ثالثا: تعويض المتضرر عما لحقه من خسارة وما فاته من كسب:
يشمل الضرر المباشر على عنصرين أساسيين هما، الخسارة التي لحقت المتضرر والكسب الذي فاته ولذا يجب أن يشملهما التعويض ليكون جابرا لكل هذه الأضرار(3) ويعتمد القاضي على هذين الأساسين في تقدير التعويض، وإلا كان حكمه مخالفا للقانون، ولقد قضى المجلس الأعلى في هذا الشأن في قرار له مؤرخ في 23/06/ 1982 بما يلي: "التعويض كمبدأ عام يقدره القاضي حسب الخسارة التي حلت بالمضرور وما فاته من كسب عملا بالمادة 182 من القانون المدني الأمر الذي يستلزم منه أن يعطي تعويضا لجبر الضرر الحال للمضرور ، و ليس على أساس المسؤولية في الإصطدامات المادية، ولذلك فإن المجلس القضائي عندما منح تعويضات متساوية للطرفين على أساس المسؤولية كانت متساوية ولم يربطها بنسبة الضرر الحال بكل شاحنة على حدى يكون قد خرج عن القواعد المقررة في القانون يستحق قراره النقص ."(1)
وهو نفس الحكم الذي ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية في حكم لها صادر في 28/01/1926 حيث قضت بما يلي: "أن للمصاب في الحادث تعويض الخسارة التي لحقته، والمتمثلة فيما أصابه من ضرر في جسمه وما يبذل في سبيل علاجه من مال وتعويض الكسب الذي فاته والذي عاقه من الحصول عليه من وقوع هذا الحادث له".(2)
ويثار التساؤل هنا عن مدى تأثير جسامه خطأ المسؤول في تقدير التعويض؟.
ففي نطاق المسؤولية التقصيرية لا يجوز للقاضي أن يأخذ في إعتباره جسامة الخطأ أو تفاهته عند تقرير التعويض لأن الخطأ ركن في قيام المسؤولية بغض النظر عن مدها، وكلما توفر ونشأ عنه ضرر وجب التعويض عنه بحسب جسامه الضرر، فيكون تقدير التعويض على أساس الضرر لا على أساس الخطأ.
أما فيما يخص المسؤولية العقدية فقد أخذ المشرع بجسامه الخطأ بعين الإعتبار، وساوى بين الخطأ الجسيم والغش رغم أن الغش يقوم على سوء النية بينما الخطأ مهما كان جسيما لا يتضمن سوء النية فألزم المدين الذي يرتكب غشا أو خطأ جسيما بالتعويض حتى على الضرر غير المتوقع(3) وهو ما نستخلصه من نص المادة 182/2 من القانون المدني الجزائري.
ربعاً: تعويض الضرر المعنوي
قد يتمثل الضرر في مصلحة غير مالية للمضرور وهو ما يصطلح على تسميته بالضرر المعنوي، وهو بهذا المفهوم الأذى الذي يلحق الشخص في سمعته أو شرفه أو عاطفته، ويشمل الآلام الحسيمة الناتجة عن إصابات جسمانية والآلام النفسية الناتجة عن وجود عاهة أو تشوهات نتيجة الحادث ومختلف الآلام العاطفية الناتجة عن الشعور بالقلق والحزن الناتج عن الإعتداء على الشرف والسمعة.(4)
ولقد إستقر القضاء في الجزائر على تعويض مختلف أنواع الضرر المعنوي سواء كانت العلاقة بين المضرور والمسؤول عقدية أم تقصيرية، رغم أن القانون المدني الجزائري لم ينص على ذلك صراحة، ولكن باستقراء نص المادة 124 منه الذي جاء فيها لفظ الضرر عاما، و إستنادا كذلك إلى المادة 3/4 من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص: "تقبل دعوى المسؤولية عن كافة أوجه الضرر سواء كانت مادية أو جسمانية أو أدبية..."، يتبين لنا أن قبول الدعوى المدنية المرتبطة بالدعوى العمومية يكون عن كافة أنواع الضرر الجسماني أو المعنوي.(1)
هذا ولقد كرس المشرع الجزائري من خلال القانون 05-10 السالف الذكر المعدل والمتمم للقانون المدني مبدأ يشمل التعويض عن الضرر المعنوي من خلال نص المادة 182 مكرر منه، و يستخلص من نص هذه المادة أنها قصرت الضرر المعنوي على المساس بالحرية والشرف والسمعة، لكن يبقى التساؤل مطروحا عن الآلام النفسية الناتجة عن وجود عاهة أو تشوهات تلحق الشخص نتيجة استهلاكه أو استعماله لمنتوج معيب، و هل الضرر يصيب الشعور والعواطف، فهل يشملهم التعويض أم لا ؟.
إذا جئنا إلى القانون رقم 89-02 المتعلق بقواعد العامة لحماية المستهلك، نجده قد أعطى لجمعيات حماية المستهلكين الحق في رفع الدعوى أمام المحكمة المختصة للمطالبة بتعويض الضرر المعنوي الذي ألحق بالمصالح المشتركة للمستهلكين وذلك طبقا لنص المادة 12 منه ولقد سبق الإشارة لذلك.
أما المشرع المصري فقد نص في المادة 222 من القانون المدني المصري، على تعويض الغير - أقارب المضرور - بالتبعية عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابهم نتيجة فقدانه، وقصرها على الأزواج والأقارب حتى الدرجة الرابعة.(2)
وإستقر كذلك القضاء الفرنسي على تعويض أقارب الضحية المتوفاة عن الضرر المادي والمعنوي من حزن وآلام لفقدانه، وهو ما يعرف بالضرر بالإرتداد أو إنعكاس الضرر المعنوي الذي يصيب الغير بالإرتداد.(3)
الفرع الثاني: الدولة
تنص المادة 140 مكرر 1 من القانون المدني الجزائري والمستحدثة بموجب القانون 05-10 على ما يلي: " إذا إنعدم المسؤول عن الضرر الجسماني، ولم تكن للمتضرر يد فيه تتكفل الدولة بالتعويض عن هذا الضرر ".
يتضح من خلال هذا النص أنه إذا لم يُعرف المسؤول عن الأضرار التي تسببها المنتجات، ولم يتدخل فعل المضرور في إحداثها فإن الدولة هي التي تتكفل بكافة التعويضات، من هذا المنطلق سنتطرق فيما يلي إلى شروط تكفل الدولة بالتعويض وإلى أساس هذا التعويض.
أولا: شروط تكفل الدولة بالتعويض
لقد حددت المادة 140 مكرر 01 السالفة الذكر شروط تكفل الدولة بالتعويض إذا ما إنعدم المسؤول عن الضرر وتتعلق أساسا بالشروط المتعلقة بالضرر والشروط المتعلقة بالمضرور، و نتناولها تباعا:
1. الشروط المتعلقة بالضرر
وذلك بأن يكون ضرر جسمانيا أي متعلق بجسم الإنسان أو جسده كإصابته بعاهة مستديمة من جراء فعل المنتوج المعيب، تقعده عن العمل فتتكفل الدولة في هذه الحالة بتعويضه، والملاحظ أن المشرع الجزائري ومن خلال نص المادة 140 مكرر01 من القانون المدني الجزائري(1) قد أغفل الأضرار المعنوية التي قد تصيب الأشخاص و إقتصر على الأضرار الجسمانية فقط هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشترط أن لا يكون للمتضرر يد في حصول الضرر، بحيث يكون العيب في المنتوج هو السبب الرئيسي لإحداثه ويكون لهذا العيب دورا إيجابيا في حدوثه أما إذا لعب المتضرر دورا سلبيا مثل الحالة التي يكون فيها الضرر ناتجا عن سوء إستعمال أو استهلاك المنتوج وليس لعيب فيه، كما في الحالة التي لا يتخذ المضرور فيها الإحتياطات اللازمة عند إستعماله أو استهلاكه، أو لم يتبع الإرشادات والتوجيهات اللازمة لذلك، مما يؤدي إلى إصابته بأضرار جسمانية، فلا تتكفل الدولة فهيا بالتعويض، لأن المتضرر يكون قد ساهم بخطئه سواء بإهماله أو تقصيره في حدوث الضرر ويترتب نفس الحكم إذا كان للعيب في المنتوج دورا إيجابيا لكن الضحية ساهم في إحداث الضرر.(2)
2. الشروط المتعلقة أو الخاصة بالمسؤول:
سبق وان ذكرنا بأن المشرع ومن خلال المادة 140 مكرر 01 من القانون المدني الجزائري، إشترط إنعدام المسؤول عن الضرر كي تتكفل الدولة بالتعويض وهنا نميز بين حالتين: حالة جهل المسؤول عن الضرر تتولى الدولة التعويض في حالة جهل المسؤول، بحيث لا يمكن معرفة منتج المنتوج المعيب المسبب للأضرار، مثل قضية المصل (Sérum) التي طرحت أمام القضاء بمحكمة وهران التي لم يعرف لحد الآن منتجها الحقيقي وتبين أنه منتوج مقلد (contre façon).
لكن القانون الفرنسي والتعليمة الأوروبية المتعلقة بفعل المنتجات المعيبة جعلا الملتزمين بالتعويض هم بالخصوص المهنيين كالمنتج والموزع، ونظم التضامن بين عدة مسؤولين وهم الموزع أو التاجر أو الوسيط الذي تعامل معه في حالة ما إذا كان المنتج مجهولا فيلتزم الموزع -المسؤول الإحتياطي- بالتعويض، إلا إذا كشف عن هوية المنتج وهو ما ذهبت إليه المادة 1386-8 من القانون المدني الفرنسي والمادة 09 من التعليمة الأوروبية لفعل المنتجات المعيبة لسنة 1985 وهو مالم يأخذ به المشرع الجزائري حيث قصر مسؤولية التعويض عن الأضرار الناتجة عن عيب في المنتجات على المنتج فقط (1) ، و حالة المنتج معلوم ولكنه غير مسؤول عن الضرر وفي هذه الحالة يتمكن المنتج من خلالها التحلل من المسؤولية وبالتالي عدم التعويض، وذلك بأن ينفي علاقة السببية بين الضرر وعيب المنتوج عن طريق إثبات السبب الأجنبي، كالقوة القاهرة أو خطأ الغير -ما عدا حالة خطأ الضحية- وبالتالي تتكفل الدولة بالتعويض عما أصاب المتضرر من أضرار لحقت بجسمه أو أحد مكونات جسمه أي أعضائه، كفقدانه أحد أطرافه مثلا.(2)
لكن الدكتور محمد شكري سرور يذهب إلى خلاف ذلك فيّحمل المنتج مسؤولية التعويض، لا الدولة، حيث أنه في الحالات التي يظل فيها سبب الحادث غير معروف على وجه التحديد، لأنه يتردد بين عدة إحتمالات كلها جائزة، بحيث يصعب تحديد ما إذا كان سبب هذا الحادث هو عيب في المحتويات نفسها أو عيب في المنتوج أو خطأ من المضرور نفسه يجب أن يتحمل المنتج التعويض، فتلك هي التكملة المنطقية لمسؤولية المنتج المفترضة التي لا يستطيع أن يتحلل منها إلا بإثبات السبب الأجنبي(3).
ثانيا: أساس تكفل الدولة بالتعويض
لقد وضع المشرع الجزائري من خلال نص المادة 140 مكرر 01 من القانون المدني نظاما جديدا لتعويض الأضرار الجسمانية خارج إطار المسؤولية، متجاوزا بذلك النظرة التقليدية التي تؤسس التعويض حتما على المسؤولية وأخذ بنظام التعويض خارج إطار المسؤولية وكرس بذلك أساسا جديدا للتعويض وللمسؤولية (1)، حيث تعتبر هذه المادة عنصرا جديدا يساهم في تطوير المسؤولية من ذاتية إلى موضوعية، حيث تتحمل الدولة تعويض هذه الأضرار لأن المنتجات أصبحت تشكل خطرا إجتماعيا في ظل التطور التكنولوجي لها في مجال الدعاية والإعلام،(2) بحيث لا يمكن تجاهل الدور المؤثر التي تلعبه الدعاية في جذب العملاء إلى منتجات مشروع صناعي معين، ويكون بذلك المشرع الجزائري قد سلك نهج الإتفاقات الدولية فيما يخص التعويض عن الأضرار الجسمانية على أساس مخاطر التطور، وذلك على غرار نظام التعويض عن حوادث المرور طبقا للأمر 74-15 المؤرخ في 30/01/1974، والقانـون رقـم 88-31 المعدل والمتمم للأمر 74-15 والمؤرخ في 20/07/1988، وتعويض ضحايا الإرهاب طبقا للمرسوم التنفيذي 99-45 المؤرخ في 13/02/1999 وكذا التعويض عن حوادث العمل بموجب القانون رقم 83-13 المؤرخ في 02/07/1983 والأمر 96-19 المؤرخ في 06/07/1996 المعدل والمتمم للقانون 83-13 فهو تعويض خارج إطار المسؤولية بحيث تصبح الدولة هي المسؤولة عن الضرر إذا إنعدم المسؤول عنه و لم تكن للضحية يد فيه.
نجد أن أساس التعويض في القانون الجزائري قد تطور تطورا كبيرا فأصبح ينظر إليه على أساس التضامن الإجتماعي (التعويض عن حوادث العمل وحوادث المرور) مقابل التأمين الإجباري والأمر متروك للقضاء خاصة بعدما حذف المشرع الجزائري بموجب تعديل 2005 من القانون المدني الفقرة الثانية من المادة 125 منه وبذلك تبنى أساس جديد متمثل في مخاطر التطور في مجال عيوب المنتجات، وهو تطور فرضته المرحلة الحاسمة التي تمر بها الجزائر في إطار استعداداتها للإنضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، وما يقتضيه ذلك من إدماج للمبادئ العامة للإتفاقيات الدولية في القانون الداخلي الجزائري إستعدادا للمرحلة المقبلة.(3)
وما يمكن إستنتاجه في الأخير أنه يجب على القاضي أن يحكم بالتعويض في حالة انعدام المسؤول عن الضرر وذلك من دون التحقق من وجود خطأ وعلاقة سببية، فتتحمل الدولة التعويض حتى لا يبقى المستهلك المتضرر بدون تعويض ففي إطار المسؤولية الموضوعية أراد المشرع أن لا ينظر من جانب الفاعل بل ينظر من جانب المضرور، لكن بتطور القانون أصبح التعويض حقا مقررا للمضرور وليس بعقوبة المسؤول عنه، مع الملاحظة في الأخير أن المشرع الجزائري لم ينص على الكيفية التي يتم بها التعويض فالأمر متروك بالضرورة للتنظيم الذي لم يصدر لحد الآن وبالتالي الرجوع إلى القواعد العامة في هذا المقام.
المطلب الثاني: كيفية الوفاء بالتعويض
إن التعويض عن الأضرار التي ترتبها المنتجات والخدمات يعد وبلا شك أهم أثر يسعى المضرور إلى الوصول إليه حين إثارته لمسؤولية المنتج.
وسنحاول من خلال هذا المطلب التعرض إلى كيفية الوفاء بالتعويض وأهم طرق التي يجب على المدعي إتباعها للحصول على التعويض المناسب له، وذلك من خلال فرعين، الفرع الأول نتطرق فيه إلى تقدير هذا التعويض، أما الفرع الثاني فسنتطرق من خلاله إلى تبيان مختلف الطرق الواجبة لاقتضاء هذا التعويض.
الفرع الأول: تقدير التعويض
يتعين على القاضي في مرحلة ثانية بعدما يكون قد حدد الضرر المستحق للتعويض في إطار مسؤولية المنتج أن يقوم بتقدير التعويض عنه(1)، وهو ما جاء في نص المادة 131 من القانون المدني الجزائري(2) المعدلة بموجب القانون 05-10 السالفة الذكر.
يتضح من إستقراء أحكام هذه المادة أن قاضي الموضوع هو الذي يقدر مبلغ التعويض، وذلك وفقا للمادتين 182و182 المشار إليها آنفا(1)، وفي هذا الشأن قضت المحكمة العليا في حكم صادر عنها بما يلي: "حيث أن الضرر المشار إليه في القرار لم يوجد أي نص يقدر تعويضه وبالتالي فإن تقديره يدخل ضمن السلطة التقديرية للقاضي، وعليه فإن مراقبته غير خاضعة لسلطة المحكمة العليا، وأن تعيين خبير من أجل تقدير التعويض غير ملزم للقاضي إذا كانت عناصر التعويض كافية في الملف تسمح للقاضي بتقدير الضرر الناتج، ولهذا، فإن القرار المطعون فيه جاء على أساس قانوني ومسبباً مما يستوجب رفض هذا الوجه ورفض الطعن".(2)
وهو ما قضت به أيضا محكمة النقض المصرية، في قرار لها(*)، وبذلك فتقدير التعويض الذي يجبر الضرر هو من مسائل الواقع يستقل بها قاضي الموضوع دون رقابة المحكمة العليا، إذا بيّن عناصر الضرر ووجه أحقية المضرور للتعويض، ذلك أن قوام المسؤولية هو إعادة التوازن المختل نتيجة خطأ المسؤول وما نتج عنه من ضرر للمتضرر وهذا يقتضي ردُّه على نفقة هذا المسؤول إلى الحالة التي كان عليها قبل وقوع الفعل الضار، وبهذا فلا يجوز أن يتجاوز مبلغ التعويض مقدار الضرر، ولا ينقص عنه، لذلك لابد على القاضي أن يبين في حكمه عناصر الضرر التي اعتمد عليها في تقدير التعويض المحكوم به(3)، وهو ما قضت به المحكمة العليا في حكم لها بقولها: "من المبادئ العامة في القانون أن التعويضات المدنية يجب أن تكون مناسبة للضرر الحاصل، وعلى القضاة أن يبينوا في أحكامهم الوسائل المعتمدة لتقدير تلك التعويضات، ومن ثم فإن القضاء وبخلاف ذلك يعد خرقا للقانون، ولما ثبت في قضية الحال أن قضاة الموضوع منحوا تعويضات هامة دون تحديد العناصر التي إعتمدوا عليها في تقديرهم للتعويض يكونوا بذلك قد خرقوا القواعد المقررة قانونا ومتى كان كذلك إستوجب قرارهم النقض".(4)
من خلال ما سبق نستخلص أن عناصر تقدير التعويض من المسائل الواقعية التي يستقل بها قاضي الموضوع، لكن عناصر الضرر التي يعتمد عليها في حساب التعويض هي من المسائل القانونية تخضع لرقابة المحكمة العليا.(5)، حيث يجب على القاضي وفقا للنص القانوني 131 من القانون المدني الجزائري أن يراعي عند تقديره مدى التعويض "الظروف الملابسة"، ويقصد بها تلك الظروف التي تلابس وقوع الضرر(1)، أو الظروف الخاصة بشخص المضرور التي تلابسه كوضعه الثقافي أو مركزه الإجتماعي أو حالته الصحية أو جنسه أو سنه أو مهنته أو ظروفه العائلية، فالعجز عن العمل الذي يصيب ربّ الأسرة يفوق كثيرا ما يسببه ذات العجز لشخص لا يعول إلاّ نفسه، وهكذا يقدر الضرر تقديرا ذاتيا أو شخصيا بالنظر إلى ذات المضرور، وليس على أساس موضوعي، أمّا الظروف الشخصية للمسؤول كظروفه المالية أو جسامة الخطأ الذي يُنسب إليه، فيتعين عدم الإعتداد بها عند تقدير التعويض من طرف القاضي(2)، وهو ما قضى به المجلس الأعلى في قراره الصادر في 08/05/1985، حيث جاء فيه: "إذا كان مؤدى نص المواد 130، 132، 182 من القانون المدني أن التعويض يخضع في تقديره لسلطة القاضي، فإن عدم الإشارة من طرف قضاة الموضوع إلى مراعاتهم الظروف الملابسة للضحية، وقيامهم بتحديد الخسارة، يجعل قرارهم غير سليم ويعرضه للنقض...".(3)
وفي حالة تعدد الأضرار فإنه يجوز للقاضي أن يقضي بتعويض إجمالي عن جميع الأضرار التي لحقت بالمضرور، لكن يشترط أن يبين عناصر الضرر التي قضى بموجبها بهذا التعويض، ويناقش في حكمه كل عنصر على حده، ويبين وجه أحقية طالب التعويض فيه وبالتالي الإستجابة له أو عدم أحقيته، ومن ثم رفضه فإذا أغفل ذلك يكون حكمه مشوبا بالقصور ويجوز كذلك الحكم بتعويض إجمالي للمدّعين عند تعددهم، أو تحديد نصيب كل واحد منهم بحسب الضرر الذي أصابه.
أما فيما يخص الضرر المعنوي، فإن الأمر هنا يختلف إذا تعلق الأمر بالضرر المعنوي فلا يُلْزم القاضي بذكر العناصر التي إعتمد عليها في تقدير التعويض لأنه يرتكز على عنصر عاطفي، لا يحتاج إلى تعليل(4)، وهو ما قضى به المجلس الأعلى في نفس القرار السالف الذكر بحيث جاء فيه: "...إذا كان يتعين على قضاة الموضوع أن يعللوا قرارهم من حيث منح التعويض وذلك بذكر مختلف العناصر التي اعتمدوا عليها فعلا، فإن الوضع يخالف ذلك إذا كان التعويض يتعلق بالضرر المعنوي لأنه يرتكز على العنصر العاطفي الذي لا يحتاج إلى تعليل وبذلك يكون القرار غير محتاج لتعليل خاص."(5)
الفرع الثاني: طرق التعويض
لقد تضمن القانون المدني الجزائري أحكام عامة تبين للقاضي طريقة التعويض عن مختلف الأضرار التي تسببها المنتجات المعيبة خاصة من خلال نص المادة 130 منه، ونظمها أيضا قانون حماية المستهلك رقم 89-02 ومختلف المراسيم التنفيذية له لاسيما المرسوم التنفيذي رقم 90-266 خاصة في مادته الثامنة.
و نخصص هذا الفرع لدراسة مختلف هذه الطرق تباعا:
أولا: طرق التعويض في القانون المدني
لقد أشارت المادة 132 من القانون المدني(1) إلى أهم طرق التعويض، ويتعلق الأمر بالتعويض العيني أو التعويض بمقابل، وسنتعرض لهذه الطرق وفق التسلسل الآتي:
1. التعويض العيني (la réparation en nature)
هو الأصل في التعويض، والقاضي ملزم بالتعويض العيني إذا كان ممكنا وطلبه الدائن، أو تقدم به المدين، وعليه في تسبيب حكمه أن يراعي الأحكام التالية
2)
- إذا كان تنفيذ الإلتزام عينيا غير ممكن أو غير ملائم إلا إذا قام به المدين نفسه يجوز الحكم بإلزام المدين بهذا التنفيذ وبدفع غرامة تهديدية على نفقة المدين وفقا لنص المادة 174 من القانون المدني الجزائري.
- الترخيص للدائن بتنفيذ الإلتزام على نفقة المدين وفقا لنص المادة 170 من القانون المدني الجزائري، إذا كان هذا التنفيذ ممكنا.
- لا يجوز للدائن أن يطلب التنفيذ بمقابل، إذا كان المدين مستعدا للتنفيذ العيني، وإذا طالب بالتنفيذ بمقابل ولم يكن التنفيذ العيني مُرْهِقًا للمدين، فللقاضي أن يقضي بالتنفيذ العيني بصرف النظر عن طلب الدائن، ولا يعتبر ذلك منه حكما بغير ما طلب الخصوم أو أكثر مما طلبوا.
فإذا طالب الدائن أمام المحكمة بالتعويض العيني فيستطيع أن يطالب بالتعويض بمقابل أمام جهة الإستئناف والعكس صحيح، فإذا طلب التعويض بمقابل أمام المحكمة، ورُفض طلبه يستطيع أن يطالب بالتعويض العيني أمام جهة الإستئناف، ولا يعتبر طلبا جديدا في كلتا الحالتين.(1)
- إذا استحال تنفيذ الإلتزام عينيا لهلاك الشيء محل التعاقد يحكم القاضي على الدائن بالتعويض بمقابل إلا إذا ثبت أن إستحالة تنفيذ الإلتزام قد نشأت عن سبب أجنبي لا يـد له فيه فتنتفي مسؤوليته.
والغالب أن يعتذر التنفيذ العيني في المسؤولية التقصيرية فلا يكون أمام القاضي سوى الحكم بالتعويض بمقابل.(2)
2. التعويض بمقابل (la réparation pécuniaire)
التعويض بمقابل هو الصورة الغالبة للتعويض في المسؤولية التقصيرية، وبالتالي ليس للمدين أن يفرض على الدائن بدلا من التنفيذ العيني إذا كان ممكنا.(3)
والتعويض بمقابل قد يكون نقدا، فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ إلتزامه يجوز للمتعاقد الآخر أن يطالب بفسخ العقد، وفسخ العقد هنا ما هو إلا صورة من التنفيذ بمقابل، لكن إذا رأى القاضي أن التنفيذ العيني يمكن أن يتم في فترة قريبة فيجوز له أن يمنح له أجلا للتنفيذ(4) وفي التنفيذ بمقابل يكون للقاضي الحرية في إختيار المقابل دون التقيد بطلبات المضرور.(5)
هذا والأصل في التعويض بمقابل إذا كان مبلغا ماليا أن يدفع دفعة واحدة للمضرور، إلا انه يجوز للقاضي أن يجعله يدفع على شكل أقساط أو إيرادا مرتبا، كما يجوز إلزام المدين بتقديم تأمين بإيداع مبلغ كافٍ لضمان الوفاء بالإيراد المحكوم به، وهو ما نصت عليه المادة 132/1 من القانون المدني الجزائري، لكن بالمقابل هل يجوز إعادة النظر في مقدار التعويض إذا قرر القاضي دفعه في صورة أقساط أو مرتب مدى الحياة في حالة ما إذا إرتفعت الأسعار؟.(6)
إذا حكم القاضي بدفع التعويض في صورة أقساط فإن القضاء سواء الجزائري أو الفرنسي إستقر على عدم إعادة النظر فيه لأن الأسعار ترتفع بإستمرار، بالتالي فتح المجال للمضرور لطلب إعادة النظر في مقدار التعويض يعني بالمقابل قبول طلب المسؤول بإعادة النظر فيه وفي ذلك مساس بحجية الشيء المقضي فيه، أما إذا حكم القاضي بدفع تعويض في صورة مرتب مدى الحياة فيجوز له تعديله، وحدّد القانون مسبقا مقدار أو نسبة الزيادة في الإيراد بحيث لا يكون المضرور بحاجة لطلب إعادة النظر في التعويض من جديد، وإذا حكم القاضي بدفع تعويض في شكل مرتب مدى الحياة فله حرية تحديد الآجال التي تدفع فيها أقساط المرتب.(1)
ثانيا: طرق التعويض في قانون حماية المستهلك
إلى جانب الأحكام العامة المنصوص عليها في القواعد العامة للقانون المدني المشار إليها، لطرق التعويض، هناك أحكام وقواعد خاصة لهذه الطرق، فيما لو كان المتضرر مستهلك يربطه بالمنتج عقد إستهلاكي، وبالتالي على القاضي مراعاتها باعتبارها قيد على القواعد العامة، وهو ملزم بها لأنها من النظام العام - معظم قواعد قانون الإستهلاك قواعد آمرة وهي من النظام العام لا يجوز الإتفاق على مخالفتها والقاضي عليه أن يثيرها ولو من تلقاء نفسه في أي مرحلة من مراحل الدعوى -.(2)
ولقد أوجب قانون حماية المستهلك على المهني في جميع الحالات إصلاح الضرر الذي يسببه الأشخاص أو بسبب العيب الذي ينطوي عليه المنتوج بحيث يجعله غير صالح للإستعمال، وعلى المستهلك أن يقدم للمهني طلب تنفيذ التزامه بالضمان لمجرد ظهور العيب، وللمهني أن يطلب، ذلك حسب نوع المنتوج، إجراء معاينة فورية تتم بحضور الطرفين أو ممثليهما في مكان الذي يوجد فيه المنتوج المضمون، ويتم تنفيذ الالتزام بضمان عدم سلامة المنتوج بتعويض المستهلك بالطرق القانونية التي ينص عليها كل من قانون حماية المستهلك(3)، والمرسوم التنفيذي 90-266 المتعلق بضمان المنتوجات والخدمات(4) وتتمثل هذه الطرق فيما يلي:
1. إصلاح المنتوج
إن المنتج يقع على عاتقه إلتزام بضمان سلامة المنتوج الذي يقدمه للمستهلك من أي عيب يجعله غير صالح للإستعمال المخصص له وهو ما قضت به المادة 05 من المرسوم التنفيذي 90-266 والمتعلق بضمان المنتوجات والخدمات، وكذا المادة 06 من قانون 89-02 المتعلق بالقواعد العامة لحماية المستهلك، لذا أوجب القانون على المنتج إصلاح المنتوج ليصبح صالحا للإستعمال.(1)
ولم يكتفي المشرع بذلك فقط بل أوجب على المهني في جميع الحالات أن يصلح المنتوج على نفقته، لاسيما مصاريف اليد العاملة، وإستبدال الأجزاء المعيبة بأجزاء سليمة فيكون تنفيذ الضمان بتقديم قطع الغيار، بالإضافة إلى العمل المتمثل في تركيب هذه القطع وإصلاح الخلل، وإذا تسبب الخلل من جديد في ضرر للمستهلك، فيكون من حقه بالاضافة إلى إصلاح المنتوج أن يطالب المهني بالتعويض عما لحقه من أضرار عنه .(2)
2. إستبدال المنتوج
بالإضافة إلى المادة 08 من القانون حماية المستهلك رقم 89-02 نجد المادة 07 من المرسوم التنفيذي 90-266 المتعلق بضمان المتوجات و الخدمات تنص على إستبدال المنتوج بحيث تقضي بما يلي: "يجب على المحترف أن يقوم بإستبدال المنتوج إذا بلغ قيمته درجة خطيرة تجعله غير قابل للإستعمال جزئيا أو كليا على الرغم من إصلاحه."
يستخلص من هذه المادة أنه قد يكون العيب أو الخلل جسيما على نحو يؤثر في صلاحية المنتوج بأكمله، ويصعب معه إعادة إصلاحه على النحو المرجو، و بالتالي يجب إستبداله ككل حتى يفي المحترف بإلتزامه بالضمان، ومن حق المحترف أن يرفض إستبدال المنتوج إذا أمكن إصلاحه وإعادته إلى حالته المعتادة وذلك مجانا ودون مصاريف إضافية.(3)
3. رد ثمن المنتوج
إذا تعذر إصلاح المنتوج أو إستبداله يجب على المحترف أن يرد ثمنه دون تأخر، وذلك إستنادا لنص المادة 8/2 من قانون حماية المستهلك التي تقضي بما يلي: "....أو رد ثمن الشيء مع الإحتفاظ بحق المستهلك في التعويض عن الأضرار التي قد لحقته."
بالإضافة إلى ذلك نصت المادة 09 من المرسوم التنفيذي 90-266 المتعلق بضمان المتوجات و الخدمات على ما يلي: "إذا تعذر على المحترف إصلاح المنتوج إو إستبداله فإنه يجب عليه أن يرد ثمنه دون تأخير".
ما يمطن إستنتاجه من خلال النصوص القانونية السالفة الذكر، أنه يقع على عاتق المنتج أو المحترف إلتزام برد ثمن المنتوج ودون تأخر إلى المستهلك(1) لكن ذلك مقترن بتحقق شرطان نصت عليهما المادة 09/2 من المرسوم التنفيذي 90-266 المتعلق بضمان المتوجات و الخدمات و هي كالآتي:
- أن يرُدَّ جزء من الثمن (الرد الجزئي): ويتحقق هذا الشرط إذا كان المنتوج غير قابل للإستعمال جزئيا وفضل المستهلك الإحتفاظ به وذلك حسب الإتفاق.(2)
- إذا كان المنتوج غير قابل للإستعمال كليا: يقع على عاتق المنتج رد الثمن المنتوج كاملا وبالمقابل يرد المستهلك المنتوج المعيب، وللمستهلك أن يطلب التعويض عن كل الأضرار المادية والجسمانية التي يتسبب فيها العيب إستنادا لنص المادة 06 من المرسوم التنفيذي 90-266 السالف الذكر .
ويدخل ضمن ذلك وبصفة خاصة ضرر عدم الإستفادة من المنتوج طوال فترة الإصلاح، وأن مبدأ إستحقاق التعويض أو مداه يتوقف على عدة عوامل منها حسن نية أو سوء نية المحترف أو المنتج و وجود ضمانا إتفاقيا أنفع للمستهلك، و يقدم لهذا الأخير شهادة ضمان مدتها ستة أشهر أو أكثر تسري من يوم تسليم المنتوج.(3)
لذا يمكن القول في الأخير أن القاضي ملزم بهذه الأحكام الخاصة في حكمه عند تقرير التعويض إذا كان أطراف النزاع يربطهم عقد إستهلاكي لأنها مقررة لحماية المستهلك كونه الطرف الضعيف في العلاقة مع المنتج أو المحترف.(1)
الفصل الثالث: وسائل إنتفاء مسؤولية المنتج
إذا قامت مسؤولية المنتج عن منتجاته المعيبة، لا يمكن دفعها في أي حال من الأحوال إلا إذا أثبت المنتج أنه قام بما يجنبه من إلقاء المسؤولية عليه، وذلك بإثبات السبب الأجنبي أو بإثبات أن العيب لم ينتج عن نشاطه المهني أو لم يستطع تفادي أخطار التطور العلمي والتقني الذي يفرضه الإنتاج.
لذا سنحاول من خلال هذا الفصل التطرق لأسباب إنتفاء مسؤولية المنتج و ذلك بتقسيمه إلى مبحثين بحيث نخصص المبحث الأول إلى أسباب إنتفاء مسؤولية المنتج أما المبحث الثاني نخصصه إلى بطلان شروط الإعفاء من هذه المسؤولية.
المبحث الأول: أسباب الإعفاء من المسؤولية
إن مسؤولية المنتج سواء قامت على خطأ واجب الإثبات في جانب المنتج، أو على خطأ مفترض في الحراسة، فآثارها في كل الأحوال واحدة، وهي إلتزام المسؤول بتعويض المضرور عن الأضرار التي لحقته من جراء المنتجات المعيبة.
ولكي تنتفي مسؤولية المنتج، يتعين عليه إقامة الدليل على إنتفاء علاقة السببية بين وجود عيب في المنتوج والضرر الحاصل من جراءه، وبالمقابل إذا أثبت المضرور العيب وعلاقة السببية بينه وبين الضرر الذي أصابه في شخصه أو في ماله يكون قد أقام الدليل على تدخل السلعة الإيجابي في إحداث الضرر، وعلى إثرها تقوم مسؤولية المنتج بحيث لا يستطيع هذا الأخير دفعها إلا بإثبات السبب الأجنبي والمتمثل في القوة القاهرة أو فعل الغير أو خطأ المضرور، بالإضافة إلى هذا فإن المشروعين الأوروبي والفرنسي المتعلق بفعل المنتجات المعيبة أضاف أسباب خاصة لدفع هذه المسؤولية.
و سنحاول من خلال هذا المبحث التطرق إلى الدفوع التي يتمسك بها المنتج حتى ينفي مسؤوليته و ذلك بتقسيمه إلى مطلبين: نتنا ول في المطلب الأول أسباب الإعفاء المقررة في القواعد العامة، و نتناول في المطلب الثاني أسباب الإعفاء المستحدثة بمقتضى القواعد العامة الخاصة بمسؤولية المنتج.
المطلب الأول: الأسباب العامة لإنتفاء مسؤولية المنتج
لم يتمكن النظام الجديد لمسؤولية المنتج في القانون الجزائري من وضع وسائل خاصة لنفي مسؤوليته، كما هو الحال في القانون الفرنسي، ومن ثمة يجب الرجوع إلى القواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني الجزائري خاصة المادة 127 التي تنص على ما يلي: "إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة، أو خطأ صدر من المضرور أو خطأ من الغير كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص قانوني أو إتفاق يخالف ذلك". وكذلك المادة 138/2 والتي تنص: "... ويعفى من هذه المسؤولية الحارس للشيء إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث بسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية، أو عمل الغير، أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة". يستنتج من هاتين المادتين أن أسباب الإعفاء من المسؤولية هي القوة القاهرة(*)، وخطأ الضحية أو الغير، وستكون هذه الأسباب محل دراستنا من خلال هذا المطلب الذي نقسمه إلى ثلاثة فروع، نتناول في الفرع الأول القوة القاهرة، و نتناول في الفرع الثاني خطأ المضرور، و نخصص الفرع الثالث لفعل الغير
الفرع الأول: القوة القاهرة
لم يعرف المشرع الجزائري القوة القاهرة، لكن نص عليها في المادتين 127 و 138/2 من القانون المدني الجزائري وترك مجال تعريفها إلى الفقه والقضاء حيث يعرفها بعض الفقه العربي بأنها "أمر غير متوقع حصوله، ولا يمكن دفعه، يؤدي مباشرة إلى حصول ضرر"، ويعرفها البعض الآخر بأنها "أمر لا ينسب إلى المدين، ولا يمكن توقع حصوله وغير ممكن دفعه ويؤدي إلى إستحالة تنفيذ الإلتزام".
أما القضاء فذهب إلى تعريفها بأنها "حادثة مستقلة عن إرادة المدين لم يكن في وسعه توقعها أو مقاومتها".(1)
ويجب أن تتوفر في القوة القاهرة عناصر السبب الأجنبي التي تستخلص من نصوص المواد 127 و138/2 من القانون المدني الجزائري، وهي عدم التوقع وإستحالة الدفع بشرط أن تكون الإستحالة مطلقة، والمعيار هنا موضوعي، فتكون قوة قاهرة الفيضانات والزلازل والحروب، فينقضي بها إلتزام المدين في المسؤولية العقدية وتنتفي بها علاقة السببية بين الخطأ والضرر في المسؤولية التقصيرية فلا يكون هناك محلا للتعويض في كلتا الحالتين وهو ما قضت به المحكمة العليا في 25/05/1988 بقولها "من المقرر قانونا انه إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كقوة قاهرة كان غير ملزم بالتعويض...".(1)
والجدير بالذكر أن نص المادة 178 من القانون المدني الجزائري قد أجازت الإتفاق على تحمل المدين بالإلتزام في العقود، المسؤولية في حال حدوث القوة القاهرة حيث تنص على مايلي : "يجوز الإتفاق على أن لا يتحمل المدين تبعة الحدث المفاجئ أو القوة القاهرة...".
وبإسقاط النصوص القانونية السابقة على العلاقة التعاقدية بين المستهلك والمنتج نجد أن هذا الأخير تنتفي مسؤوليته تأسيسا على دفوع القوة القاهرة بتوافر عنصرين هما عدم توقع المنتج لها وعدم إمكانية دفعها، ويجوز الإتفاق بين المستهلك والمنتج على تحمل هذا الأخير المسؤولية في حال وقوع القوة القاهرة ويعد هذا الإتفاق نوع من التأمين الذي يشدد من المسؤولية ويضع المستهلك في منطقة الأمان (2)، و كذلك يستخلص من المادة السالفة الذكر أن هذا الدفع يقتصر على المسؤولية العقدية دون سواها.
فإن القضاء الفرنسي بالإضافة إلى العنصرين السابقين يضيف عنصرا ثالثا وهو أن تكون القوة القاهرة أمرا خارجيا عن المنتوج ومستقلا تماما عن فعل المنتج، ويرى القضاء الفرنسي أن البائع المهني لا يمكنه التحلل من إلتزامه بالضمان ولو أثبت الطابع الخفي للعيب، ولو كان غير متوقع ولا يمكن دفعه إلا أنه يفتقد إلى الطابع الخارجي، وهي بذلك مسألة جديدة أثارها القضاء في مسؤولية المنتج طالما أنه يسمح لهذا الأخير إثارة دفع مخاطر التطور، وخطر التطور يشمل الأخطار الكامنة في المنتوج، والتي لا تظهر عند عرض سلعة للتداول مطابقة لجميع المعارف العلمية والتقنية غير أنها بعد الإستعمال تبدأ في الظهور، وتتعلق بما يسمى بالمخاطر المجهولة الناتجة عن التطور التكنولوجي والتي يترتب عليها أضرار عديدة.
وكان القضاء قبل صدور القانون 98-389 بفرنسا المتضمن المسؤولية عن فعل المنتجات المعيبة يأخذ بفكرة إمكانية تخلص المنتج من مسؤوليته بإقامة الدليل على السبب الأجنبي.(1)
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من التعليمة الاوروبية لعام 1985 المتعلقة بفعل المنتجات المعيبة، والقانون 98-389 السالف الذكر لم ينص على إعتبار القوة القاهرة سبب لدفع مسؤولية المنتج في القانون الفرنسي طالما أنه يسمح للمنتج بإثارة دفع مخاطر التطور.(2)
الفرع الثاني: خطأ المضرور:
تنص المادة 177 من القانون المدني الجزائري على ما يلي: "يجوز للقاضي أن ينقض مقدار التعويض، أو لا يحكم بالتعويض إذا كان الدائن بخطئه قد إشترك في إحداث الضرر أو زاد فيه".
يستخلص من أحكام هذه المادة أنه إذا ساهم فعل المضرور أو خطئه في إحداث الضرر اللاحق به أو زاد منه، فإنه يتحمل تبعة أخطائه، ومن غير المستساغ قانونا منح تعويض كلي لمن تدخل بخطئه في ترتيب الضرر(3)، وهو ما قضى به المجلس الأعلى في قراره الصادر في 17/06/1987 بقوله: "من المقرر قانونا أنه يعفى من المسؤولية حارس الشيء إذا أثبت أن الضرر الذي يحدثه الشيء حدث بسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية...".(4)
وعليه فإن ترتيب الإعفاء الكلي للمنتج من المسؤولية يكون استثناءا في حالة عيب في المنتوج، فلا مجال للإعفاء الكلي من المسؤولية إذا كان خطأ الضحية ما هو إلا أحد الأسباب التي ساهمت في حدوث الضرر له، وبالتالي يكون الإعفاء من المسؤولية جزئيا في هذه الحالة.
على ضوء ما سبق فإن خطأ المضرور يعد سببا لإعفاء المنتج من المسؤولية، والجدير بالذكر أن بعض الفقهاء في فرنسا يرون أن إعتبار خطأ المضرور سببا للإعفاء من المسؤولية يتعين أن يتوفر فيه صفتي الفداحة والجسامة، كشرب مريض لعشر قطرات من محلول الدواء بدلا من قطرتين، أما حينما يكون الخطأ عاديا فلا يؤثر في مسؤولية المنتج.
وذهب جانب آخر من الفقه في فرنسا بزعامة الأستاذ "باتريس جوردان" (Patrice Jourdain ) إلى القول بأن الخطأ يجب أن يرقى إلى المسؤولية أي أن تتوفر فيه صفتي عدم التوقع وإستحالة الدفع.(1)
ويكون الإعمال الفعلي لخطأ المضرور كسبب لإعفاء المنتج من المسؤولية إذا كانت مسؤولية هذا الأخير أساسها الإخلال بواجب الإعلام حيث يمكنه أن يتحلل منها إذا أثبت أن الضرر راجع لسوء إستعمال المنتوج من قبل الضحية أو مخالفة التعليمات الواردة على المنتوج أو عدم التحقق من صلاحية هذا الأخير قبل إستعماله، وهي تطبيقات أوردها القضاء على فكرة خطأ المضرور، بحيث قضت الدائرة التجارية لمحكمة النقض الفرنسية فيما يخص الإستعمال الغير السليم والخاطئ للمنتوج من قبل المضرور في 04/12/1950 برفض الطعن المقدم ضد محكمة الموضوع، وتتمثل وقائع القضية في أن صانع الستائر إشترى خيوط من صانع الخيوط لينسج منها ستائر ثم باعها لمستهلكين الذين رجعوا عليه بالتعويض بعدما إكتشفوا أن خيوط هذه الستائر تتفكك لمجرد تعرضها لحرارة الشمس، فدفع هذا الأخير بجهله لخصائص الخيوط المعيبة بهدف تحميل صانع الخيوط المسؤولية فقضت محكمة الموضوع بما يلي: "الخيوط أُنتجتْ بطريقة فنية سليمة، وإن إستعمالها من المدعي هو السيئ وأن صانع الستائر يعد شخص مهني وليس عادي، فإدعائه الجهل بخصائصها عذر غير مقبول".
ولقد أيدت محكمة النقض محكمة الموضوع ورأت أن الضرر لم ينتج عن المادة التي صنعت منها الستائر، وإنما من الإستعمال غير السليم للسلعة (عدم إحتياطه)، كما قضت في حكم آخر لها صادر في جانفي 1957 بعدم مسؤولية المنتج لأن مستعمل المواد الكيميائية لم يتخذ كافة الإحتياطات الضرورية لإستعمال هذه المواد. (2)
وقضت كذلك في حكم حديث لها صدر عن الغرفة المدنية الأولى في 30/11/2004 بعدم مسؤولية المنتج لأن مستعمل المواد الفلاحية لم يراعي في إستعماله لها واجب الحذر و الإستعمال السليم لها.(3)
أما فيما يخص مخالفة التعليمات الواردة من المنتج فقد قضت محكمة نانسي NANCY بخطأ المضرور المستهلك، وكان ذلك نتيجة فك هذا الأخير لأجزاء السلعة وإعادة تركيبها بصورة غير صحيحة(1)، حيث قضت بعدم مسؤولية الشركة البائعة عن الحادث الذي سببه إنفجار محرك السيارة، بعد أن ثبت أن نجل المشتري قد قام بعد 08 أيام من الشراء بفكه و إعادة تركيبه بصورة خاطئة وبالتالي نشأ الضرر عن هذا التركيب الخاطئ.(2)
وقد يحدث أن يكون خطأ المضرور سببا و حيدا في الضرر، لكن قد يشترك خطأ المسؤول، وخطأ المضرور، فكيف يمكن تقدير أثر كل منهما؟، وما مدى أهمية هذا التحديد في المسؤولية؟.
إن اجتماع خطأ المضرور وخطأ المسؤول يدفعنا إلى تصور فرضيتين، الفرضية الأولى، إستغرق فيها أحدهما الآخر وهي حالة المفاضلة المرتبطة بتغليب الخطأ الجسيم الذي يَجُّبُّ الخطأ الأقل جسامة فإذا إستغرق خطأ المنتج خطأ المضرور يلتزم المنتج بدفع كل التعويض، أما إذا إستغرق خطأ المضرور خطأ المنتج تنتفي مسؤولية المنتج وهو ما نصت عليه إتفاقية المجلس الأوروبي لفعل المنتجات المعيبة في نص المادة 04 منها، والفرضية الثانية، و التي تعرف بصورة الخطأ المشترك، وهي الحالة التي لا تنقطع علاقة السببية بين الخطأين والضرر، حيث يتحمل كل منهما خطأه وبالتالي التعويض.(3)
تنص المادة 1386-13 من القانون المدني الفرنسي والتي تقابلها المادة 8/2 من التعليمة الأوروبية لسنة 1985 المتعلقة بفعل المنتجات المعيبة على ما يلي: "مسؤولية المنتج يمكن أن تخفف أو تلغى مع الأخذ بعين الإعتبار كل الظروف عندما يكون الضرر شارك في إحداثه كل من العيب في السلعة و خطأ الضحية أو شخص يكون مسؤولا عنه".(4)
ومما لا شك فيه أن هذه المادة هي تكرار لأحكام القواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني الفرنسي في خصوص ما تقرره من أن خطأ المضرور من شأنه في بعض الأحوال أن يخفف أو أن يعفي من المسؤولية(5) و الشيء المستحدث في هذا النص هو أنه ربط بين خطأ المضرور وعيب السلعة و ذلك على عكس القواعد العامة و التي جرت على الموازنة بين خطأ المضرور و خطأ المنتج، و كل ذلك يمنح سلطة واسعة للقاضي في تقدير مساهمة خطأ المضرور في الضرر و الذي أن يشكل سببا لإعفاء المنتج من المسؤولية كلية.(1)
الفرع الثالث: فعل الغير
لا نجد نصوص خاصة عن خطأ الغير في القانون الجزائري في مجال مسؤولية المنتج، لكن ذلك لا يمنع من تطبيق الأحكام العامة المنصوص عليها في المواد 127و138 منه في هذا المجال، وعليه للمنتج واستنادا إلى القواعد العامة التنصل من المسؤولية عن طريق إثبات خطأ الغير، وتنسحب صفة الغير إلى كل شخص من غير المتضرر والمنتج المدعى عليه وكذا من يسألون عنهم قانونا أو إتفاقا.(2)
فقد يكون هذا الغير الصانع المتدخل الذي يمد المؤسسة الإنتاجية بالمواد الأولية أو يكون هذا الغير المتدخل في المرحلة اللاحقة للتصنيع أو في شخص الموزع المخزن للسلعة في ظروف غير ملائمة.(3)
وللوصول إلى إعفاء المنتج من المسؤولية لا بد من تحديد المرحلة التي يقع فيها الخطأ ومن ثم تحديد المسؤول عن الضرر، فإذا وقع في مرحلة يكون فيها المستهلك قد تسلم المنتوج نهائيا تحمل هذا الأخير مسؤولية خطئه، وتثور الصعوبات في تحديد المسؤول عن الضرر عندما يتزاحم خطأ الغير وخطأ المنتج وخطأ المضرور(4)، و في هذا المجال فرق الفقه الفرنسي بين فرضيتين في تقدير التمسك بخطأ الغير في دفع مسؤولية المنتج، ويختلف الحكم فيها من فرضية لأخرى، الفرضية الأولى، استغراق أحد الخطأين للآخر، أي خطأ الغير و خطأ المسؤول وفي هذه الحالة يتحمل من وقع منه الخطأ المستغرق تبعة الضرر(5)، والفرضية الثانية، في حالة إستقلال الخطأين عن بعضهما البعض، أين يعتبر كل منهما مساهما في إحداث الضرر بقدر معين و هو ما ينعكس على تحمل التعويض للمضرور بالدرجة التي شارك فيها خطأ المدعي أو الغير في الحادث.(6)
أما القانون المدني الفرنسي فقد نصت المادة 1386-14 منه، وهذه المادة تقابلها المادة 8-1 من التعليمية الأوروبية لسنة 1985 لفعل المنتجات المعيبة على ما يلي : "مسؤولية المنتج قبل المضرور - الضحية - لا تخفف لمجرد إشتراك فعل الغير في إحداث الضرر ووجود عيب في المنتوج".(1)
ووفقا لهذا النص فإن مسؤولية المنتج قبل الضحية لا تخفف لمجرد إثبات مساهمة فعل الغير في إحداث الضرر و على ذلك فإن فعل الغير يعتبر سببا من أسباب إعفاء المنتج من المسؤولية، مما يؤدي إلى القول بجواز قيام مسؤولية المنتج إلى جانب مسؤولية الغير ويكونان مسؤولان عن تعويض الضرر الذي لحق بالضحية ولقد سكت النص السالف عن بيان أثر ثبوت فعل الغير في الإستبعاد الكلي لمسؤولية المنتج و ذلك على خلاف القواعد العامة التي تقضي بإعتبار فعل الغير سببا للإعفاء الكلي من المسؤولية إذا توافرت فيه شروط القوة القاهرة، و هو ما يؤكد على إستقلالية قانون 19/05/1998 والذي أسس نظام خاص لمسؤولية المنتج.(2)
مما سبق يمكن القول أن فعل الغير قد يكون السبب الوحيد في الضرر، حينئذ يتحلل المنتج من المسؤولية كلية إذا أثبت أن الضرر الذي أصاب المستهلك يرجع إلى فعل الغير، أما إذا كان فعل الغير قد ساهم إلى جانب فعل المنتج أو خطئه في إحداث الضرر فيوزع التعويض بينهما بالتساوي إلا إذا أمكن تحديد درجة جسامة الخطأ فيوزع التعويض حسب جسامته، ويستطع المضرور أن يرجع على أيهما بالتعويض كله، و حتى و لو رجع المضرور على المنتج و حده فلهذا الأخير حق الرجوع على الغير بنسبة مساهمته في إحداث الضرر بإعتبار أنهما متضامنين(3).
المطلب الثاني : الأسباب الخاصة لانتفاء مسؤولية المنتج
لم يتطرق المشرع الجزائري سواء في القانون المدني أو مختلف القوانين الخاصة- قانون حماية المستهلك أو مختلف المراسيم التنفيذية له- إلى أسباب خاصة تعفي المنتج من المسؤولية، و إقتصر على أسباب الإعفاء العامة التي تم شرحها في المطلب السابق، لذا كان علينا تسليط الضوء على التجربة الفرنسية في هذا المجال من خلال ما جاء به القانون رقم 98-389 المتعلق بفعل المنتجات المعيبة وما جاءت به التعليمة الأوروبية لسنة 1985 المتعلقة بذات الموضوع، واللذان أسسا لهذه الأسباب تأسيسا خاصا وقانونيا.
و ستكون هذه الأسباب محل دراستنا من خلال هذا المطلب الذي نقسمه إلى فرعين نتناول في الفرع الأول سبب الإعفاء المتعلق بعدم العيب على نشاط المهني للمنتج، و نتناول في الفرع الثاني سبب الإعفاء المتعلق بعدم إستطاعة المنتج توقي خطر الأضرار.
الفرع الأول: إذا لم ينتج العيب على النشاط المهني للمنتج
يدفع المنتج المسؤولية عن نفسه وفق القانون الفرنسي، إذا أثبت أن العيب لم ينتج عن نشاطه المهني، و ذلك عن طريق التمسك بواحد من الثلاثة دفوع التي ستكون محل دراستنا من خلال هذا الفرع. (1)
أولا. عدم طرح المنتوج للتداول
بمقتضى ما جاءت به المادة 1386-11 من القانون المدني الفرنسي(2)، و المادة 07 من التعليمة الأوروبية لسنة 1985 المتعلقة بفعل المنتجات المعيبة فإن المنتج يستطيع أن يدفع مسؤوليته بإثبات أنه لم يطرح السلعة في التداول أو بإثبات أنها طرحت للتداول رغما عن إرادته بسبب سرقتها، أو خيانة المؤتمن عليها لهذه الأمانة، لأن ثبوت إطلاق المنتجات في التداول بإرادة المنتج دليلا منه على إقامة العلاقة السببية بين الضرر، و عيب السلعة، و هو ما أقرته المادة 1386-5 من القانون المدني الفرنسي(1) التي تنص على ما يلي: "يعرض المنتوج للتداول عند تخلي المنتج بصفة إرادية عنه، و لا يكون المنتوج محلا إلا لعرض واحد للتداول".(2)
هذا ونلاحظ أن هذه المادة حاولت تحديد مضمون " الطرح للتداول"، لكنها لم توفق في تعريفه، على عكس اتفاقية المجلس الأوروبي الموقع عليها في سنة 1976 و الخاصة بالمسؤولية عن فعل المنتجات المعيبة، في مادتها 02 التي عرفت الطرح للتداول بأنه " فقدان السيطرة على المنتوج بتسليمه إلى شخص آخر" (3)، ويستطيع المنتج أيضا أن ينفي مسؤوليته بإثبات أن الشخص الذي قام بإصلاح المنتوج قد أدخل تعديلات عليه (4).
ولا يعتبر طرحا للتداول ، قيام شخص آخر بإجراء اختبارات على المنتوج أو قيام مختبر أو مركز بحث بإجراء بعض الدراسات عليه باعتبار أن المنتج لم يفقد سيطرته ورقابته على المنتوج، فتعتبر عملية الطرح و كأنها لم تتم بعد، و هو ما أكدته المادة 1386-5/2 من القانون المدني الفرنسي التي تنص:" المنتوج لا يكون محلا إلا لعملية طرح للتداول واحدة، تتحدد إما بتسليم المنتوج إلى الموزع أو إلى المستهلك النهائي".(5)
هذا ويبقى الإشكال قائما في حالة المنتوج المركب، والذي يتدخل فيه أكثر من منتج، و الرأي الراجح هنا، هو الاعتداد بلحظة التنازل عن السلعة من المنتج النهائي(6)، فإذا ثبت عدم طرح هذا الأخير للسلعة للتداول انتفت مسؤوليته بصفة كلية.
ثانيا. عدم طرح المنتوج قصد الربح
وهو ما تنص عليه المادة 1386-11/3 من التقنين المدني الفرنسي التي تنص على ما يلي:" أن المنتوج لم يكن مخصصا للبيع أو أي شكل آخر من أشكال التوزيع".(1)
وهو نفس الحكم الذي أوردته المادة السابعة الفقرة "ب" من التعليمة الأوربية لسنة 1985 المتعلقة بفعل المنتجات المعيبة حيث يتنصل المنتج من المسؤولية إذا أثبت أنه لم يطرح المنتوج بقصد الربح أو لممارسة نشاطه المهني، بل طرحها بقصد إجراء التجارب أو أنه قام بالإنتاج لأغراض شخصية، وبالتالي لا يمكن مسائلته وفقا لنظام المسؤولية الموضوعية، وإنما يسأل على أساس الخطأ الشخصي وفقا للقواعد العامة للمسؤولية (2)، وبمعنى آخر تنتفي مسؤولية المنتج إذا أثبت أن المنتوج طرح للتداول ولم يكن موجها للبيع أو لأي وجهة من أوجه التوزيع(3).
و في تقدير هذا الدفع يرى الأستاذ "قادة شهيدة" عدم جدوى هذا الدفع و فعاليته، لأن إثارته من قبل المسؤول يعني عدم استهدافه للربح من وراء صنعه للسلعة و هو قول مردود لندرة حدوثه(4). لأنه قد يحدث أحيانا أن يمنح المنتج السلعة إلى أحدى الهيئات لإجراء الفحص للدراسة و التجريب اللازم عليها، أو تقديمها لمخبر بحث فتكون مادة للدراسة والبحث، لكن حتى في هذه الفرضية يمكن قصر الأضرار على مستخدمي الهيئة القائمة بعملية الفحص أو الباحثين في حالة مركز البحوث، بل وقد يحدث التوزيع بغلط أو بالمخالفة لتعليمات المنتج أو حالة الاستعمال الداخلي للمؤسسة من طرف عمال المؤسسة نفسهم.(5)
ثالثا. عدم وجود عيب لحظة طرح المنتوج للتداول
تنص المادة 1386-11/2 من القانون المدني الفرنسي على ما يلي: "و أنه بالنظر إلى الظروف المحيطة ، فإنه لم يكن ثمة ما يدعوا إلى الاعتقاد بأن العيب الناجم عنه الضرر، لم يكن ليوجد في الوقت الذي عرض فيه المنتوج للتداول ، و أن هذا العيب نشأ لاحقا".(1)
وما يلاحظ على هذه المادة أنها احتفظت بنفس صياغة المادة 07 من التعليمة الأوروبية، بل أن ذات الحكم ترسخ في نص المادة 05/1من اتفاقية المجلس الأوربي والتي تنص على ما يلي: " مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف فإنه يمكن تقدير أن العيب المفضي للضرر لم يكن موجودا وقت طرح المنتوج للتداول من قبل المنتج أو أن العيب يرجع إلى مرحلة لاحقة للطرح"، وكرست اتفاقية المجموعة الأوربية نفس المبدأ في مادتها 05/2 منها بنصها على ما يلي:" و مع مراعاة جميع الظروف، أن العيب الذي نشأ عنه الضرر لم يكن موجودا وقت أن أطلق الإنتاج للتداول".(2)
ويقع على المنتج المدعى عليه دفع مسؤوليته بإثباته عدم تسببه في العيب، و هو أمر يصعب عليه، فهو مطالب بالتدليل على أن العيب نتج في مرحلة لاحقة لعملية الطرح، وبالتالي يرجع إلى خطأ المضرور أو الغير أو لظروف أخرى، ويعود سبب تحميل المنتج عبء الإثبات في هذا المجال إلى كونه محترف وقادر على إقامة الدليل بالخبرة على أن سلعته كانت منزهة عن العيب وقت طرحها للتداول.(3)
الفرع الثاني: إذا لم يستطع المنتج توقي خطر الأضرار
يمكن للمنتج أن يدفع عن نفسه وفق القانون الفرنسي إذا أثبت أنه لم يستطع توقي خطر الأضرار رغم أنه إلتزم بالقواعد التشريعية و التنظيمية المعمول بها في هذا المجال، أو أنه لم يستطع توقي مخاطر التطور الذي يفرضه التقدم العلمي، و ستكون هذه الأسباب محل دراستنا من خلال هذا الفرع.
أولا. الالتزام بالقواعد التشريعية و التنظيمية الآمرة
تنص المادة 1386-11/05 القانون المدني الفرنسي،(1) والتي تقابلها المادة 17 من التعليمة الأوربية لفعل المنتجات المعيبة لسنة 1985 على ما يلي :"أو أن العيب يرجع إلى مطابقة المنتوج للقواعد الآمرة المنبثقة عن التشريع أو التنظيم".
نستنتج من هذه المادة، أن المنتج لا يكون مسؤولا إذا اثبت أن العيب سببه يرجع إلى مطابقة المنتوج للقواعد الآمرة للتنظيم التشريعي أو اللائحي(2)، والتي تلزمه بإنتاج منتجات بمواصفات معينة لا يجوز له مخالفتها، حتى و إن كان القصد من وراء ذلك إضافة أو تحسين هذه المواصفات.(3)
ولا تترتب مسؤولية المنتج إن هو نجح في إثبات أن العيب لا يرجع لخضوعه و إذعانه للأنظمة واللوائح الملزمة له الصادرة عن السلطات العمومية، بل يرجع العيب في المنتوج إلى النظرية المعروفة في القانون الإداري بفعل الأمير (fait de prince) ، أي إذا أثبت المنتج المدعى عليه أن الضرر لا يرجع إلى عيب في المنتوج و إنما يرجع إلى القاعدة الآمرة التي تلزمه بالإنتاج وفق طريقة معينة.(4)
ولقد قيد المشرع المنتج في نطاق هذا الدفع، وجعله مشروعا بضرورة اتخاذ المنتج الإجراءات اللازمة لمعالجة العيب عند اكتشافه حتى و إن كان ذلك بعد إطلاقه في التداول، فإذا اثبت المضرور عدم قيام المنتج بعلاج العيب على النحو المتقدم فإن المنتج لن يتمكن من التمسك بهذا الدفع لنفي مسؤولية موضوعية مقررة بموجب نصوص التشريع.(5)
ويجب الإشارة إلى أن مطابقة المنتوج للمعايير لا يكفي لنفي مسؤولية المنتج، حيث تنص المادة 1386-10 من القانون المدني الفرنسي على ما يلي: "يجوز أن يكون المنتج مسؤولا عن العيب حتى ولو رُعيت في صنع المنتوج القواعد الفنية أو المواصفات المتعارف عليها، أو كان موضوع ترخيص إداري".(1)
وحتى وإن توافرت الشروط السالفة الذكر في الواقعة المراد إثارتها، فإن الدفع يبقى مقيدا بالحكم الذي أوردته المادة 1386-12 من القانون المدني الفرنسي، و الذي يقضي بوجوب قيام المنتج بالتعديلات إذا اكتشف المنتج العيب خلال العشر سنوات من خلال طرحه السلعة للتداول، ولم يقم بما هو مناسب من تعديلات لمنع النتائج الضارة المتمخضة عن هذا الطرح.(2)
ثانيا. عدم القدرة على توقي مخاطر التطور العلمي(Risque de développement)
يعد دفع مسؤولية المنتج باستحالة التنبؤ بمخاطر التطور العلمي دفع حديت النشأة نسبيا، وأصطلح على تسميته بمخاطر التطور العلمي أو مخاطر النمو.
والمقصود بمخاطر التطور العلمي، هي تلك المخاطر التي لا يمكن اكتشافها إلا بعد طرح المنتوج للتداول، والسبب هو سرعة التطور العلمي في استحداث المنتجات أو طرق معالجتها بحيث لا يمكن التنبؤ بمخاطرها إلا في وقت لاحق(3)، بمعنى آخر أن المنتج لم يستطع اكتشاف العيب أو تجنبه لأن الحالة المعرفية والفنية والعلمية المتوفرة وقت طرح المنتوج للتداول لم تسعفه في ذلك، والنتيجة هي انتفاء مسؤوليته(4).
وتأسيسا على هذا الدفع الذي تناولته المادة 1386-11/4 من التقنين المدني الفرنسي والتي تنص على ما يلي: "المنتج يكون مسؤولا بقوة القانون إلا إذا أثبت ...أن حالة المعارف العلمية والتقنية وقت عرض المنتوج للتداول لم تكن تسمح باكتشاف وجود العيب".
وقد سيق، وأن أُدخل هذا النص باقتراح وتأكيد من ألمانيا في التعليمة الأوربية لسنة 1985بعد مناقشات حادة بين دول الاتحاد الأوربي، أدت في نهاية الامر إلى تكريس هذا الدخل من خلال المادة 08 من التعليمة الأوروبية مع إعطاء الخيار في الوقت نفسه للدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي بين إعفاء المنتج من المسؤولية أو الإبقاء عليها، وفي هذا الصدد نصت المادة 15 من التعليمة الأوربية لسنة 1985 بما يلي: "لكل دولة من الدول الأعضاء أن تقرر بالمخالفة للمادة الثامنة الإبقاء أو النص في تشريعها على أن المنتج يكون مسؤولا حتى ولو أثبت أن حالة المعرفة العلمية والفنية في لحظة طرح المنتوج للتداول لم تكن لتسمح بالكشف عن قصور ".(1)
ولعل مرّد تردد الدول في الأخذ بهذه المسؤولية يعود إلى الخوف من عرقلة النمو الصناعي لأوروبا، وذلك يجعل المنتج مسؤولا عن خطر لم يكن في مقدوره توقعه.(2)
ويعتبر الخلاف حول مخاطر التطور العلمي السبب الرئيسي في تأخر نقل أحكام التعليمة الأوربية لسنة 1985 في القانون الفرنسي حتى سنة 1998(3)، لما تسبب فيه من مواجهة بين منظمات المحترفين المؤيدين لِسَنِّهِ، وجمعيات المستهلكين المناوئين لذلك(4) هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدوا أن الاعتبارات الاقتصادية والعلمية مارست ضغطها على المشرع الفرنسي، فوضع نص المادة 1386-11/4 والتي منحت المنتج إمكانية دفع مسؤوليته بإثبات أن حالة المعرفة الفنية والعلمية، وقت طرح المنتوج للتداول لم تسعفه في اكتشاف العيب، وهو ما يعني أنه وضع مخاطر التطور على عاتق المستهلك، وهذا الذي دفع البعض في التشكيك في الطبيعة الموضوعية لمسؤولية المنتج بقوة القانون والتي نص عليها القانون 98-389 المتعلق بفعل المنتجات المعيبة، والنظر إليها بأنها مسؤولية مبنية على فكرة الخطأ المفترض.(5)
أما فيما يخص باقي الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي فرغم النزاع القائم بين السوق الأوربية، وبريطانيا حول تحديد مخاطر التطور العلمي، إلا أن محكمة العدل الأوروبية حسمت هذا النزاع في 29-05-1997 بقولها: "إن مخاطر التقدم العلمي يقصد بها المعرفة العلمية والتكنولوجية على مستوى العالم، وليس على مستوى دولة معينة أو بصدد قطاع صناعي أو إنتاجي معين".(1)
ولقد فُسِّرَّ هذا الحكم بأنه لا يجوز لأي دولة أو أي منتج أن يتنصل من المسؤولية، بل تبقى قائمة، ويلتزم المنتج التعويض حتى في الحالات التي يثبت فيها أنه استخدم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا، طالما كان بإمكانه التعرف على هذه العيوب بالسعي إلى إدراك هذه المعلومات.(2)
ورغم ذلك فإن المشرع الفرنسي لم يأخذ بالإعفاء من مخاطر النمو أو التطور على إطلاقه، بل اعتبره سببا نسبيا للإعفاء ويتجلى ذلك في عدم الاعتداد به في حالتين، الحالة الأولى، لا يجوز للمنتج التمسك بالإعفاء من مخاطر النمو إذا كان الضرر قد نجم عن عناصر أو منتجات الجسم الإنساني و قد أخذ المشرع الفرنسي بهذا الاستثناء نتيجة لما خلقته قضية الدم الملوث بفيروس السيدا من أثر سيء على الرأي العام، الذي لم يكن ليقبل بإعفاء مركز نقل الدم من المسؤولية، فضلا عن أن محكمة النقض الفرنسية سبق لها وأن ذهبت إلى أن العيب الداخلي في الدم حتى ولو كان غير قابل للكشف، فإنه لا يشكل سببا معفيا للمسؤولية، والحالة الثانية، لا يجوز للمنتج التمسك بالإعفاء من مخاطر التطور إذا كان وبعد أن ظهر العيب في ظرف عشر سنوات لم يقم باتخاذ الإجراءات المناسبة من أجل الوقاية من آثاره الضارة.
وهكذا وضع المشرع الفرنسي على عاتق المنتج إلتزاما بالمتابعة (Obligation de suivi)، وهو مبدأ معروف في القانون الأمريكي (Product Monitoring)، والذي يعتبر مظهر من مظاهر مبدأ الحيطة الذي أصبح يضع بصماته على القانون الحديث للمسؤولية، ولعل التحديد سيؤدي إلى الحد من مساوئ الإعفاء من مخاطر التطور، إضافة إلى إعتبار نظام المسؤولية الذي جاء به المشرع الفرنسي من خلال قانون 19/05/1998 التعلق بفعل المنتجات المعيبة، نظاما إختياريا بالنسبة للضحايا الذين يجوز لهم تأسيس دعواهم على نصوص القواعد العامة وفقا لما قررته المادة 1386-18 من القانون المدني الفرنسي. (3)
أما فيما يخص إتفاقات تحديد أو استبعاد مسؤولية المنتج، فإن القانون الفرنسي يعتبر كل شرط عقدي هدفه تحديد أو استبعاد ضمان العيوب الخفية شرطا لاغيا، وبالتالي استبعاد مسؤولية المنتج، أما أحكام التعليمة الأوروبية لسنة 1985 ذهبت إلى أبعد من ذلك، فالبطلان يلحق كل الشروط مهما كان الإلتزام غير المنفذ، وطبيعة العقد الذي يحتويه.(1)
نشير في الأخير أن المشرع الجزائري و رغم الإنفتاح الإقتصادي الذي تعرفه الجزائر، إلا أنه لم يساير التطور التشريعي و الفقهي و القضائي الحاصل في فرنسا، لذا كان عليه أن يأخذ بما أخذ به نظيره الفرنسي.
المبحث الثاني: بطلان شروط الإعفاء من المسؤولية
في حال ما إذا أثيرت مسؤولية المنتج فإنه تلغى كل الشروط التي من شأنها أن تنقص من حق المضرور في الضمان والتعويض سواء كانت ناتجة عن إستعمال النفوذ الإقتصادي و الإجتماعي كما في حالة الشروط التعسفية، أو التي ترتبط بالمستهلك كما في حالة الخطأ الجسيم أو الغش، لذلك سنحاول من خلال هذا المبحث معالجة هذه الشروط في مطلبين نتناول في المطلب الأول بطلان الشروط التعسفية المتعلقة بالسلعة ونتناول في المطلب الثاني بطلان الشروط التعسفية المتعلقة بالمستهلك.
المطلب الأول: بطلان الشروط التعسفية المتعلقة بالسلعة
إن القاعدة هي صحة الإتفاقات المعدلة لأحكام المسؤولية في النطاق التعاقدي لأنها وكأصل عام غير مرتبطة بفكرة النظام العام، و كنتيجة لذلك يجوز لأطراف العلاقة التعاقدية في عقود الإستهلاك أن يزيدا من الضمان أو ينقصا منه أو يسقطاه، غير أن هذا التعديل يقع باطلا إذا تعمد البائع إخفاء العيب المبيع غشا منه ويعني هذا إشتراط حسن النية في المدين المراد إنقاص ضمانه أو التحلل منه.
ونحاول من خلال هذا المطلب تسليط الضوء على أنواع من هذه الشروط الباطلة من خلال تقسيمه إلى فرعين، الفرع الأول نتطرق من خلاله إلى مفهوم هذه الشروط أما الفرع الثاني نتطرق فيه إلى جزءا إدماج الشروط التعسفية في عقود الإستهلاك.
الفرع الأول: مفهوم الشروط التعسفية
لعل ظهور الشركات والمؤسسات الإنتاجية والخدماتية الكبرى وتنامي الإنتاج أدى إلى تراجع مبدأ سلطان الإرادة وبالتالي، حرية التعاقد وحلول محل هذا المبدأ مبدأ آخر وهو إدراج شروط في عقود الإستهلاك توضع من طرف هذه المؤسسات في شكل بنود تعسفية مستغلة ما تحوزه هذه الأخيرة من نفوذ إقتصادي وإجتماعي، وبالتالي تستهدف الضمان المقرر لصالح المستهلك بالنقصان أو بالإلغاء أو التحديد من قيمة التعويض، و كنتيجة لذلك ظهرت فكرة حماية المتعاقدين من الشروط التعسفية و هي فكرة ليست بالحديثة، على إعتبار أن الإخلال بالتوازن بين الطرفين المتعاقدين يعد عملا غير جائز سواء كان ذلك من الناحية القانونية أو الأخلاقية كونه سيؤدي إلى استعمال نفوذ أحد الطرفين ضد الطرف الآخر وغالبا ما يكون المنتج ضد المستهلك.
وإختلف الفقه في تحديد وتعريف هذه الشروط فالبعض يرى بأهمية تحديد المفهوم العام لها والبعض يرى بضرورة التحديد الحصري لهذه الشروط ضمن قائمة، والبعض الآخر يدعوا إلى أهمية التعرف على الشروط التعسفية وذلك من خلال المفاوضات والمناقشات التي يجريها المهنيون مع المستهلكين.
وزاد الإهتمام التشريعي بالشروط التعسفية خاصة بفرنسا بعد صدور القانون رقم 78-23 الصادر في 10/01/1978 الخاص بحماية وإعلام المستهلكين، بحيث عرفت المادة 35 منه الشروط التعسفية بقولها: "أنها تلك الشروط التي فرضت على غير المهنيين أو مستهلكين تعسفا في استعمال القوة الإقتصادية للطرف المهني والتي تمنحه منفعة مبالغ فيها".
وهو نفس ما ذهبت إليه المادة 02 من المرسوم الصادر بتاريخ 24/03/1978 بقولها: "في عقود البيع المبرمة بين المهنيين من جهة والمستهلكين من جهة أخرى، تعد محظورة وتحت طائلة الشروط التعسفية المشارطات التي تكون محلها، وأثرها إلغاء أو تحديد حق المستهلك في التعويض في حالة إخلال المهني بإحدى إلتزاماته".(1)
وما يلاحظ على نص هذه المادة هو عدم تحديدها للعناصر المكونة للصفة التعسفية في الشرط، وإنما أعطت مثالا لهذه الخاصية.
كما نصت المادة 1132/2 من القانون 95-56 الصادر في 01/02/1995 الخاص بالشروط التعسفية بقولها: "وهي التي بمخالفتها لمبدأ حسن النية تخلق وفي غير مصلحة المستهلك عدم توازن واضح بين حقوق وإلتزامات الأطراف المترتبة عن العقد"(*)، ولقد تضمن هذا النص ملحق يعرف الشروط التعسفية بأنها: "تلك التي يكون محلها وأثرها إلغاء وتحديد المسؤولية القانونية للمهنيين في حالة وفاة المستهلك أو إصابته بأضرار جسدية ناتجة عن فعل أو إمتناع المهني".
إن الوقوف على هذه التعريفات يجعلنا نلاحظ أن فكرة الشروط التعسفية في القانون الفرنسي مردها المؤسسات الإنتاجية والخدماتية المتعاملة مع جمهور المستهلكين والتي تسترسل في التعسف بفرض شروطها عليهم بفضل ما تحوزه من قدرات بشرية تقنية ومالية مما يجعلها ذات نفوذ إقتصادي وإجتماعي هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هذا النفوذ يرتب إخلالا في القوة والنِدِّيَةُ في التفاوض – الفائدة المبالغ فيها- فيحدث عدم توازن فادح في الحقوق والإلتزامات بين المهني والمستهلك فيجعل تنفيذه في لا يتوافق مع مبدأ حسن النية والعدالة والإنصاف.
أما في الجزائر وإلى غاية صدور القانون رقم 04-02 المؤرخ في 23 جوان 2004 والذي يحدد القواعد المطبقة على الممارسات التجارية لم تكن هناك نصوص خاصة بالشروط التعسفية إلا إذا استثنينا بعض النصوص والأحكام العامة المتصلة بفكرة الشروط التعسفية من بعيد خاصة المادة 70 من القانون المدني الجزائري التي تنص على ما يلي: "يحصل القبول في عقد الإذعان بمجرد التسليم لشروط مقررة يضعها الموجب، ولا يقبل مناقشة فيها"، وما أشارت إليه المادة 110 من القانون المدني الجزائري كذلك بعبارة الشروط التعسفية والتي ربطتها بعقود الإذعان دون ما تحدد هذه الشروط التعسفية.(1)
ولكن بعد صدور القانون رقم 04-02 الخاص بالممارسات التجارية السالف الذكر إختلف الأمر بحيث نصت المادة 03/05 منه على تعريف الشرط التعسفي بنصها على ما يلي: "كل بند أو شرط بمفرده أو مشتركا مع بند واحد أو عدة بنود أو شروطا أخرى من شأنه الإخلال الظاهر بالتوازن بين حقوق وواجبات أطراف العقد...".
وما يلاحظ على هذه المادة، أنها اعتبرت الشرط التعسفي كل إخلال ظاهر بالتوازن القائم بين المنتج والمستهلك وهو ما جاءت به المادة 29 من نفس القانون بحيث حددت الشروط والبنود التعسفية كما يلي:
- حفظ حق المهني في تعديل إلتزامات العقد
- حق المهني في تعديل إلتزامات العقد.
- التفرد بحق تفسير شروط العقد
- رفض حق المستهلك في فسخ العقد إذا أخل بإلتزام أو عدة إلتزامات في ذمته.
- التفرد بتغيير آجال تسليم المنتوج أو آجال تنفيذ خدمة.
- تهديد المستهلك بقطع العلاقات التعاقدية لمجرد رفض المستهلك الخضوع لشروط تجارية جديدة غير متكافئة -شروط تعسفية- جديدة.
والجدير بالذكر أن المادة 30 من نفس القانون أحالت على تنظيم في شأن تحديد الشروط التعسفية ولم يصدر هذا التنظيم إلى غاية الآن.(1)
الفرع الثاني: جزاء إدراج الشروط التعسفية في عقود الإستهلاك
يعتبر الإلغاء هو الجزاء المناسب للشروط التعسفية المدرجة في عقود المستهلكين، وهو ما سار عليه القضاء والقانون في فرنسا بحيث ربط القانون رقم 78-23 المؤرخ في 10/01/1978 الخاص بحماية المستهلك من الشروط التعسفية، إلغاء الشروط التعسفية بصدور المراسيم التنفيذية له، وهو ما يمثل حرجا للقضاء في فرنسا في إلغاء ما يعد شرطا تعسفيا، لكن هذا الوضع لم يقف في وجه القضاء في تقدير ما يعد شرطا تعسفيا بالإستناد على المادة 35 من القانون 78-23 السالف الذكر (2) ، وهو ما كرسه القضاء الفرنسي من خلال عدة أحكام قضائية لمحكمة النقض الفرنسية، في تحديد وإلغاء الشروط التعسفية ففي نفس السياق صدر حكم قضائي عن محكمة النقض الفرنسية الغرفة الأولى بتاريخ 14/05/ 1991 أقرت فيه صحيح الشرط، والذي تضمنه الإتفاق بين مخبر للصور وأحد عملاءه، والذي يعفيه من المسؤولية في حالة ضياع الفيلم المسلم له، وذلك بغعتبار أن الشرط السالف يخلق فائدة مبالغا فيها لصالح مؤسسة (GIMI/France) ناتجة عن وضع الهيمنة الإقتصادية لهذه الشركة.
وبعد صدور القانون 95-96 الخاص بالشروط التعسفية تكرس الدور المستقل للقاضي في تحديد وإلغاء الشروط التعسفية، وهو ما أكدته المادة 05 منه بحيث منحت للقاضي طرق متعددة للتفسير بغية الوصول إلى الصفة التعسفية، وتبقى له السلطة التقديرية لإستبانة عنصر الإذعان وذلك بالرجوع إلى الملابسات والظروف المصاحبة للعقد. (1)
ولقد تعززت المحاولات السابقة بموجب صدور القانون رقم 98-389 الخاص بمسؤولية المنتج عن منتجاته المعيبة، بحيث تنص المادة 1386-15 منه على ما يلي: "الشروط التي ترمي إلى استبعاد أو تحديد المسؤولية عن فعل المنتجات المعيبة تكون ممنوعة وتعتبر وكأنها غير مكتوبة".(2)
ويلاحظ على هذا النص القانوني أنه نص يرتب البطلان التلقائي على كل شروط تُحِدُّ من مسؤولية المنتج دون أن يمتد هذا البطلان إلى العقد، بمعنى آخر أن البطلان يقتصر على الشروط التعسفية الممنوعة وحدها.
لكن الفقرة الثانية من نص المادة 1386-15(3) السالفة الذكر أتت بإستثناء من القاعدة حيث أجازت الشروط المخففة أو المعفية من المسؤولية، وذلك في العلاقات بين المهنيين أنفسهم ويقتصر هذا الجواز على الأضرار التي تصيب الأموال المستعملة أساسا في أغراض مهنية.(4)
وفي الجزائر فإن القانون رقم 89-02 المتضمن القواعد العامة لحماية المستهلك لم يخرج عما ذهب إليه المشرع الفرنسي، حيث فرض ضمانا على البائع المحترف في المادة 06 منه واعتبر كل شرط يقضي بعدم الضمان لاغيا، وهو ما أكدته المادة 07 من ذات القانون بحيث إعتبرت كل شرط يكون مخالف للضمان المنصوص عليها في المادة 06 باطلا بطلانا مطلقا، كما أوجبت هذه المادة ضرورة الإلتزام بالضمان، وهو ما أكدته المادة 10 من المرسوم 90-266 المتعلق بضمان المنتوجات والخدمات حيث تقضي ببطلان أي شرط يقضي بتحديد إلتزامات المحترف القانونية أو يستبعدها(1).
مما يمكن استنتاجه أن التحديد المتعلق بالحالات المتوافرة على الشروط التعسفية والواردة في القانون لم يعد صالحا للعلاقة التعاقدية بين المنتج والمستهلك من خلال ظهور النصوص القانونية السالفة الذكر والتي وسعت من مفهوم هذه الشروط واعتبرت أن مجرد وجود بند في العقد يخل بالتوازن العقدي لصالح البائع المحترف أو المهني، شرطا تعسفيا يستوجب الإلغاء.
المطلب الثاني: بطلان الشروط التعسفية المتعلقة بالمستهلك
لا يقتصر بطلان الشروط المحددة أو الملغية للضمان والمسؤولية على الشروط التعسفية فقط، وإنما ينصرف أيضا هذا البطلان إلى شروط أخرى وفي حالات أخرى، ويتعلق الأمر ببطلان الشروط التعسفية في حالة الأضرار الجسدية والمرتبطة بالخطأ الجسيم والغش، وستكون هذه الحالات محل دراستنا من خلال هذا المطلب الذي نقسمه بحيث نتطرق في الفرع الأول إلى بطلان الشروط التعسفية في حالة الأضرار الجسدية، ونتطرق في الفرع الثاني إلى بطلان الشروط التعسفية في حالة الخطأ الجسيم والغش.
الفرع الأول: بطلان الشروط التعسفية في حالة الأضرار الجسدية
إن مبدأ بطلان الشروط التعسفية التي تكون محل إتفاق بين أطراف عقد الإستهلاك تعد من النظام العام، إذا كانت هذه الشروط تمس بالسلامة الجسدية للأشخاص وبالتالي فإن هذا المبدأ المشار إليه يخرج عن دائرة الإتفاقات المبرمة بين المحترف والمستهلك.(2)
ولقد إستقر هذا المبدأ في القضاء الفرنسي، وارتبط إرتباطا وثيقا بالعقود المتعلقة بشخص الإنسان كالعقد الطبي المبرم بين الطبيب والمريض، وعقد نقل المسافرين ... إلخ، بحيث يلتزم المهني إتجاه الشخص المتعاقد معه بضمان السلامة من المنتجات، وهو ما ذهب إليه الأستاذ "غاي ريمون" GAY RAYMAN حيث اعتبر الإلتزام بسلامة الأشخاص في عقود الإستهلاك ذو أهمية بالغة بحيث لا يمكن أن تكون للإتفاقات المحددة أو الملغية للمسؤولية من أثر في مواجهته، وهذا المسلك فرضته الأخطار الناتجة عن حوادث المنتجات بمختلف أصنافها والماسة بسلامة وصحة الإنسان.
هذا ويجب أن ينسحب البطلان على كافة الإتفاقات التي من شأنها أن تنقص الإلتزام بضمان التعويض أوعن مصاريف العمليات الجراحية مثلا والخدمات الطبية، بل حتى التعويض عن الأضرار المادية أو المعنوية بالإرتداد التي تمس أقارب الضحية.(1)
الفرع الثاني: بطلان الشروط في حالة الخطأ الجسيم أوالغش
تنص المادة 178/2 من القانون المدني الجزائري على ما يلي: "وكذلك يجوز الإتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ إلتزامه التعاقدي، إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطئه الجسيم".
ويستخلص من حكم هذه المادة أن إعمال مبدأ حرية الإتفاقات يعني من الناحية النظرية إمكانية تعديل أحكام مسؤولية المهنيين في النطاق التعاقدي لأنها غير مرتبطة كأصل عام بفكرة النظام العام بإستثناء حالة الخطأ الجسيم أو الغش.
أما في القانون الفرنسي فالمادة 1150 من القانون المدني منه تؤكد نفس الحكم بحيث أنها تستبعد إعمال شرط التحديد القانوني أو الإتفاقي للمسؤولية في حالة عدم تنفيذ الإلتزام نتيجة التدليس الصادر عن المدين، ويلاحظ أن المشرع الفرنسي قد شدد من مسؤولية المهنيين بإستعماله مصطلح التدليس، وهو مصطلح أعم واشمل من مصطلح الخطأ الجسيم أو الغش وقد كرس القضاء الفرنسي ذلك من خلال التقريب بين الخطأ الجسيم والغش في هذا المجال.
أما عن كيفية تقدير جسامة الخطأ فقد سلك القضاء الفرنسي طرق متعددة في ذلك فإعتمد في بعض الحالات على معيار حق الطرف المخل، فإعتبر الأخطاء الصادرة من المهنيين أخطاءا جسيمة واعتمد في حالات على معيار سلوك الطرف المخل فإعتبر الإهمال خطأ جسيما، وفي حالات أخرى اعتمد على معيار محل الإلتزام واعتبر الإخلال بالإلتزامات الجوهرية من قبيل الأخطاء الجسيمة، والجدير بالذكر أن القضاء الفرنسي بدوره قد قيد من حرية التحديد الإتفاقي للمسؤولية في مجال الأخطاء الفنية التي يقوم بها المهندسون والمقاولين وكذا أصحاب المهن، واعتبر شروط الإعفاء من المسؤولية في هذا المجال باطلة، فمثلا إذا باع الصائغ صيغته على أنها من الذهب الخالص ثم تبين أنها مطلات بقشرة منه قامت مسؤوليته، ولو تم الإتفاق بينه وبين المشتري على إعفائه منها، كما قضت محكمة النقض الفرنسية بأنه إذا كان بين بائع السيارة ومشتريها إتفاق على إصلاح ما يحدث من عطل بها، أو تغيير القطع المعيبة دون أداء أي تعويض كان فإن هذا الشرط لا يمنع محكمة الموضوع أن تقضي بفسخ العقد مع منح التعويض.(1)