منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - من كل سورة فائدة .. متجدد..
عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-12-23, 09:40   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
حنين موحد
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية حنين موحد
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سورةُ البَقَرَة

مناسبةُ مطلعِها لخاتمَتِها



قال الله تعالى في مطلعها : ﴿ الۤمۤ . ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 1-2 ) ، و قال في خاتمتها حاكيًا دعاءَ المؤمنين : ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ ( البقرة : 286 ) .
مطلعُ سورةِ البقرة حديثٌ عن المتّقين ، و خاتمتُها حديثٌ عن النّصر المبين ، و بين التّقوى و النّصر كما بين السّبب و المسبَّب ؛ لأنّ المتّقين هم أهل النّصر ، فكأنّه قيل : بتقوى الله تنصروا أيّها المؤمنون !
و لهذا الحكمِ نظائرُ كثيرةٌ في كتاب الله ، منها قوله تعالى : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِين َ﴾ ( البقرة : 194 ) ، و قوله : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّ ٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ ( النّحل : 128 ) ، و قوله : ﴿ وَ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ ( الجاثية : 19 ) ، و قوله : ﴿ وَ نَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ كَانُواْ يتَّقُونَ ﴾ ( فصّلت 18 ) ، و قوله : ﴿ فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ( هود : 49 ) ، و قوله : ﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَ ٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ ٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأعراف : 128 ) ، و قوله : ﴿ وَ ٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ (طه : 132 ) ، كلُّ هذه الآيات تنصُّ صراحةً على أنّ النّصرَ مقرونٌ بالتّقوى ، مع ذلك يأتي المتعجّلون مُغمَضي الأعين عنها باحثينَ عن النّصر في غير سبيلها ، و هم يعلمون أنّه لا يجوز التّحاكمُ لغير الله في كلّ صغيرةٍ و كبيرةٍ ، كما لا يجوز إلغاء ما شرَطَه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه و سلّم ، فكيف إذا اجتمعت هذه النّصوص كلّها عند من حبّب الله إليهم طاعته و طاعة رسوله صلّى الله عليه و سلّم و ملأ قلوبهم اليقينُ بأنّ الله يعلمُ و هم لايعلمون ؟! كم من عاجزٍ عن تربية النّاس على التّقوى مستعجلٍ بالحديث الطّويل و العريض عن الجهادِ و النّصرِ ، كانت نهايتُه هي نهايةُ من قيل فيه : من استعجل الشّيءَ قبل أوانه ، عُوقب بحرمانه .
ثمّ فصّل اللهُ الكلام عن التّقوى فيما بين المطلَع والمنتهى من سورة البقرة ؛ فقد اشتملت على جميع الأحكام الشّرعيّة الّتي بها تُنالُ درجةُ التّقوى : من المعتقدِ السّليمِ ، و أركان الإسلام الخمسةِ ، و أحكام المعاملات من أخلاقٍ و بيوعٍ و أحكامِ نكاحٍ و جهادٍ في سبيل الله و غيرها ، و قد جمعها الله في آيةٍ واحدةٍ جامعةٍ منها و نصّ في آخرها على أنّها صفاتُ المتّقين ، فقال : ﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَ ٱلْمَغْرِبِ وَ لَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَ ٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ وَ ٱلْكِتَابِ وَ ٱلنَّبِيينَ وَ آتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَ ٱلْيَتَامَىٰ وَ ٱلْمَسَاكِينَ وَ ٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَ ٱلسَّآئِلِينَ وَ فِي ٱلرِّقَابِ وَ أَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَ آتَى ٱلزَّكَاةَ وَ ٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَ ٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ و ٱلضَّرَّاءِ وَ حِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوآ وَ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ (البقرة : 177 ) ، و إذا تدبّرتَ كلّ مقطعٍ من مقاطع السّورة وجدت الله يختمه غالباً بالتّنويه بالتّقوى ، و قد ينوّه بها على رأسه ، و قد يجمع بين ذلك كما هو الشّأنُ في أكثرها ، فأوّل آية فيها – بل في المصحفِ كلّه على ترتيبه – أمر الله فيها بالتّوحيد نجدُ الله ختمها بالتّقوى ، فقال : ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة : 21 ) ، و قد وصف في بداية السّورة المتّقين بإقامِ الصّلاة و إيتاءِ الزّكاة ، كما قال : ﴿ هُدًى للْمُتَّقِينَ . ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَ ممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ (البقرة : 2-3 ) ، و ختم آيات الصّيام بالتّقوى فقال : ﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 187 ) ، و ختم آياتِ الحجّ بها فقالَ : ﴿ وَ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ( البقرة : 203 ) ، و ختم آيات القصاصِ بها فقال :﴿ وَ لَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة :179 ) ، و ختم آية الأهلّة بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ( البقرة : 189 ) ، و ختم آيةَ الجهاد بها فقال : ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 194 ) ، و ختم آياتِ الطّلاق بها فقال : ﴿ وَ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 241 ) ، وختم آياتِ الرّبا بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ (البقرة : 281 ) ، و ختم آية الدَّيْن بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ يُعَلمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( البقرة : 282 ) و كذا الآيةَ التي بعدها .
هذا ، و قد قصَّ الله علينا في السّورة قصصاً كثيراً بيّن فيه أثرَ التّقصير في تقوى الله في حرمانِ النّصر ، كما هو شأنُ بني إسرائيل الّذين أخذت قصّتُهم حيّزاً كبيراً من هذه السّورة ، فكان ممّا قصّه الله علينا في هذه السّورة أنّه كَبتَ عدوَّهم و يسّر لهم العودةَ إلى قريتهم بعد التّيهِ ، فقال : ﴿ وَ إِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِين ﴾ ( البقرة : 58 ) ، أي أمرَهم مقابلَ ذلك بدخول القرية سجّداً لله شكراً له سبحانه ، و بأن يقولوا حِطّة : أي احطُطْ عنّا خطايانا ، و في هذا إصلاحٌ للفعل و للقول ، قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله في " تفسيره " : " و حاصل الأمرأنّهم أُمِروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل و القول ، و أن يعترفوا بذنوبهم و يستغفروا منها و الشّكر على النّعمةِ عندها ، و المبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى ، كما قال تعالى : ﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَ ٱلْفَتْحُ . وَ رَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبكَ وَ ٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا ﴾ ( النّصر : 1-3 ) ، فسّره بعض الصّحابة بكثرة الذّكر و الاستغفار عند الفتح و النّصر ، و فسّرهُ ابن عبّاسٍ بأنّه نُعي إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أجله فيها و أقرّه على ذلك عمرُ رضي الله عنه ، و لا منافاةَ بين أن يكون قد أُمِر بذلك عند ذلك و نُعي إليه روحه الكريمة أيضا ، ولهذا كان عليه الصّلاة والسّلام يظهر عليه الخضوع جدّا عند النّصر ، كما روي أنّه كان يوم الفتح – فتح مكّةداخلاً إليها من الثنّية العُليا و إنّه خاضعٌ لربّه حتّى إنّ عُثْنُونَه لَيَمَسُّ مَوركَ رَحْلِه شكرا لله على ذلك (1) ، ثمّ لمّا دخل البلد اغتسل و صلّى ثمانيَ ركعاتٍ و ذلك ضُحىً (2) ، فقال بعضُهم : هذه صلاةُ الضّحى ، و قال آخرون : بل هي صلاةُ الفتح ، فاستحبّوا للإمام و للأمير إذا فتح بلداً أن يصلّيَ فيه ثمانيَ ركعات عند أوّل دخوله كما فعل سعدُ بن أبي وقّاصٍّ رضي الله عنه لمّا دخل إيوانَ كسرى صلّى فيه ثمانيَ ركعاتٍ " ، و يريدُ أنّ الله أمر عند النِّعم بالتّسبيح ، و أوّل ما يدخل فيه الصّلاة ؛ لأنّ الصّلاة يطلق عليها التّسبيح كما نقله المفسّرون عن بعض السّلف أنّه فسّر به قولَه تعالى : ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ ﴾ ( الصّافات : 143 ) ، و في السنّة قولُ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم : " إ نّه ستكون عليكم أمراءٌ يؤخّرون الصّلاة عن ميقاتها و يخنقونها إلى شَرََق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلّوا الصّلاة لميقاتها و اجعلوا صلاتكم معهم سُبحةً " رواه مسلم ، و الغرض من هذا أنّه كما أُمِر بنو إسرائيل هنا بالسّجود ، أُمِر النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم في سورة النّصر بالتّسبيح الّذي منه الصّلاة ، وكما أُمر بنو إسرائيل هنا بسؤال حطّ الخطايا ، أُمر النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم في سورة النّصر بالاستغفار ، و المناسبة واحدةٌ و هي فتحُ البلاد من يد العدوّ و التّمكّنُ من دخولها ، و هذا من عجيب النّظائر التي اهتدى إليها ابن كثيرٍ رحمه الله ، و المقصودُ أنّ بني إسرائيل أُمروا بالشّكر بالفعل و القول ، لكن بدّلوا الفعل بغير الفعل ، و القول بغير القول ، كما نبّه عليه أيضا ابنُ حجرٍ في " الفتح" ( 8/304 ) و المباركفوري في " تحفة الأحوذي " ( 7/234 ) ، فأمّا الفعل فبدلا من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مؤخّرتهم ، و أمّا القول فبدلا من أن يسألوا ربّهم أن يحطّ عنهم خطاياهم فقد قالوا باستهزاء : حِنطة ، روى البخاريّ و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " قيل لبني إسرائيل : ﴿ وَ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ، فبدّلوا فدخلوا يزحفون على أَسْتاهِهِم و قالوا : حبّةٌ في شعرةٍ !! "، قال الله تعالى : ﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ ( البقرة : 59 ) .
و الحاصل أنّ الله أخبرنا في هذه السّورة – سورةِ البقرةأنّه أَمَر بني إسرائيلَ بتقواه فقال : ﴿ وَ إِيَّايَ فَٱتَّقُونِ ﴾ ( البقرة : 41 ) ، و كان من ذلك الشّكر بالقول و الفعل فخالفوا فجَنَوا الخذلانَ و العذابَ ، كما قصّ الله علينا قصّةَ طالوت و جالوت لما فيها من عبرةٍ لكلّ من استعجل النّصر ولم يكن من أهل التّقوى ، لأنّهم طلبوا القتال فنهاهُم نبيُّهم عنه بسبب ضَعفهم ، فلما أصرُّوا على ذلك أراهم الله من أنفسهم المخالفةَ للأوامر و عدمَ الثّباتِ عند اللّقاء إلاّ لفئةٍ قليلةٍ منهم و هم المؤمنونَ المتّقونَ ،كما قال سبحانه : ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً منْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَ ٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ ( البقرة : 249 ) ، و لمّا كان موضوعُ الطّلاق مما تشحُّ فيه النّفوس و تنزعُ إلى الانتقام والاعتداء فإنّ الحديث عن الّتقوى قد تخلّله خمس مرّاتٍ .
و المعنى الّذي من أجله بسطتُ الكلامَ على هذه السّورة الكريمة بيانُ أنّها حين ابتُدئت بذكر أوصاف المتّقين و خُتمت بالدّعاء بالنّصر أنّ المستحقّين للنّصر هم أهل التّقوى ، و تخلّل ذلك كلّه تفصيلٌ أحوال المتّقين و تعريفٌ بطريقهم لتُسلكَ على بصيرةٍ ، و لعلّه من أجل هذا بدأ الله السّورة بالتّنويه بكتابه ، فقال : ﴿ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ ؛ لأنّه حوى بيانَ أسبابِ التّقوى ، لا سيما و أنّ الله إنّما يرفع المؤمنين على غيرهم به ،كما روى مسلمٌ عن عامرِ بنِ واثلةَ " أنّ نافعَ بنَ عبد الحارثِ لقيَ عمرَ بعُسْفانَ ، وكان عمرُ يستعمله على مكّةَ ، فقال : من استعملتَ على أهل الوادي ؟ فقال : ابنَ أبزى ، قال : و من ابنُ أبزى ؟ قال : مولىً من موالينا ، قال : فاستخلفتَ عليهم مولىً ؟! قال : إنّه قارئٌ لكتاب الله عزّ وجلّ ، و إنّه عالمٌ بالفرائض ، قال عمرُ : أما إنّ نبيَّكُم صلّى الله عليه وسلّم قد قال : إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً و يضعُ به آخرينَ " .
و لعلّه من أجل هذا أشار الله إلى كتابه هنا بلفظ الإشارة الدّالِ على البُعدِ ، و هو : ﴿ ذلك ، قال أبو السّعود في " تفسيره " ( 1/24 ) : " و معنى البعد ما ذُكر من الإشعار بعلوّ شأنه ، والمعنى ذلك الكتاب العجيب الشّأن البالغُ أقصى مراتبِ الكمال " ، و لمّا كان أهلُ القرآن إنّما رَفَعَهم الله بتقواهم جاء التّنصيصُ على رفعتهم على غيرهم بذلك في السّورة نفسها ، فقال : ﴿ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ( البقرة : 212 ) ، و في المبحثِ الذي يلي هذا بيانُ الطّريقةِ الّتي يُنصر بها الكتاب الكريم لنيل التّأييد و النّصر من الله تعالى .


_________________________________

(1) : ضعّفه الشّيخُ الألبانيّ في تعليقه على " فقه السّيرة " ( ص 412 ) و الشّيخُ مقبلٌ الوادعيّ في تعليقه على " تفسير ابن كثير " ( 1/187 ) .
(2) : متّفقٌ عليه .