منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - القانون الأجنبي
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-02-05, 15:02   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 الفصل الثاني

الـفـصـل الـثـانـي: الـقـانـون الأجـنـبي الـمخـتـص أمـام قـاضـي الـدعـوى

إذا انعقد الإختصاص لقانون أجنبي معين، بموجب قاعدة الإسناد الوطنية، و لم يوجد مانع يدعو إلى استبعاده، فإن قاضي الدعوى ينتقل إلى تطبيقه على النزاع المطروح أمامه، غير أن هذا التطبيق لا يخلوا من إشكاليات عديدة، فالقانون الأجنبي قانون غير معروف لدى قاضي الدعوى، و هو صادر عن دولة أجنبية لا تمارس أي سلطة عليه، مما يطرح مسألة طبيعة القانون الأجنبي و كيفية تعامل القاضي معه هل يعتبر من قبيل الوقائع؟ أم يظل محتفظا بكيانه القانوني؟
كما أن القانون الأجنبي مجهول غالبا لدى قاضي الدعوى و لا يفترض علم القاضي به كما هو الحال بالنسبة للقانون الوطني، مما يطرح أيضا مسألة عبء إثباته هل يقع ذلك على عاتق الأطراف في الدعوى؟ أم على عاتق القاضي؟ وأيضا وسائل إثبات هذا القانون والحل الواجب إتباعه في حالة تعذر الوصول إلى مضمونه.
وأخيرا فإن القاضي سوف يلجأ إلى تفسير هذا القانون إذا كان غامضا و غير واضح المعنى فكيف يفسر هذا القانون، و ما دور محكمة النقض في الرقابة على هذا التفسير؟
و على هذا الأساس سوف نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
 الـمـبــحـــث الأول: طبيعة القانون الأجنبي
 الــمـبـحـث الــثـانـي: إثبات مضمون القانون الأجنبي
 الـمـبـحــث الـثـالــث: تفسير القانون الأجنبي












الـمـبـحـث الأول: طبــيـــعــة الـــقــــانـــون الأجــنـــبـي
إذا أشارت قاعدة الإسناد الوطنية بتطبيق القانون الأجنبي بوصفه القانون المختص لحكم النزاع المطروح على القاضي، و لم يوجد مانع يستدعي استبعاده التزم القاضي بتطبيقه على وقائع الدعوى، غير أن الصفة الأجنبية لهذا القانون و كونه صادر عن دولة أجنبية لا تملك سلطة على القاضي و الصعوبات العملية التي تبرز عند تطبيقه خصوصا صعوبة إثباته و كيفية تفسيره من طرف القاضي، كل هذا يطرح التساؤل حول طبيعة هذا القانون أمام قاضي الدعوى.
إن المعاملة التي يلقاها القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني مختلفة من دولة إلى أخرى، فالقضاء في الدول الأنكلوسكسونية خصوصا و القضاء الفرنسي بدرجة أقل يعتبر القانون الأجنبي مجرد واقعة و يعامله على هذا الأساس مع كل النتائج التي تترتب على هذه الصفة، بينما يذهب القضاء في دول أخرى إلى اعتباره قانونا و يرتب على ذلك كافة النتائج المترتبة على هذه الصفة.
و على هذا فسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في المطلب الأول تطبيق القانون الأجنبي باعتباره واقعة و في المطلب الثاني تطبيق القانون الأجنبي باعتباره قانونا.

الــمـطـلـب الأول: الــقـانـون الأجــنـبـي بـاعـتـبـاره واقــعة:

يطبق القانون الأجنبي في كثير من الدول أمام القضاء الوطني باعتباره واقعة كمجمل وقائع الدعوى و يعامل على هذا الأساس و يتبنى هذا الموقف خصوصا القضاء في الدول الأنكلوسكسونية، الذي يعتبر القانون الأجنبي كالواقعة تماما أما القضاء الفرنسي وخصوصا موقفه التقليدي فهو يعتبر القانون الأجنبي كعنصر من عناصر الواقع قبل أن يتطور موقفه في اتجاه الإعتراف بالطبيعة القانونية للقانون الأجنبي.










الـفـرع الأول: مـوقـف الـقـضـاء فـي الـدول الأنـكـلـوسـكـســونـية
يتشدد القضاء في هذه الدول في اعتبار القانون الأجنبي مجرد واقعة و يعامله على هذا الأساس، أما لماذا يطبق أمام القضاء الوطني رغم كونه قانونا أجنبيا؟ فإن هذا التطبيق يجد تفسيره لدى الفقه هناك في نظرية الحقوق المكتسبة « Vested rights » حيث ترى هذه النظرية أن القانون الأجنبي لا يطبق أمام القضاء بقوة نفاذه – أي بوصفه قاعدة قانونية آمرة – و إنما احتراما للحقوق المكتسبة التي اكتسبت في ظل هذا القانون، فالقاضي في نظرهم لا يطبق القانون الأجنبي كما يظهر لأول وهلة و إنما هو يعترف بالحق الذي اكتسب في ظل القانون الأجنبي و بالتالي فإن القانون الأجنبي يعتبر في نظر القاضي مجرد عنصر في واقعة هي: الحق الذي نشأ في ظل هذا القانون(1).
غير أن هذه النظرية التي تفسر أساس تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء منتقده خاصة لمحدوديتها، فهي لا تفسر تطبيق القانون الأجنبي إلا في الحالة التي ينشأ فيها الحق في الخارج، مع أن الغالب هو أن ينشأ الحق في دولة القاضي طبقا للقانون الأجنبي(2).
ويرتب القضاء في هذه الدول كافة النتائج المترتبة على اعتباره القانون الأجنبي مجرد واقعة فالقاضي لا يطبقه إلا إذا تمسك أحد الأطراف به و أثبت اختلاف مضمونه على القانون الوطني، كما أنه إذا اتفق الأطراف على مضمون القانون الأجنبي فإن القاضي يطبقه دون حاجة إلى وسيلة أخرى لإثباته و أخيرا فإن الخطأ في تطبيقه لا يخضع لرقابة محكمة النقض.
الـفـرع الـثـانـي: مـوقـف الـقضـاء الـفـرنـسي:
الموقف الفرنسي التقليدي من القانون الأجنبي صاغه الإجتهاد القضائي عبر عدة قرارات أسس من خلالها مجموعة من المبادئ شكلت في مجملها مركز هذا القانون أمام القضاء الفرنسي، و تتمثل هذه المبادئ في أنه يقع على عاتق الأطراف إثبات مضمون القانون الأجنبي، و إذا لم يتمكنوا من ذلك طبق القاضي القانون الفرنسي، كما أن القاضي لا يمكنه أن يثير تلقائيا تطبيق هذا القانون ما لم يتمسك به أحد الأطراف، كما أن محكمة النقض الفرنسية ترفض باستمرار فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي من قبل قاضي الموضوع(3).





(1): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 574.
(2): Mohand Isaad. op. cit. p 173
(3) : Loussouarn, et Bourel. op. cit. P 244,245


و قد استنتج الفقه الفرنسي من ذلك أن القضاء الفرنسي لا يعامل القانون الأجنبي كـالقانـون الـفرنسـي، و استخلص من ذلك أن القانون الأجنبي يعتبر أمام هذا القضاء عنصرا من عناصر الواقع « Elément de fait ». و استند الفقه الفرنسي في تبرير موقف قضاءه من القانون الأجنبي إلى حجة مفادها أن كل قاعدة قانونية تتكون من عنصرين: العنصر العقلي أو مضمون القاعدة و هو كونها عامة و مجردة، و عنصر الأمر أو الإلزام الذي تستفيد منه القاعدة قوتها الملزمة، فإذا كانت القاعدة القانونية الأجنبية تمتلك العنصرين في بلد المشرع الذي أصدرها، فإنها تعتقد عنصر الأمر أو الإلزام عند تطبيقها أمام القضاء الفرنسي، لأن عنصر الإلزام لا يتعدى الإقليم الذي يزاول فيه مشرع هذه القاعدة سيادته. أما خارج هذا الإقليم فلا يبقى للقاعدة سوى مضمونها أو عنصرها العقلي و من ثم تفقد صفتها كقاعدة قانونية ملزمة.
و لا يغير أمر المشرع الوطني بمقتضى قاعدة الإسناد بتطبيق القانون الأجنبي من طبيعة هذا القانون، إذ أنها تبقى حسب الفقيه الفرنسي باتيفول « Batifole » غريبة عن النظام القانوني الداخلي، الذي يشبه تطبيق القاضي للقانون الأجنبي بتطبيقه للوائح الشركات، فكلاهما قواعد عامة تطبق على حالات خاصة و لكنها لا تكتسب صفة القانون كونها غير صادرة عن المشرع الوطني(1).
وقد أخذ على هذا الإتجاه أنه ينطلق من نقطة بداية خاطئة فإذا كان أن القاعدة القانونية الأجنبية تفقد صفة الإلزام خارج إقليم المشرع الذي أصدرها، إلا هذه الصفة ترجع لها بمجرد أن تأمر قاعدة الإسناد بتطبيقها بوصفها القاعدة القانونية الأنسب لحكم هذه العلاقة، فالقانون الأجنبي يطبق أمام قاضي الدعوى لأن المشرع الوطني أمر بتطبيقه، أما في تشبيه القانون الأجنبي بلوائح الشركات فهو تشبيه مع الفارق لأن القاعدة القانونية الأجنبية عامة و مجردة أما لوائح الشركات فهي تحكم مركز ذاتية و حالات محددة.
وأخذ على هذا الإتجاه أيضا أنه استمد فكرته حول الصفة الواقعية للقانون الأجنبي من التقسيم الإجرائي لعناصر الدعوى إلى وقائع من جهة يثيرها و يتمسك بها الخصوم و إلى القانون الذي يقوم القاضي بتطبيقه على وقائع الدعوى و كما لاحظ أن القضاء لا يعامل القانون الأجنبي كالقانون الوطني تماما استخلص من ذلك أنه عنصرا من عناصر الواقع لأن ما يقابل القانون هو الواقع.







(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 247. 248

غير أن تقسيم عناصر الدعوى على النحو السالف الذكر، و اعتبار أن ما لا يدخل في إحداهما يدخل بالضرورة بالأخرى، هو تقسيم صالح في إطار المنازعات الداخلية فقط، و من ثم فإن إعماله في نطاق المنازعات الخاصة الدولية تجاهل لخصوصية هذه المنازعات الناتجة عن ظهور عنصر جديد لم يكن في الحسبان و هو القانون الأجنبي(1).
و لعل هذا ما دعا جانبا من الفقه الفرنسي إلى التأكيد أن موقف قضاءه من القانون الأجنبي لا يرجع إلى كونه أن يعتبره مجرد واقعة، بل راجع إلى الصعوبات العملية الناتجة عن تطبيق القانون الأجنبي خصوصا من ناحية صعوبة إثباته، و بسط الرقابة على تفسيره من قبل محكمة النقض.
و لعل ما يؤكد هذا الرأي هو أن محكمة النقض الفرنسية قد تراجعت على موقفها السابق من القانون و أصبحت تقضي بإلزام قاضي الموضوع بتطبيق القانون الأجنبي تلقائيا و البحث عن مضمونه عندما يتعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، بل إن هذه المحكمة أصبحت لا تبرر رفضها فرض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي بكونه واقعة صراحة إلى الإعتراف بصفته القانونية، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 13/01/1993 " أن قاضي الموضوع يطبق و يفسر بكل سيادة القانون الأجنبي، هذا الأخير يبقى رغم غياب رقابة محكمة النقض قاعدة قانونية لا تخضع لأحكام المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية الجديدة"(2) (3)









(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 254
(2) : Rev. Crit. dr. internat. privé. 1994. n° 1 tome 83. p78
(3): تنص المادة 07 من قانون الإجرءات المدنية الفرنسي الجديد أن القاضي لا يبني حكمه إلا على الوقائع التي تطرح أمامه في الدعوى، و بهذا أرادت محكمة النقض الفرنسية أن تقول أن القانون الأجنبي لا يدخل ضمن هذه الوقائع مما يعني الإعتراف بصفته كقانون.



الـمطـلب الـثانـي: الإعـتـراف بـالطـبيـعة الـقانونـية للقـانون الأجـنـبي
يميل الإتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى الإعتراف للقانون الأجنبي بصفته القانونية أمام القضاء الوطني، فيرى الفقه الإيطالي أن القانون الأجنبي الذي أشارت قاعدة الإسناد بتطبيقه يندمج في القانون الوطني ويصبح جزءا منه، و عليه فهو يعامل تماما كالقانون الوطني.
بينما يميل الإتجاه الراجح إلى الإعتراف للقانون الأجنبي بصفته القانونية و الأجنبية في نفس الوقت، و يؤكد هذا الإتجاه أن الصفة الأجنبية لهذا القانون هي التي تبرر المعاملة الإجرائية المختلفة التي يلقاها عن القضاء الوطني.
الـفـرع الأول: نـظريـة إدماج الـقانون الأجـنبي في النظـام القـانوني الوطـنـي
ترى المدرسة الإيطالية أن القانون الأجنبي لا يطبق من طرف القضاء الوطني بصفته الأجنبية و إنما بعد أن يندمج في القانون الأجنبي و يصبح جزءا منه و تصور هذه النظرية التي تسمى نظرية الإستقبال، قاعدة الإسناد الوطنية على أنها قاعدة بيضاء أو فارغة المضمون تمتص و تستوعب القوانين الأجنبية التي تشير بتطبيقها(1).
فالقانون الأجنبي وفقا لهذه النظرية لا يطبق بصفته تلك، و إنما يطبق بوصفه قانونا وطنيا لكون قاعدة الإسناد عندما تستوعب القانون الأجنبي، تنشأ أحكاما مطابقة للأحكام التي نص عليها هذا القانون غير أن الفقهاء الإيطاليون اختلفوا في نوع هذا الإدماج، فمنهم من قال أنه " إدماج مادي" بمعنى أن قاعدة الإسناد عندما تقضي بتطبيق قانون أجنبي تنشئ في الحقيقة أحكاما قانونية مطابقة لأحكام هذا القانون ويكون معنى القانون الأجنبي الواجب التطبيق هو " القانون الوطني المتفق مع القانون الأجنبي"، بينما يرى البعض الآخر أن الإدماج المقصود هو "إدماج شكلي" بمعنى أن القانون الأجنبي و إن أدمج في القانون الوطني إلا أنه مع ذلك يبقى محتفظا بمقوماته كقانون أجنبي(2).
وتستند هذه النظرية على فكرة الثنائية التي تقوم على وجود نظام قانوني دولي، ونظام قانوني وطني لكل دولة من جهة، و من جهة أخرى على خصوصية و تفرد كل نظام قانوني وطني داخلي و اختلافه على الأنظمة الأخرى، مما لا يسمح بتطبيق القانون الأجنبي إلا بعد استيعابه من قبل النظام القانوني الوطني(3).


(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 250
(2): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 576
(3) : Mohand Isaad. op. cit. p243

ويترتب على ثبوت الصفة القانونية للقانون الأجنبي وفقا لهذه النظرية أن القاضي ملتزم بتطبيقه تلقائيا، كما يفترض علم القاضي به تماما كالقانون الوطني، كما يخضع في تفسيره لهذا القانون إلى رقابة محكمة النقض.
غير أن هذه النظرية لاقت عدة إنتقادات، فالقول بإدماج القانون الأجنبي في النظام القانوني الوطني يقتضي، أن يطبق و يفسر كالقانون الوطني و في ذلك تجاهل للبيئة التي صدر فيها هذا القانون، كما أنه من الصعب أن نسلم بعلم القاضي بالقانون الأجنبي لكونه غير منشور في بلاده، كما انتقدت هذه النظرية لكونها تقوم على نوع من الرؤية الذهنية البعيدة عن الواقع القانوني(1).

الـفـرع الـثانـي: الإعـتـراف للقانون الأجنبـي بطبيعـته القانونية مع بقاءه قانـونا أجنـبيـا
يميل الإتجاه الغالب في قانون القضاء إلى تأكيد الطبيعة القانونية للقانون الأجنبي، مع الإحتفاظ بصفته الأجنبية في نفس الوقت، فهو يؤكد أولا أن القانون الأجنبي يطبقه القاضي بوصفه " قانونا " و هو لا يفقد هذه الصفة و لا ينقلب إلى واقعة إذا خرج من نطاق الإقليم الذي يباشر فيه المشرع الذي أصدره سيادته، و القول بأن القانون الأجنبي يعتبر أمام القاضي مجرد واقعة من شأنه أن يؤدي بنا إلى الإستنتاج أن القاضي يطبق " واقعة على واقعة"، و هو أمر لا معنى له. و ثانيا أن هذا القانون لا يفقد صفته الأجنبية بل يحتفظ بها، و القاضي يطبقه إستجابة لأمر المشرع الوطني الوارد في قاعدة الإسناد دون أن يدمج في النظام القانوني الوطني(2).
ويترتب على الإعتراف بالقانون الأجنبي بصفته القانونية مع بقاءه قانونا أجنبيا في نفس الوقت إختلاف في المعاملة الإجرائية التي يلقاها هذا القانون مقارنة بالقانون الوطني، و يفسر هذا الإختلاف بأن القانون الأجنبي ليس موجها في الأصل ليطبق من طرف القاضي الوطني، كما أنه لا ينشر في دولته و لا يفترض علم القاضي به, لأنه نشأ بعيدا عن الأجهزة التشريعية لدولة القاضي.
ولعل تشبيه القانون الأجنبي بالعرف بعض الصواب، فالعرف ينشأ و يتكون هو الآخر بعيدا عن الأجهزة التشريعية للدولة، مع أن هذا لا ينفي عنه صفته القانونية التي تتوفر بمجرد إكتمال عناصره و إحالة المشرع الوطني إليه، و هذا رغم أن العرف لا يفترض علم القاضي به كالنص التشريعي، و أن على الخصم الذي يتمسك بوجوده إثباته إلا أن هذا لا يمنع القاضي من القضاء فيه بعلمه الشخصي إذا كان يعلم به(3).

(1): Mohand Isaad. op. cit. p 174
(2): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 578
(3): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص252

و لا شك أن هذا الرأي الأخير القائم على التفريق بين الطبيعة القانونية للقانون الأجنبي و معاملته الإجرائية أمام القضاء الوطني يتفق مع طبيعة الأمور و يساعد على مرونة الحلول و تكييفها مع هذه النظرة، إذ لا يلزم بالضرورة أن يعامل القانون الأجنبي من الوجهة الإجرائية نفس معاملة القانون الوطني.
و سوف نرى في المبحثين التاليين أن التشريع و القضاء في كثير من الدول يميل نحو هذا الرأي فهو يعترف صراحة بالصفة القانونية للقانون الأجنبي و لا يدخر جهدا في تطبيقه من دون أن يهمل الصعوبات العملية التي تواجه القاضي و هو يطبقها و هذا ما يبرر معاملته إجرائيا بشكل مختلف عن القانون الوطني.























الـمـبـحـث الـثــانـي: إثــبــات مــضـمـون الـقـانـون الأجـنـبـي

من المبادئ المستقر عليها في قانون الإجراءات المدنية أن الخصوم يثبتون وقائع الدعوى، و أن القاضي يطبق القانون طبقا لما ثبت أمامه من وقائع فيستجيب لطلبات الخصوم أو يرفضها، غير أن الأمر لا يبدو كذلك إذا تعلق بالقانون الأجنبي، فهذا الأخير لا ينشر في دولة القاضي و لا يفترض علم القاضي به كما هو الشأن بالنسبة لقانونه الوطني، مما يجعل التساؤل حول كيفية إثباته ملحا؟
إن الصعوبات التي تثور بشأن إثبات مضمون القانون الأجنبي دفعت البعض إلى إلقاء عبء إثباته على الطرف الذي يتمسك بتطبيقه، بينما يميل البعض الآخر إلى إلزام القاضي بالبحث عن مضمونه بكل الوسائل المناسبة بما في ذلك طلب معاونة الخصوم.
غير أنه قد يتعذر في بعض الأحوال الوصول إلى مضمون هذا القانون مما يتعين معه تطبيق قانون آخر مكانه، و إلا أصبح القاضي منكرا للعدالة، مما يؤدي بنا إلى التساؤل أيضا حول القانون الذي يتعين تطبيقه في هذه الحالة؟
و على هذا الأساس سوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في المطلب الأول كيفية إثبات مضمون القانون الأجنبي، و في المطلب الثاني القانون الواجب تطبيقه في حالة تعذر إثباته.

الـمـطـلب الأول: كـيـفـيـة إثـبـات الـقانـون الأجـنـبي
القانون الأجنبي لا يفترض علم القاضي به كالقانون الوطني، لذلك فإن تطبيقه على وقائع الدعوى يحتاج أولا إلى إثبات مضمونه، و نظرا لأن تطبيق القانون الأجنبي يكون عادة في صالح أحد الأطراف في الدعوى، فإن هناك إتجاها في القضاء خاصة في الدول الأنكلوسكسونية يميل إلى إلقاء عبء لإثباته على عاتق الأطراف. بينما يميل الإتجاه الغالب في كثير من الدول إلى إلزام القاضي بالبحث عن مضمونه بكل الوسائل بما في ذلك طلب معاونة الخصوم.
الـفـرع الأول: عـبء إثـبـات الـقـانـون الأجـنـبي
يتجه الفقه و القضاء في بعض الدول إلى إلقاء عبء إثبات القانون الأجنبي على عاتق الأطراف في الدعوى، بينما يميل الإتجاه الراجح إلى إلقاء هذا العبء على عاتق القاضي.
1- إلـقـاء عـبء إثـبـات الـقـانـون الأجـنبي على عاتـق الخصـوم:
يتبنى هذا الموقف القضاء في الدول الأنكلوسكسونية و منها إنجلترا، فبالرغم من إلتزام القاضي نظريا بتطبيق القانون الأجنبي إذا أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد، إلا أنه مع ذلك يفترض أن مضمون هذا القانون يتطابق نع القانون الوطني و يترتب على ذلك أن عبء إثباته يقع على عاتق الطرف الذي يتمسك به و يدعي أن مضمونه مختلف عن القانون الوطني.
كما أن موقف القاضي في هذا النظام سلبي للغاية من مسألة إثبات القانون الأجنبي فلا يجوز له تطبيقه تلقائيا حتى و لو كان يعلم بمضمونه، و لا يجوز له أيضا أن يقضي بما أثبته الخصوم عن هذا القانون في دعوى سابقة، كما أنه إذا اتفق الخصوم على مضمون معين لهذا القانون فإن القاضي يأخذ به و يطبقه، غير أن بعض الأحكام الصادرة عن هذا القضاء ذهبت إلى أنه إذا كان مضمون القانون الأجنبي من الأمور الذائعة الصيت و المشهورة فإن القاضي يمكنه أن يقضي فيه بعلمه الشخصي(1).

كما أن الموقف التقليدي لمحكمة النقض الفرنسية يتبنى نفس الرأي عموما مع إبداء مرونة أكبر فهو يسمح للقاضي بأن يقضي في القانون الأجنبي بعلمه الشخصي إذا كان يعلم بمضمونه، أما إذا لم يكن على علم به فإن عبء إثباته يقع على عاتق الأطراف في الدعوى، و هذا الموقف التقليدي يجسده قرار لوتور « Lautour » الصادر بتاريخ 25/05/1948 الذي اعتبر " أن عبء إثبات القانون الأجنبي يقع على عاتق الطرف الذي يخضع إدعائه لهذا القانون" (2).

وقد أثار هذا القرار عدة إنتقادات لكونه قلب في الحقيقة عبء الإثبات إذ يكفي أن يدفع المدعى عليه بأن القانون الأجنبي الذي يطبق على الدعوى يكون لصالحه، حتى يكون المدعي في وضع حرج لكونه يصبح مطالبا بإثباته، نظرا لأنه الطرف الذي يخضع إدعاءه لهذا القانون.
كما يتيح الموقف التقليدي لمحكمة النقض الفرنسية للأطراف التمسك بتطبيق القانون الأجنبي لأول مرة أمام جهة الإستئناف لكونه ليس طلبا جديدا و إنما مجرد وسيلة دفاع جديدة، غير أنه لا يجوز لهم التمسك بتطبيقه لأول مرة أمام محكمة النقض (3).
غير أن المحكمة غيرت موقفها من هذه النقطة تماشيا مع قضائها بإلزام القاضي الفرنسي بتطبيق القانون الأجنبي تلقائيا إذا تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 01 جويلية 1997 في قضية طلاق بين زوجين من جنسية مغربية طبق فيها القاضي القانون الفرنسي " أن تطبيق القانون الأجنبي المختص لحكم نزاع يتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها يفرض على القاضي البحث عن مضمون هذا القانون" (4).

(1): نادية فضيل، المرجع السابق، ص35. 36
(2) : Loussouarne, et Bourel. op. cit. p 254
(3): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص581
(4) : Rev. Crit. dr. internat. Privé. 1998. n°1.p60


وهذا الموقف هو نفسه الذي كانت تتبناه محكمة النقض المصرية بإلقائها عبء إثبات القانون الأجنبي على عاتق الطر ف الذي يتمسك به مستندة في ذلك إلى أنه لا يعدو أن يكون مجرد واقعة، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 26 جويلية 1967 أن: " الإستناد إلى قانون أجنبي - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – لا يعدو إلا أن يكون مجرد واقعة و هو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه"(1).
غير أنها غيرت موقفها أيضا في قرار لها صادر بتاريخ 06 فيفري 1984 جاء فيه: " إذا كان من المقرر قانونا في قضاء هذه المحكمة أن التمسك بقانون أجنبي لا يعدو إلا أن يكون مجرد واقعة يجب إقامة الدليل عليها، فإن مرد هذا القضاء هو الإستجابة للإعتبارات العملية التي لا يتيسر معها للقاضي الإلمام بأحكام هذا القانون، فإن مناط تطبيق هذه القاعدة أن يكون القانون الأجنبي غريبا عن القاضي يصعب عليه الوقوف على أحكامه، و الوصول إلى مصادره، أما إذا كان القاضي يعلم بمضمونه أو كان علمه به مفترضا فلا محل للتمسك بهذه القاعدة" (2).
و يلاحظ على هذا القرار أن المحكمة فسرت تكييفها السابق للقانون الأجنبي بأنه مجرد واقعة بكونه لا يرجع إلى ماهية هذا القانون و طبيعته، و إنما هو أمر أملته فقط الإعتبارات العملية، كما أنها ألقت على القاضي بواجب البحث عن مضمون القانون الأجنبي مادام ذلك في استطاعته, أي طالما كان من اليسير عليه الوقوف على أحكامه و الوصول إلى مصادره, و هو يخضع في هذا إلى رقابة محكمة النقض التي تقيم علم القاضي على أساس معيار موضوعي يقاس بمسلك القاضي المجتهد في مثل ظروف و ملابسات الدعوى(3).













(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص264
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 354
(3): هشام علي صادق، دروس في تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 161

2- إثــبـات الـقـانـون الـوطنـي إلتـزام يقـع على عاتـق القـاضي:
يتجه القضاء و التشريع في عدة دول إلى إلزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي, كلما أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد الوطنية، فقط قضت بهذا محكمة النقض الإيطالية في القرار الصادر عن دوائرها المجتمعة بتاريخ 26 فيفري 1966 وهو نفس اتجاه محكمة النقض البلجيكية في قرارها الصادر في 23 فيفري 1984، كما أن المشرع الألماني والسويسري تدخل بنص صريح و ألزم القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي من تلقاء نفسه مستخدما في ذلك كافة الوسائل المتاحة بما في ذلك طلب معاونة الخصوم. و كما رأينا فإن هذا الإتجاه هو نفسه الذي تسلكه محكمة النقض الفرنسية كلما تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها.
ومضمون هذا الإتجاه أن القاضي يلتزم بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي بكل الوسائل، و هو إلتزام تمليه عليه القواعد العامة في المرافعات التي تقضي بأن يطبق القاضي القانون على وقائع الدعوى دون حاجة إلى تمسك الخصوم به أو إثباته، غير أنه يمكنه أن يطلب معاونة الخصوم نظرا لأن مصلحتهم قد تكون في تطبيق هذا القانون. و لا يعفى القاضي من هذا الإلتزام إلا إذا بذل قصارى جهده و لم يصل إلى نتيجة، فالتزامه بالبحث عن القانون الأجنبي هو إلتزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة و بالتالي يبرأ منه إذا أثبت أنه سعى جاهدا إلى الوصول إلى مضمونه غير أنه تعذر عليه ذلك و يجب عليه في هذه الحالة تسبيب حكمه و إلا تعرض للنقض(1).
وفي رأينا أن هذا الرأي هو الواجب الإتباع في الجزائر في ظل سكوت المشرع الجزائري, و عدم وجود إجتهاد من المحكمة العليا حول هذه النقطة، و هذا راجع لعدة إعتبارات منها أن الإلتزام بتطبيق القانون على وقائع الدعوى هو إلتزام يقع على عاتق القاضي طبقا للقواعد العامة في الإجراءات, و هذا حتى ولو كان الأمر يتعلق بقانون أجنبي طالما أن القاضي طبقه إمتثالا لأمر المشرع الوطني الوارد في قاعدة الإسناد الوطنية، كما أن هذا الرأي يتماشى مع حكمة المشرع الذي اختار القانون الأجنبي بوصفه القانون الأنسب لحكم العلاقة القانونية محل النزاع، فكان لزاما إذا على القاضي الجزائري أن يبذل جهده لتطبيق هذا القانون بالبحث عن مضمونه من تلقاء نفسه دون انتظار مبادرة الخصوم بذلك، خاصة و أن القانون الأجنبي يتعلق في كثير من الحالات بمجالات من النظام العام لا يجوز للأطراف التصرف فيها كمسائل الحالة الشخصية.




(1): هشام عي صادق، دروس في تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 162. 163


الـفـرع الـثـانـي: وسـائـل إثـبـات الـقـانـون الأجـنـبـي
إذا كان من المسلم به أن القانون الأجنبي قد يكون محلا للإثبات نظرا لأنه لا ينشر في دولة القاضي و لا يفترض علمه به كالقانون الوطني، لكنة هذا لا يعني أن القانون الأجنبي أصبح محلا للإثبات بالمعنى القانوني للكلمة، و المقصود به إثبات وقائع الدعوى بوسائل حددها المشرع سلفا، ذلك أن القاضي في بحثه عن مضمون القانون الأجنبي ينشد الوصول إلى الحقيقة الموضوعية لا إلى الحقيقة القضائية كما يعرضها الخصوم.
وفي ظل سكوت التشريعات الحديثة و منها المشرع الجزائري عن وسائل إثبات القانون الأجنبي يتجه الفقه الحديث إلى عدم التقيد بطرق الإثبات القضائي التي نظمها المشرع لإثبات الوقائع، و إعطاء حرية أكبر للقاضي للإلتجاء إلى كافة وسائل العلم بالقانون الأجنبي التي يراها الأصلح للوصول إلى مضمون هذا القانون دون أن يتقيد سلفا بالطرق التي نص عليها المشرع لإثبات الوقائع و إن جاز له الاستهداء بها إذا قدرها ملائمة لإثبات هذا القانون.
وتطبيقا لهذا فقد استقر الفقه و القضاء في فرنسا على استبعاد الإعتراف و اليمين كوسائل إثبات القانون الأجنبي على الرغم من أنها من أكثر الطرق المستعملة لإثبات الوقائع, لأن القاضي في بحثه عن مضمون هذا القانون يبحث عن حقيقة موضوعية لا عن حقيقة ذاتية ينشئها الخصوم في الدعوى(1).
وسوف نستعرض فيما يلي أهم الطرق المستعملة لإثبات القانون الأجنبي:
1- الـخـبرة الشـفـويـة:
تستبعد شهادة الشهود من وسائل إثبات القانون الأجنبي لأن الشاهد تسمع شهادته على وقائع رآها أو سمعها، أما القانون الأجنبي فلا يصلح لأن يكون محلا للشهادة لكونه يتطلب علما و خبرة بمضمونه. و بالمقابل فإن الخبرة الشفوية تعتبر من الطرق المستعملة لإثبات القانون الأجنبي خصوصا من طرف المحكم الإنجليزية و هو اتجاه سارت عليه مؤخرا بعض المحاكم الفرنسية و أيده الفقه هناك(2).
والخبير يكون في هذه الحالة من أهل الدراية و الإختصاص في القانون الأجنبي المراد الكشف عن مضمونه، كما أن الخصوم يمكنهم مناقشته فيما أدلى به عن مضمون هذا القانون و إبداء ملاحظاتهم، كما أنه و تطبيقا للقواعد العامة فإن القاضي له السلطة التقديرية الكاملة في قبول الخبرة أو استبعادها بحكـم
مسبب.





(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 268
(2): نادية فضيل، المرجع السابق، ص 61
2- الـخـبـرة الـمكـتـوبـة:
الإلتجاء إلى الخبرة المكتوبة هو عادة المسلك المتبع من قبل المحاكم الفرنسية، و تسمى هناك بشهادات العرف « Certificats de coutume » وهي مستندات مكتوبة من قبل أخصائيين في القانون المراد إثابته، و يعود هذا الإصطلاح إلى ماجرى به العمل في فرنسا قبل صدور تقييم مجموعة نابليون حيث كان يحكم كل مدينة عرف محلي خاص بها، و كان إثبات هذه الأعراف يتم عن طرق شهادات عرف يحررها متخصصون في هذه الأعراف(1).
كما أن الخبرة المكتوبة كالخبرة الشفوية يجب أن تعرض على الأطراف في الدعوى لإبداء ملاحظاتهم بشأنها إحتراما لحقوق الدفاع و مبدأ وجاهية الدعوى و تخضع أيضا لتقدير القاضي.
3- نـصــوص القـانون الأجـنبـي أو تـرجـمتـها:
من الوسائل التي يمكن اعتمادها لإثبات القانون الأجنبي نصوص هذا القانون نفسها كما هي صادرة في الجريدة الرسمية أو مترجمة و من الأفضل أن تكون هذه الترجمة رسمية، كما أنه كلما كانت هذه النصوص صادرة عن هيئة معروفة أو في مؤلف علمي معتمد كانت ها مصداقية أكبر في الإثبات(2).
و على كل فإن الأخذ بهذه النصوص أو استبعادها يخضع أيضا لتقدير القاضي.
4- الـمؤلـفـات الـفقـهـيـة:
يمكن للقاضي أيضا الإستعانة بالمؤلفات الفقهية كوسيلة لإثبات القانون الأجنبي خصوصا أن هذه المؤلفات لا تثبت القانون الأجنبي فقط، و إنما تقوم أيضا بشرحه و تفسيره و هو ما يساعد القاضي على تطبيقه، لكن يستحسن أن تكون هذه المؤلفات حديثة تفاديا لإمكانية أن يكون القانون الأجنبي المراد إثباته قد تم تعديله.
5- الأحـكـام الـقضـائـيـة:
في ذات السياق يمكن للقاضي أيضا الإستعانة بالأحكام القضائية السابقة التي صدرت بمناسبة الفصل في نزاع مماثل للنزاع المطروح أمام القاضي، سواءا تلك الصادرة عن جهات قضائية وطنية أو أجنبية.
كما أنه يمكن للقاضي اللجوء إلى الإنابة القضائية الدولية خصوصا بالنسبة للدول التي تربطها مع الجزائر إتفاقيات للتعاون القضائي.
كما نشير أيضا إلى أن وسائل العلم بالقانون الأجنبي قد تيسرت كثيرا، نتيجة لظهور شبكة الإنترنيت التي لا تتيح للقاضي فقط الإطلاع على أحكام هذا القانون و إنما على تفسيره و كيفية تطبيقه من طرف القضاء هناك.

(1): نادية فضيل، المرجع السابق، ص 68
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 372
الـمـطـلب الـثانـي: الـقانـون الـواجـب تـطبيقه في حالـة تـعذر إثـبات الـقانـون الأجنبي
الصعوبات التي تواجه القاضي عند بحثه عن مضمون القانون الأجنبي تجعل فرضية تعذر إثباته مطروحة، و ما دمنا قد سلمنا من جهة أخرى أن إلتزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي هو إلتزام ببذل عناية ينتهي إذا تعذر عليه الوصول إلى مضمونه رغم بذله قصارى جهده، و التساؤل الذي يطرح هنا هو حول القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة إذا تعذر الوصول إلى القانون الأجنبي، خاصة و أن القاضي ملزم طبقا للقانون بالفصل في النزاعات التي تطرح أمامه و إلا كان منكرا للعدالة.
إن الإجابات المقدمة لهذا التساؤل تعددت، فهناك من يرى أن القاضي يطبق في هذه الحالة المبادئ العامة المستقر عليها في الأمم المتمدنة، و يميل إتجاه آخر إلى تطبيق القانون الأقرب إلى القانون الذي تعذر الكشف عن مضمونه، بينما يميل الإتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى تطبيق القانون الوطني للقاضي في هذه الحالة.
و سوف نعرض لكل هذه الإتجاهات مع تقدير كل منها و بيان الموقف الذي إتخذه المشرع الجزائري
الـفـرع الأول: تـطـبـيـق الـمـبـادئ الـعامـة الـسـائـدة فـي الأمـم الـمتمدنـة:
يرى البعض أنه إذا تعذر على القاضي الوصول إلى مضمون القانون الأجنبي فعليه في هذه الحالة أن يطبق " المبادئ العامة" أو " القواعد العقلانية المستمدة من العقل و المنطق و العدالة"، و قد طبقت هذا الرأي بعض أحكام القضاء الفرنسي و الأمريكي، و يستند هذا الرأي إلى حجة تقوم على افتراض تطابق القانون الواجب تطبيقه مع ما يسمى " بالمبادئ العامة السائدة في الأمم المتمدنة "(1).
غير أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو كون هذه المبادئ العامة السائدة في الأمم المتمدنة هي عبارة عن قواعد عامة لا تفي بالغرض، فحتى لو سلمنا فرضا بوجود هذه المبادئ كمبدأ " العقد شريعة المتعاقدين" فإن النزاع لا يكون مطروحا حول المبدأ في حد ذاته و إنما حول حدوده و تفصيلاته و هو ما ينفرد ببيانه كل قانون، فضلا عن أن تطبيق هذا الرأي يؤدي إلى اختلاف الأحكام من محكمة إلى أخرى نظرا لعمومية هذه المبادئ و سعتها.
الـفـرع الـثانـي: تـطبيـق الـقانون الأقـرب إلى القـانون الأجـنبي الـذي تـعذر إثـباته
يميل إتجاه آخر إلى تطبيق القانون الأقرب إلى القانون الأجنبي الذي تعذر الوصول إلى مضمونه، و يستند في ذلك إلى أن تطبيق هذا القانون فيه انسجام مع قاعدة الإسناد و حكمة التشريع فإذا ما أشارت قاعدة الإسناد بتطبيق القانون الأمريكي و تعذر على القاضي الكشف عن مضمونه فإنه من الأجدر في هذه الحال تطبيق القانون الإنجليزي لأنه من نفس العائلة القانونية(2).



(1) (2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 271

غير أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو أنه لا يمكن الجزم بوجود تقارب بين التشريعات المختلفة في نفس المسألة، حتى و لو كانا ينتميان إلى نفس العائلة القانونية، لأن النزاع كما أسلفنا ينصب على نقطة قانونية محددة لا على مبدأ عام، و هو ما يمكن معه إفتراض وجود إختلافات حتى بين القوانين المتقاربة. كما أنه في تطبيق هذا القانون مفاجأة للأطراف، بتطبيق قانون غريب لم تشر إليه قاعدة الإسناد.
الـفـرع الـثـالـث: تـطـبـيق الـقـانـون الـوطـني
يميل الإتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى تطبيق القانون الوطني القاضي في حالة تعذر الوصول إلى مضمون القانون الأجنبي وهو المستقر عليه في فرنسا و إيطاليا و سويسرا و ألمانيا و دول أخرى، و هو نفس الرأي الذي تبناه المشرع الجزائري بموجب التعديل الجديد للقانون المدني إذ تنص المادة 23 مكرر: " يطبق القانون الجزائري إذا تعذر إثبات القانون الأجنبي الواجب تطبيقه".
و يستند هذا الإتجاه في تطبيق القانون الوطني مكان القانون الأجنبي الذي تعذر إثبات مضمونه إلى ما لهذا القانون من خاصية إحتياطية بالنسبة للعلاقات الخاصة الدولية، حيث يعود إليه القاضي و يطبقه إذا استحال عليه إثبات القانون الأجنبي الذي أشارت قاعدة الإسناد الوطنية باختصاصه، و لأن الأصل هو إطلاق الإختصاص التشريعي لهذا القانون في بلد القاضي و كون هذا الإطلاق هو الأصل في تطبيق القانون من حيث المكان (1).
غير أن البعض يشترط لتطبيق هذا القانون أن يكون على صلة منطقية بالنزاع المطروح أمام القاضي و ليس غريبا تماما عنه لأن تطبيق القانون الوطني قد يؤدي في بعض الحالات إلى نتائج غير مقبولة تتنافى مع مبادئ العدالة و يقترح في مثل هذه الحالة تطبيق القانون الأكثر ارتباطا بالمسألة المعروضة على القاضي بعد القانون الذي تعذر الكشف عن مضمونه(2).
و نشير في الأخير إلى أن تطبيق القانون الوطني في هذه الحالة مشروط بداهة بعدم وجود قاعدة إسناد إحتياطية نص عليها المشرع، إذ لو وجدت هذه القاعدة فإن القاضي يطبق القانون الذي تشير باختصاصه سواء كان قانونه الوطني أو قانونا أجنبيا، كما هو الحال بالنسبة للمادة 18 من القانون المدني الجزائري بشأن القانون الذي يطبق على العقود.







(1): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 592
(2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 274


الـمـبحـث الـثـالـث: تـفـسيـر الـقـانـون الأجـنـبي

إذا ما تمكن القاضي من الوصول إلى مضمون القانون الأجنبي، انتقل إلى تطبيقه على وقائع النزاع المطروح أمامه، غير أن القاضي و هو يطبق هذا القانون قد يبدو له معناه غامضا و غير واضح، فيلجأ إلى تفسيره لإعطاءه المعنى الصحيح، إلا أن تفسير القاضي للقانون الأجنبي يطرح تساؤلين أولهما حول الطريقة التي يفسر بها هذا القانون أي هل يفسر حسب الطرق المعتمدة في تفسير القانون الوطني بالبحث عن نية المشرع و تحري المعنى الصحيح للنص طبقا للمبادئ القانونية و المفاهيم السائدة في دولة القاضي أم أن القاضي لا يمكنه تفسيره إلا كما هو مفسر و مطبق في الدولة التي صدر فيها؟
والتساؤل الثاني الذي يطرح هو حول رقابة محكمة النقض على هذا التفسير، فإذا كانت هذه الأخيرة بوصفها محكمة قانون تراقب تطبيق القاضي الموضوع للقاعدة القانونية الوطنية فهل تراقب تفسير القانون الأجنبي؟
وعلى هذا الأساس نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في المطلب الأول منه كيفية تفسير القاضي للقانون الأجنبي و في مطلب ثان رقابة محكمة النقض على هذا التفسير.
الـمـطـلب الأول: كـيـفيـة تـفسـير الـقـاضي للقـانـون الأجـنـبي
إذا كان القاضي ملتزما بتطبيق القانون الأجنبي المختص على وقائع الدعوى فإن هذا يعني أنه السلطة الكاملة في تفسيره متى بدا له مبهم المعنى و يحتاج إلى تفسير، غير أنه و بالنظر إلى أن تفسير النص القانوني بهذه الطريقة أو تلك يلعب دورا هاما في حسم النزاع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، فإن التساؤل الذي يطرح هنا هو حول كيفية تفسير القاضي لهذا القانون؟
و نظرا لأن الأمر يتعلق بالقانون الأجنبي فهناك فرضيتان أولهما أن يتبع القاضي في تفسيره له المنهج المتبع في تفسيره لقانونه الوطني فيخرج لنا بالتالي تفسيرا وطنيا لقانون أجنبي، و الفرضية الثانية أن يتبع التفسير المعطى له في الخارج أي في دولته الأصلية.
الـفـرع الأول: تفـسير القانون الأجنـبي وفقا للمنـهج المتبع في تفـسير القـانون الـوطني
يرى جانب من الفقه أن منهج القاضي في تفسير القانون الأجنبي لا يختلف البتة عن المنهج الذي يتبعه في تفسير القانون الوطني، فهو في كلت الحالتين يبحث عن نية المشرع، مراعيا في ذلك نصوص هذا القانون الأخرى، مستهديا بمبادئ العدالة و فقا للمفاهيم السائدة في دولته. و إن جاز له الرجوع في تفسيره للقانون الأجنبي إلى الآراء السائدة لدى كل من الفقه و القضاء الأجنبيين إلا أنه مع ذلك غير ملزم
بها، لأنه إذ يحكم بالعدل فهو يفعل ذلك باسم الدولة التي يتبعها و تحت مسؤوليتها، و لا يلتزم بالحلول القضائية السائدة في الخارج إلا في الحالة التي يعتبر القضاء مصدرا رسميا للتشريع في الدولة التي يطبق قانونها(1).
غير أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو كونه يؤدي إلى فصل القانون الأجنبي عن البيئة التي يطبق فيها، فالمشرع عندما أشار بتطبيق القانون الأجنبي إنما قصد القانون الأجنبي السائد فعلا في الخارج لا مجرد النصوص المطلقة التي يحتويها، و أن القول بغير هذا يؤدي إلى تحريف هذا القانون و إعطاءه معنا لم يقصده أصلا مشرع الدولة التي أصدرته.
الـفـرع الـثانـي: تـفسيـر القانـون الأجـنبي وفـقا لتفسيره في دولـته الأصـليـة
يميل الإتجاه الغالب في الفقه إلى إلزام القاضي بتفسير القانون الأجنبي حسب ما هو مفسر في دولته التي صدر فيها، و يستند في ذلك إلى أن قاعدة الإسناد إذا ما عينت قانونا أجنبيا لحكم النزاع فإن على القاضي أن ينظر إلى هذا القانون في مجموعه « Dans sa totalité »، أي سواءا من حيث مصادره أو الحلول و التفسيرات التي يكرسها له القضاء الأجنبي، و ذلك حتى و لو بدا له النص واضحا و لا يحتاج إلى تفسير، لأنه يطبق القانون الأجنبي الموجود فعلا في الخارج و لأن القاعدة القانونية الأجنبية لا تتشكل من مجرد النصوص التشريعية و ما تتضمنه من مبادئ عامة و مطلقة، بل إن مضمونها الحقيقي هو مجموع هذه المبادئ كما هي مطبقة في واقع الحال في الدولة الأجنبية(2).
غير أنه يمكن للقاضي إستثناءا على هذا المبدأ أن يقوم بدور إيجابي في تفسير النص القانوني الأجنبي متى بدا له أنه غير مفسر في الخارج أو قد أعطيت له تفسيرات متناقضة من قبل القضاء هناك، على أن يراعي في تفسيره البيئة التي صدر فيها و المبادئ القانونية السائدة في الدولة المصدرة له.
وفي رأينا أن هذا الرأي هو الأولى بالإتباع بالنسبة للقاضي الجزائري، وهذا كل ما تمكن من معرفة التفسير المعطى في الخارج للقانون الأجنبي و هذا للإعتبارات التي ذكرناها سالفا، أما إذا لم يتمكن من التعرف على التفسير المعطى له ففي هذه الحالة يقوم بتفسيره مراعيا بذلك البيئة التي صدر فيها و المبادئ القانونية السائدة في تلك الدولة.










(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 270
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 379
الـمـطـلب الـثانـي: رقـابة محـكمـة النـقض عـلى التفسـير القانوني الأجـنـبي
إذا كان من المستقر عليه أن محكمة النقض تراقب تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد بوصفها قاعدة قانونية وطنية، يلزم القاضي بحسن تطبيقها، فإذا أخطأ القاضي في تفسيرها أو في تكييف العلاقة القانونية محل النزاع، فإن حكمه هذا يكون معرضا للنقض، غير أن ما يثير التساؤل هو مدا رقابة هذه المحكمة على تطبيق القانون الأجنبي؟
إن موقف القضاء من هذه المسألة مختلف من دولة إلى أخرى، فبينما تستبعد محكمة النقض الفرنسية فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي، إلا في حالة تحريف مضمونه، يتمسك بالمقابل القضاء في كثير من الدول بفرض رقابة على تطبيق و تفسير هذا القانون.
أما في الجزائر و غياب إجتهاد من المحكمة العليا حول هذه النقطة فإن المشرع الجزائري يميل إلى عدم إخضاع تطبيق هذا القانون لرقابة المحكمة العليا إلا إذا تعلق القانون الأجنبي بالحالة الشخصية.
الـفـرع الأول: رفـض الرقابة على تفسير الـقانون الأجنبي: مـوقف محكمة النقض الفـرنسيـة
يتسم موقف محكمة النقض الفرنسية برفضها فرض رقابتها على تفسير و تطبيق قاضي الموضوع للقانون الأجنبي إلا إذا كان هذا الأخير قد حرف النص القانوني الأجنبي بالخروج الكامل عن معناه الواضح
1- الـمـبدأ: رفـض الـرقـابة عـلى تفسـير الـقانون الأجـنبـي
ترفض محكمة النقض الفرنسية في كثير من قرارتها فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي معتبرة أن تطبيق و تفسير هذا القانون يخضع لمطلق سلطة تقدير قاضي الموضوع، و اللافت أنها لا تستند في ذلك إلى أن القانون الأجنبي يعتبر واقعة أمامها، بل تشير صراحة إلى صفته القانونية فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 13 جانفي 1993 أن " قاضي الموضوع يطبق و يفسر بكل سيادة القانون الأجنبي، هذا الأخير يبقى رغم غياب رقابة محكمة النقض قاعدة قانونية لا تخضع لأحكام المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية الجديد"(1).
و قد ماثل الفقه الفرنسي بين موقف المحكمة من تفسير القانون الأجنبي و موقفها من تفسير العقود، إذ أنها ترفض أيضا فرض رقابتها على تفسير قاضي الموضوع للعقود، غير أن هذا التشبيه أثار إنتقادات عديدة، على أساس أن العقود مراكز قانونية ذاتية يقتضي تفسيرها البحث عن نية المـتعاقدين، و التحري




(1): Rev. Crit. dr. internat. privé. 1994 n°1 tome 83. p 78

على الظروف الواقعية الملابسة للعقد، و قد يتطلب الأمر اللجوء إلى إجراء تحقيق و هو ما يخرج عن دور محكمة النقض، أما القانون الأجنبي فهو يتضمن قواعد عامة و مجردة يمكن أن تخضع لتفسير المحكمة دون أن يتطلب منها ذلك التطرق إلى وقائع الدعوى.
لذا فإن الفقه الفرنسي الحديث يميل إلى تبرير موقف محكمته بأسباب إجرائية بحتة تتعلـق بتنظيم المحكمة، و دورها في النظام القضائي الفرنسي الذي يتمثل في المحافظة على وحدة تـطبيق الـقانـون الـفرنسـي، وإعطاءه التفسير الصحيح، أما إذا مددت مهمتها هذه إلى القانون ففي هذه الحالة لا تعطيه تفسيرها الخاص كما تفعل بالنسبة للقانون الوطني، و إنما تبحث عن التفسير المعطى له في الخارج، و هو ما يدفعها للقيام بتحريات واقعية تخرج عن وظيفتها كمحكمة قانون(1).
إلا أن هذا التبرير لموقف المحكمة تعرض بدوره إلى انتقادات من جانب الفقه الفرنسي مستندا في ذلك إلى أن وظيفة محكمة النقض هي توحيد الحلول القضائية السائدة في الدولة، و هذا يقتضي منها فرض رقابتها على تفسير قواعد هذا القانون وطنية كانت أم أجنبية. و من جهة أخرى أنه إذا كان صحيحا أن البحث عن التفسير المعطى للقانون الأجنبي في الخارج أمر غير ميسر في جميع الأحول إلا أن هذا البحث لا يضفي على مهمة الحكمة صفة الواقع، فالبحث عن مضمون العرف الداخلي لا يقل صعوبة عن التصدي لتفسير القانون الأجنبي، و مع ذلك فإن محكمة النقض الفرنسية لم تتردد في فرض رقابتها على تفسير القواعد العرفية. كما أن الرأي السالف يتجاهل تطور الدراسات المقارنة التي يسرت على القاضي مهمة البحث عن مضمون القانون الأجنبي و تفسيره (2).
و لعل كل هذه الإعتبارات هي التي أدت إلى تغيير موقف المحكمة في اتجاه فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي في حالة تحريف مضمونه.
2- الإسـثـنـاء: فـرض الرقابـة في حالة تحريف مضـمـون الـقانـون الأجـنـبي
على الرغم من أن نظرية تحريف « la Dénaturation » القانون الأجنبي كانت معروفة لدى القضاء الفرنسي منذ زمن بعيد، إلا أن محكمة النقض لم تطبقها إلا مرة واحدة في حكم لها صادر بتاريخ 18 جويلية 1878، و منذ صدور هذا القرار كانت المحكمة ترفض باستمرار فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي تحت شكل من الأشكال، إلى أن صدر قرار مونتيفيور « Montefiore » بتاريخ 21 نوفمبر 1961، وهو القرار الذي نقض حكم قاضي الموضوع بدعوى أنه: " تجاهل و حرف المعنى الواضح و الدقيق للمستند التشريعي"


(1) : Laussouarne, et Bourel. op. cit. p 258.259
(2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 288
و كان الطعن مؤسسا على أن قاضي الموضوع حمل دولة بلجيكا المسؤولية عن القرض محل النزاع متجاهلا بذلك القانون الصادر في: 18 أكتوبر 1908 الذي نص بوضوح على فصل الذمة المالية لبلجيكا عن الذمة المالية لدولة الكونغو التي كانت مستعمرة بلجيكية في ذلك الوقت(1).
و من بين القرارات الحديثة أيضا التي مارست فيها المحكمة رقابتها على تحريف القانون الأجنبي القرار الصادر في 01 جويلية 1997 الذي نقض حكم قاضي الموضوع كونه: " تجاهل المعنى الحرفي الواضح للمادة 1380 من قانون الالتزامات المدنية و التجارية السنغالي، و فسره التفسير ذاته المعطى للمادة 244 من القانون المدني الفرنسي رغم أن عبارات النصين ليست متطابقة، و دون الرجوع إلى أية مصادر أخرى معتمدة في القانون السنغالي" (2).
لكن رغم ذلك فإن الملاحظ على قضاء هذه المحكمة هو أنها تلجأ إلى هذه الوسيلة بحذر شديد، و لا تأخذ بها إلا في حالات محددة تقدر فيها أن القاضي قد حرف مضمون القانون الأجنبي، و هو ما جعل جانبا من الفقه يتساءل عن المعيار المعتمد للتفريق بين مجرد الخطأ في تطبيق هذا القانون، و تحريف مضمونه.
ففكرة خروج القاضي عن المعنى المحدد و الواضح للقانون الأجنبي، لا تصلح كمعيار للتفرقة لأن النص القانوني الأجنبي ليس في حقيقته إلا جزءا من التنظيم التشريعي ككل، و لا يمكن الحكم بوضوحه أو غموضه إلا بالرجوع إلى النصوص الأخرى التي يتضمنها هذا التنظيم. فليس من الممكن التعرف على حقيقة مضمون القاعدة القانونية إلا بالرجوع إلى مجموعة القواعد القانونية الأخرى و إلى التفسير المعطى لها من طرف القضاء الأجنبي، و على هذا الأساس يرى جانب من الفقه أن المحكمة مارست في الحقيقة التفسير تحت ستار فكرة التحريف، و أن هذه الرقابة تبقى سلطة تقديرية للمحكمة تحتفظ بها لنفسها في الحالات التي تراها لازمة و مناسبة(3).
الفـرع الـثانـي: فـرض الرقابة على تفـسير القانـون الأجنبي: موقف محكـمة النقض المصـرية
تميل محكمة النقض المصرية إلى اتجاه فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي تماما كالقانون الوطني، و هذا هو إتجاه القضاء في دول أخرى كإيطاليا، تركيا و اليونان و أيضا العديد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة، الكويت و الأدرن، و هذا الموقف تبناه صراحة المشرع التونسي في المادة 34 من المجلة التونسية للقانون الدولي الخاص إذ تنص هذه المادة " يطبق القاضي القانون الأجنبي كما




(1) : Laussouarne, et Bourel. op. cit .p 269
(2) : Rev. Crit. dr. internat. privé. 1998 n° 2. p292
(3): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 294
وقع تأويله في النظام القانوني المنتمي إليه، و يخضع تأويل الـقانون الأجنبي لرقابة محكمة التعقيب"(1).
وقد استحسن الفقه المصري موقف محكمته فير فرض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي، معتبرا أن ذلك يدخل في نطاق وظيفتها، و واجبها المتمثل في توحيد الحلول القضائية في الدولة، كما لم يجد أي تناقض بين موقف المحكمة من إثبات القانون الأجنبي الذي ألقت بعبء إثباته على عاتق الخصوم في بعض الحالات، و بين موقفها في فرض رقابتها على تفسير هذا القانون معتبرا أنها لم تنكر على هذا القانون صفته القانونية إبتداءا، بل رأت أنه ليس من السائغ أن ترهق القاضي في كل مرة بالبحث عن قوانين يجهلها، و قدرت أن الأصل هو وقوع هذا الإلتزام على عاتق الخصوم بوصفهم أصحاب مصلحة. أما و قد ثبت مضمون هذا القانون فليس من العسير عليه أن تلزمه بحسن تطبيقه مادام ذلك يدخل في نطاق وظيفته و هي أن يطبق القانون التطبيق السليم و يحسن تفسيره (2).
الـفـرع الـثالـث: مـوقـف الـمشـرع الـجزائـري
في ظل غياب إجتهاد من المحكمة العليا في الجزائر حول مسألة فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي، فإن المادة 233/5 من قانون الإجراءات المدنية جاءت بموقف المشرع الجزائري حول هذه النقطة، إذ تنص أن أحد أوجه الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا هو: " مخالفة أو خطأ في تطبيق القانون الداخلي أو الخطأ في تطبيق قانون أجنبي متعلق بالأحوال الشخصية" فقراءة هذا النص بمفهوم المخالفة تقتضي أن المحكمة العليا في الجزائر لا تبسط رقابتها على المخالفة أو الخطأ في تطبيق قانون أجنبي غير متعلق بالأحوال الشخصية.
إن هذه الأهمية التي أولاها المشرع للقانون الأجنبي المتعلق بالأحوال الشخصية، تعود إلى إرتباط مسائل الحالة الشخصية بالنظام العام، و لهذا فإنه ارتأى إخضاعها لنفس الأحكام المتعلقة بالقانون الوطني، و هذا ما يوجب على قضاء الموضوع السهر على حسن تطبيقها و تفسيرها التفسير الصحيح، و إلا تعرض قضاءهم للنقض.
غير أن هذا النهج الذي تبناه المشرع الجزائري في التفريق بين القانون الأجنبي المتعلق بالحالة الشخصية و القانون الأجنبي المتعلق بمجالات أخرى، لاقى انتقادا من البعض على أساس أن القاضي قد يطبق في دعوى واحدة قانونا أجنبيا متعلقا بالحالة الشخصية و قانونا أجنبيا غير متـعلق به، و هو ما يوجب على قضاة المحكمة العليا التفريق بينهما و هو أمر صعب و غير سائغ(3).



(1): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 427
(2): هشام علي صادق، المرجع السابق، ص 289
(3): Mohamed Isaad. op. cit. p 199
و قد دفع هذا الموقف من المشرع الجزائري البعض إلى القول أن القانون الأجنبي يعتبر في نظر هذا الأخير مجرد واقعة إذا لم يكن مرتبطا بالحالة الشخصية، و قد بينا خطأ هذا الرأي عندما خلصنا- كما يرى ذلك الفقه الحديث- إلى ضرورة التفريق بين طبيعة القانون الأجنبي، و معاملته الإجرائية بشكل مختلف عن المعاملة التي يلقاها القانون الوطني نتيجة للصعوبات العملية التي تواجه القاضي عند تطبيقه للقانون الأجنبي.
على أننا و إن كنا نرى أن نص المادة 233/5 بصيغتها الحالية لا تسمح للمحكمة العليا ببسط رقابتها على تفسير القانون الأجنبي إذا لم يكن متعلقا بالحالة الشخصية، إلا أنه لا يوجد ما يمنعها من بسط رقابتها في حالة التحريف الكامل لمضمون النص القانوني الأجنبي لأن في هذا خرق لقاعدة الإسناد الوطنية في حد ذاتها التي أشارت بتطبيق هذا القانون فكأن القاضي بتحريفه لمضمونه طبق قانونا آخر لم تشر إليه هذه القاعدة أصلا. و أيضا فإن هذا الرأي يتماشى مع الإجتهاد القضائي في الدول التي لا تأخذ بالرقابة على تفسير القانون الأجنبي.



















الـخــاتـمــة

بعد أن إنتهينا من دراسة مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، و استعراض مختلف الإشكاليات التي تواجه القاضي عند تطبيقه، و الحلول المقترحة لها، فإن ما يمكن أن نخلص إليه من دراستنا لتعامل القضاء و التشريع في كثير من الدول مع هذا القانون، هو أن هذا الأخير أصبح محل تطبيق من القضاء الوطني في كل دول العالم، و هو ما دعا بالبعض إلى القول بوجود عرف دولي ملزم يحتم على كل دولة السماح بتطبيق القوانين الأجنبية على إقليمها، كما أن القانون الأجنبي أصبح يحتل تدريجيا مكانة تضاهي المكانة التي يتمتع بها القانون الوطني، و هذا ما نلاحظه من خلال إتجاه القضاء الوطني في كثير من الدول إلى تطبيقه تلقائيا و الإعتراف بطبيعته كقانون خلافا لما كان عليه الحال في السابق.
إن هذه المكانة التي أصبح يتمتع بها القانون الأجنبي تعود إلى ازدهار العلاقات الدولية الخاصة و نموها نتيجة لتطور وسائل الإتصالات و نتيجة أيضا لقيام علاقات سلمية بين كثير من دول العالم، و هو ما أدى إلى نمو التجارة الدولية و اتساع حركة إنتقال السلع و الخدمات من دولة إلى أخرى و هو ما يعني إزدياد العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي، المجال الخصب لتطبيق القانون الأجنبي.
غير أن هذا لا يحول دون الإعتراف بوجود عدد من الصعوبات تواجه تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني ناتجة بالدرجة الأولى عن الصفة الأجنبية لهذا القانون، و نذكر على سبيل المثال مسألة صعوبة إثباته، و كذلك مشكلة تفسير القانون الأجنبي خاصة إذا ما علمنا أن القاضي يجد صعوبة حتى في تفسير نصوص قانونه الوطني، و هذه الصعوبة تتعقد أكثر إذا كنا أمام القانون الأجنبي الذي ينتمي في كثير من الأحيان إلى أنظمة قانونية لا تشبه النظام القانوني الوطني و بالتالي يكون هناك إختلاف في المفاهيم و المبادئ القانونية و هو ما يصعب على القاضي مهمة تطبيق القانون الأجنبي.
إن هذه الصعوبات التي تواجه تطبيق القانون الأجنبي والاشتباه في تحيز القاضي الوطني إلى دولته دفعت بالأفراد خصوصا في العقود التجارية الدولية الكبرى إلى الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم لحل نزاعاتهم، و أدت أيضا إلى ظهور القواعد المادية ذات التطبيق المباشر و التي ترصد حلولا موضوعية مباشرة لبعض العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي.و هذه القواعد هي في نمو مستمر خاصة في مجالات معينة و نذكر على سبيل المثال هنا عقود النقل البحري و الجوي على المستوى الدولي، و في حالة حدوث خلاف حول تطبيق هذه القواعد الإتفاقية فإن النزاع غالبا يعرض إما على التحكيم وهذا هو الغالب أو أمام القضاء الوطني.



غير أن هذه المناهج و الطرق المتبعة لتنظيم العلاقات الدولية الخاصة لا تعني أن المنهج التنازعي الذي يتيح إمكانية تطبيق القانون الأجنبي في طريقه إلى الزوال بل إن الحاصل أن هذه المناهج تسير جنبا إلى جنب في تنظيم العلاقات الخاصة الدولية و لكل منهج مجاله المعين.
أما في الجزائر فإن ما يمكن أن نلاحظه هو أن هناك تأخرا في تطبيق القانون الأجنبي مقارنة بما هو الحال عليه في دول أخرى، فإذا ألقينا نظرة على قرارات المحكمة العليا في هذه المادة فإننا نجدها قليلة و تقتصر على مجموعة من القرارات تتعلق في مجملها بتفسير قواعد الإسناد و كيفية تطبيقها خصوصا في مسائل الحالة الشخصية كالزواج، الطلاق، و الوصاية، أما المسائل الأخرى الناتجة عن تطبيق القانون الأجنبي كإثبات مضمونه و تفسيره و حالات إستبعاد تطبيقه لمخالفته النظام العام أو الغش نحو القانون فلم تثر أمام هذه المحكمة و هو ما يعني أن القانون الأجنبي لا يثار تطبيقه أمام قاضي الموضوع إلا نادرا.
إن إنفتاح الجزائر على التجارة الدولية، و اتساع حركة المعاملات مع الخارج و زيادة حركة انتقال الأفراد من و إلى الجزائر، ينعكس على ازدياد العلاقات القانونية المشتملة على عنصر أجنبي و هو ما يفرض على القاضي الجزائري أن يتصدى للحكم في النزاعات الناجمة عن هذه العلاقات و يفرض عليه أيضا عدم تجاهل القانون الأجنبي و تطبيقه تلقائيا إذا كان هو المختص لحكم هذه العلاقات و هو ما ينعكس على تطور هذه المعاملات و نموها، لأن القاضي المتكون و المستقل هو أكبر ضمان لتطور الحياة الإقتصادية و ازدهارها في أي دولة.
و أخيرا فإن ما نخرج به كاستنتاج هو أن مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني يتوقف بشكل كبير على الطريقة التي يتعامل بها القاضي مع هذا القانون.