءت صراحةً تحمي أعراضَ المؤمنين والمسلمين وتحمي دينَهم، وتحذّر التحذير الشديد من تكفير أحدٍ من المسلمين وهو ليس كذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 94]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ»(٨- أخرجه البخاري في «الأدب» (10/464) باب ما ينهى عن السِّباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم -أيضًا-: «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»(٩- أخرجه البخاري في «الأدب» (10/465) باب ما ينهى عن السباب واللعن من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.)، فإذا كان تكفير المعيّن على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ قال ابن تيمية: «فإنَّ ذلك أعظم من قتله بلا شكٍّ، إذ كلُّ كافرٍ يُباحُ قتلُه، وليس كلُّ من أُبيح قتله يكون كافرًا»(١٠- «الاستقامة» لابن تيمية (1/165-166).)؛ ولأنَّ إطلاقَ الكفر بغير حقٍّ على المؤمن لَمْزٌ في الإيمان نفسه، بل إنّ سوءَ الظنِّ بالمسلم والنيلَ منه محرَّمٌ فكيف يُحكَم برِدَّتِهِ وتكفيره؟!
عِظَم
خطر تكفير المسلم
فالواجب على المسلم -إذن- عدمُ الخوض في هذا الأمر الجَلَل من غير أن يكون ممكَّنًا شرعيًّا، قال الشوكاني -رحمه الله-:
«اعلم أنَّ الحكمَ على الرجل المسلمِ بخروجه من دين الإسلام ودخولِه في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليومِ الآخر أن يَقْدُمَ عليه إلاَّ ببرهانٍ أوضحَ من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية عن جماعةٍ من الصحابة أنَّ: مَنْ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا(١١- أخرجه مسلم في «الإيمان» (2/49) باب من قال لأخيه المسلم يا كافر، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.)»(١٢- «السيل الجرار» للشوكاني (4/478).). كما لا يجوز تكفيره لمجرَّد الهوى ولا بنظر العقل ولا بطريقة تأصيل أصول عقلية يكفر المسلم من خالفها؛ لأنَّ التكفير حكم شرعي يراعى فيه الدليل الشرعي دائمًا. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «والكفر هو من الأحكام الشرعية، وليس كلّ من خالف شيئًا عُلِمَ بنظر العقل يكون كافرًا، ولو قدر أنه جحد بعضَ صرائحِ العقول لم يُحكَم بكفره حتى يكون قوله كفرًا في الشريعة»(١٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (12/525).)، ولِمَا في التكفير من عظيم أمره، وخطورة نتائجه وما يورثه من البلايا والرزايا، من جملتها استحلال دمه وماله، وفسخ العصمة بينه وبين زوجه، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة وراءه والصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36]، فعلينا أن نجتنِبَ الشرَّ، ونقتربَ من الخير ونعملَ على تحصيله، ونسلكَ سبيلَ الإيمان ونثبُتَ عليه، فإنَّ فيه الفوز بالسعادة الأخروية التي لا تتحقَّق باتباع الأهواء، واختراع الآراء، وادّعاء تحليات، وترجي أمنيات، وإنما يتحقّق بلزوم ما أنزل الله وحيًا مبينًا، وهديًا قويمًا، وصراطًا مستقيمًا، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [الشورى: 53].
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1426هـ
المـوافق لـ: 24 ماي 2005 م
١- انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3/151، 152)، و«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (316، 369).
٢- «عقيدة السلف أصحاب الحديث» للصابوني (71-72).
٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3/282-283). وانظر: تقرير منهج أهل السُّنَّة في هذه المسألة في المصدر السابق (3/348) وما بعدها (7/217، 218).
٤- «منهاج السنة» لابن تيمية (5/240-241).
قلت: وإنما هذه الفِرَقُ الثنتان والسبعون معدودةٌ من جُملة المسلمين إذَا أخطأت في عقيدتها، ولم يكن باطنُ مذهب الفِرقة معاندةَ الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو تقوم حقيقة مذهبها على تعطيل الصانع، أو إبطال الاحتجاج بالشريعة، أو إبطال التكاليف الشرعية، فإن عُلِمَ من سبب نشوء الفرقة إبطان الكفر وتعطيل الشريعة ونحوها وتجلّى ذلك من خلال مقالات أئمّتها وما يؤول إليه كلامهم فلا تعدّ هذه الفرقة من جملتهم بل خارجة عنهم، وبهذا ينضبط القول في الحكم على الفرق.
٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10/370-372)، (35/165-166).
٦- المصدر السابق (7/685).
٧- المصدر السابق (12/180).
٨- أخرجه البخاري في «الأدب» (10/464) باب ما ينهى عن السِّباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
٩- أخرجه البخاري في «الأدب» (10/465) باب ما ينهى عن السباب واللعن من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
١٠- «الاستقامة» لابن تيمية (1/165-166).
١١- أخرجه مسلم في «الإيمان» (2/49) باب من قال لأخيه المسلم يا كافر، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
١٢- «السيل الجرار» للشوكاني (4/478).
١٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (12/525).
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1426هـ
المـوافق لـ: 24 ماي 2005 م