منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والانجسل
عرض مشاركة واحدة
قديم 2024-01-30, 08:07   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عبدالله الأحد
عضو نشيط
 
إحصائية العضو










افتراضي



- داود عليه السلام يبشر بنبي من غير ذريته:
ويتحدث داود عن النبي القادم فيقول: ( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة.. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها..) (المزمور 110/1-6).
ويرى اليهود والنصارى في النص نبوءة بالمسيح القادم من ذرية داود من اليهود.
وقد أبطل المسيح لليهود قولهم، وأفهمهم أن القادم لن يكون من ذرية داود، ففي متى: ( كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح ؟ ابن من هو ؟ قالو له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه ؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة ) (متى 22/41 - 46) وفي مرقص ( فداود نفسه يدعوه ربا. فمن أين هو ابنه ) (مرقص 12/37) و(انظر لوقا 20/41 – 44).
وتسمية عيسى عليه السلام للنبي بالمسيح سبق التنبيه عليها.
فلقب (المسيح المنتظر) يتعلق بمسيح يملك ويسحق أعداءه، وهو ما رأينا تنكر المسيح عليه السلام له في مواطن عديدة، منها أنه قال لبيلاطس : مملكتي ليست في هذا العالم ) (يوحنا 18/36)، أي: أنها مملكة روحية.
وهي غير المملكة التي يبشر بها داود في مزاميره، حيث قال: أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبَك.. يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها..).
وهو الذي قال عنه يعقوب: ( له خضوع شعوب ) (التكوين 49/10).
وينقل القس الدكتور فهيم عزيز عميد كلية اللاهوت للبروتستانت في مصر عن علماء الغرب إنكارهم ( أن يسوع كان يتصرف ويتكلم كمسيح لليهود أو المسيا الذي كان ينتظره العهد القديم).
وقد تنبأ وبشَّر سليمان أيضاً في المزامير بالنبي الملك صلى الله عليه وسلم، فقال: ( ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية، وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبإ يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له؛ لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين؛ إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا، ويصلّي لأجله دائماً، اليوم كله يباركه، تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال، تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض.
يكون اسمه إلى الدهر، قدام الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به، كل أمم الأرض يطوّبونه، مبارك الرب الله إله إسرائيل الصانع العجائب وحده، ومبارك اسم مجده إلى الدهر، ولتمتلئ الأرض كلها من مجده، آمين ثم آمين ). (المزمور 72/8-19)،
فمن هو الذي سجدت وأذعنت وذلَّت له الملوك، ومجدَّه الله في كل الدهور ؟
لا ريب أنه محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دانت لسلطانه أعظم ممالك عصره: الروم والفرس.

البشارة بالملكوت:

ومن الألقاب التي أعطيت للدين الجديد وأتباعه في (الكتاب المقدس) ( الملكوت ) أو (ملكوت السماوات)، الذي أنبأ المسيح عن انتقاله عن أمة اليهود إلى أمة أخرى، فقال: ( إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) (متى 21/43).
هذا الملكوت تقاطرت الأنبياء على البشارة به ( كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه ) (لوقا 16/16-17).
والملكوت قد بشر باقتراب عصره النبي يوحنا المعمدان، يقول متى : جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 3/1 - 2)
.وتحدث المعمدان عن الملكوت القادم فقال لليهود متوعداً: ( يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي... والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار، الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ. حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد منه....)(متى 3/1 - 13)
ولنتوقف سريعاً مع الصفات التي ذكرها يوحنا المعمدان لصاحب الملكوت.
فأولها: أنه يأتي بعده، فلا يمكن أن يكون هذا الآتي بعده هو المسيح الذي أتى في أيام يوحنا المعمدان.
وثانيها: أنه قوي، وقوته تفوق قوة يوحنا المعمدان، ومثل هذا الوصف لا ينطبق على المسيح الذي يزعم النصارى مصرعه على الصليب قريباً مما جرى ليوحنا المعمدان،
وأنَّى هذا من غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر أعدائه ؟ ثم بلغ من القوة أنه طهَّر الأرض من رجس الوثنية بالروح والنار أي: بدعوته العظيمة وقوته القاهرة، وكل ما تقدَّم لا ينطبق على أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد وفاة يوحنا المعمدان جدَّد يسوع البشارة باقتراب الملكوت، ( ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 4/17)، ( وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت ) (متى 4/23)، ( كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله، ومعه الاثنا عشر) (لوقا 8/1).
وقد اعتبر المسيح عليه السلام البشارة بالملكوت مهمته الأولى، بل الوحيدة، فقال: ( فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله؛ لأني لهذا قد أرسلت) (لوقا 4/34).
وأمر تلاميذه بأن يبشروا باقتراب الملكوت فقال: ( اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 10/7).
ثم علم المسيح تلاميذه أن يقولوا في صلاتهم تلك العبارة التي ما يزال النصارى يرددونها إلى اليوم ( أبانا الذي في السماوات.. ليأت ملكوتك ) (لوقا 10/2).
ومن خلال هذا كله نستطيع أن نقول بأن رسالة عيسى كانت بشارة بالملكوت الذي بشَّر به يوحنا المعمدان، ووصفا بعض ما يكتنفه، وهذا الملكوت هو بعد المسيح في أمة تعمل أثماره، ولا تضيعه كما أضاعه اليهود.
فما هو هذا الملكوت ؟
يجيب النصارى بأن الملكوت (شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول المسيح)،
وفسَّره آخرون بأنه انتصار الكنيسة على الملحدين، وفسَّره آخرون بأنه البشارة بالخلاص بدم المسيح،
يقول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لإنجيل متى: (فإن الملكوت الذي أعلنه السيد المسيح هو )بشارة الملكوت( أو )إنجيل الملكوت(... تعبر عن أخبار الخلاص المفرحة التي قدَّمها لنا الله في ابنه يسوع).
ويعجب المسلمون لانصراف النصارى عن معنى الملكوت، وتعلقهم بما لا طائل وراءه، فلقد انتصرت الكنيسة، وحكمت أوربا قروناً عدة، ولم نر ما يستحق أن يكون أمراً يبشر به المعمدان والمسيح والتلاميذ.
وكذلك فإن أخبار الخلاص المزعوم لا يمكن أن تكون هي البشارة التي كان المسيح يطوف مبشِّراً بها في المدن والقرى،
فأقرب تلاميذه لم يفهموا هذا المعنى، ومنهم التلميذان المنطلقان لعمواس بعد حادثة الصلب، فقد كانا يبكيان لفوات الخلاص بموت المسيح ( فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين... كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل، ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك) ( لوقا 24/17-21). لقد جهل التلميذان موضوع الخلاص بموت المسيح، فهما يبحثان عن خلاص آخر، وهو الخلاص الدنيوي الذي ينتظره بنو إسرائيل.
وأيضاً جهلت الجموع المؤمنة التي شهدت الصلب أن الصلب هو البشارة المفرحة التي كان يبشر بها المسيح فرجعوا وهم يبكون وينوحون ( وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم )( لوقا 23/48- 49).
ولا يمكن أن يكون الملكوت الموعود هو الخلاص بدم المسيح؛ لأن النصوص ذكرت أموراً تحدث قبل مجيء الملكوت، فهي علامات تتحقق قبل حلول الملكوت، ومن بينها قيام أمة جديدة ومملكة جديدة، وهو ما لم يتحقق قبل انتشار المسيحية في العالم، ولا حين صلب المسيح ،
يقول متى: (فسألوه قائلين: يا معلّم متى يكون هذا ؟ وما هي العلامة عندما يصير هذا ؟
فقال: انظروا لا تضلوا، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: إني أنا هو. والزمان قد قرب، فلا تذهبوا وراءهم، فإذا سمعتم بحروب وقلاقل فلا تجزعوا؛ لأنه لا بد أن يكون هذا أولاً، ولكن لا يكون المنتهى سريعاً.
ثم قال لهم: تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة، وتكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء.
وقال لهم مثلاً: انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار، متى أفرخت تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب، هكذا أنتم أيضاً، متى رأيتم هذه الأشياء صائرة، فاعلموا أن ملكوت الله قريب.
الحق أقول لكم: إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل، السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول، فاحترزوا لأنفسكم؛ لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة، فيصادفكم ذلك اليوم بغتة؛ لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض، اسهروا إذاً وتضرَّعوا في كل حين، لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون، وتقفوا قدام ابن الإنسان) (لوقا 21/6-36).
وفي قوله :وتقفوا قدام ابن الإنسان) ما يربط الملكوت بشخص ابن الإنسان القادم، فهو لا يتحدث عن انتشار المسيحية، بل يتحدث عن ظهور النبي الخاتم ابن الإنسان ويدعوهم للاستعداد للقائه.
فالملكوت هو أمة تعمل وفق إرادة ورضاء صاحب الملكوت جلَّ جلاله.

يقول (وليم باركلي) في تفسيره لسفر الأعمال: (الملكوت هو مجتمع على الأرض، تُنفَّذُ فيه إرادة الله تماماً كما في السماء).
وفي أحد تشبيهات المسيح للملكوت أبان لتلاميذه عن سبب انتقاله عن بني إسرائيل فقال: (اسمعوا مثلاً آخر، كان إنسان رب بيت، غرس كرماً، وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة وبنى برجاً، وسلمه إلى كرامين وسافر.
ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين؛ ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، ثم أرسل إليهم أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين، ففعلوا بهم كذلك.
فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني، وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم، وقتلوه.
فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين ؟ قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً رديًّا، ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطون الأثمار في أوقاتها.
قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.
ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم ) (متى 21/33 - 45)، (وانظر لوقا 20/9 - 19)،
فمن تراه تكون الأمة العظيمة التي إذا غزت أمة سحقتها، وإذا أرادتها أمة نكصت على عقبيها ؟ لا ريب أنها الأمة التي هزمت أعظم دولتين في عصرها: الروم والفرس، وانساحت في الأرض، وملكت خلال قرن واحد ما بين الصين وفرنسا، إنها أمة الإسلام.
ونبوءة متَّى السالفة تحيل على نبوءة في كتب الأنبياء،
وهي ما جاء في مزامير داود عن الآتي باسم الرب (أحمدك؛ لأنك استجبت لي، وصرت لي خلاصاً، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلّص، آه يا رب أنقذ، مبارك الآتي باسم الرب) (المزمور 118/21-25).

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً، فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبِنة، فيتم بنيانك ؟، فقال صلى الله عليه وسلم: فكنت أنا اللبِنة)) إنه الحجر الذي تمت به النبوات.
وقبل أن ننتقل إلى شرح النبوءة يحسن بنا أن ننوه إلى الخطأ الذي وقع فيه بطرس حين زعم أن المسيح هو الحجر الذي رفضه البناؤون، فقال: (يسوع الناصري الذي صلبتموه أنتم... هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون، الذي صار رأس الزاوية، وليس بأحد غيره الخلاص؛ لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص) (أعمال 4/10-12)، مع أن الحجر الذي أخبر عنه داود ثم المسيح نبوة غالبة، وأمة ظافرة، وهذه النبوة ليست في بني إسرائيل، كما شهد المسيح عليه السلام.
ولبطرس عذر في خطئه، فهو إنسان عامي عديم العلم، كما شهد له أولئك الذين استمعوا لحديثه وتعجَّبوا من المعجزات التي صنعها، فقد قال في ذات السياق: ( فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان، تعجبوا ) ( أعمال 4/13 ).
وهذا المثل العجيب من المسيح (مثل الكرامين) يحكي تنكر اليهود لنعم الله واصطفائه لهم، بقتلهم أنبياءه وهجر شريعته، ويحكي انتقال الملكوت إلى أمة تقوم بأمر الله تعالى، وتقوى على أعدائها وتسحقهم.
وهذه الأمة مرذولة محتقرة (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية)، لكن الله اختارها رغم عجب اليهود من تحول الملكوت إلى هذه الأمة المرذولة، لكنه قدر الله العظيم (من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا)..
فمن تكون هذه الأمة المرذولة ؟ إنها أمة العرب، أبناء الجارية هاجر، التي يزدريها (الكتاب المقدس)، فقد قالت سارة: (اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن الجارية لا يرث مع ابني إسحاق) (التكوين 21/10).

وقال بولس مفتخراً على العرب محتقراً لهم: ( ماذا يقول الكتاب ؟ اطرد الجارية وابنها؛ لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذاً أيها الإخوة: لسنا أولاد جارية، بل أولاد الحرة) (غلاطية 4/30 - 31).
وقد ضرب المسيح المزيد من الأمثال للملكوت القادم، فبيَّن في مثل آخر أنه ليس في بني إسرائيل الأمة التي لم تستحق اصطفاء الله لها، يقول متى: (جعل يسوع يكلمهم أيضاً بأمثال قائلاً: يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً صنع عرساً لابنه، وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين: هو ذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمناتي قد ذبحت، وكل شيء معدٌّ، تعالوا إلى العرس.
ولكنهم تهاونوا ومضوا، واحد إلى حقله، وآخر إلى تجارته، والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم.
فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده، وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم، ثم قال لعبيده: أما العرس فمستعد، وأما المدعوون فلم يكونوا مستحقين، فاذهبوا إلى مفارق الطرق، وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس.
فخرج أولئك العبيد إلى الطرق، وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس، فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس ؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: اربطوا رجليه ويديه وخذوه، واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان؛ لأن كثيرين يدعون، وقليلين ينتخبون) (متى 22/1-14).
وفي مثل آخر بين لهم أنواع الناس في قبول الملكوت والإذعان له، ودعاهم لقبوله والإذعان له،
فقال: (فكلمهم كثيراً بأمثال قائلاً: هو ذا الزارع قد خرج ليزرع، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته.
وسقط آخر على الأماكن المحجرة، حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالاً؛ إذ لم يكن له عمق أرض، ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف.
وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه.
وسقط آخر على الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً، بعض مائة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين، من له أذنان للسمع فليسمع...
فاسمعوا أنتم مثل الزارع، كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع في قلبه، هذا هو المزروع على الطريق.
والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح، ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر.
والمزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة، وهم هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة، فيصير بلا ثمر.
وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين) (متى 13/1-23).

ويتطابق هذا المثل الإنجيلي مع المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الناس مع دعوته، حيث قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا، وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))
وحدَّث المسيح تلاميذه عن انتشار الملكوت الذي هو أصغر البذور، لكنه أعظمها انتشاراً، يقول متَّى: (قدم لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السموات حبة خردل، أخذها إنسان، وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور، لكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة، حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها.
قال لهم مثلاً آخر: يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبَّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع، هذا كله كلم به يسوع الجموع بأمثال، وبدون مثل لم يكن يكلمهم) (متى 13/31-34). (انظر مرقس 4/30-32).

يقول الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل متى: (وتكاد الأمثلة في هذا الإصحاح أن تصف الملكوت على الأرض من بدايته إلى نهاية العالم، ففي المثل الأول يزرع الملكوت في القلوب، وفي الثاني يحاربه الشيطان فيزرع فيه زواناً، ولكن لابد أن ينمو الملكوت منتشراً في العالم ويصير شجرة ضخمة (حبة الخردل)، على أن روح أبناء الملكوت لابد أن تكون هي الاندماج في العالم لتخليصه من الداخل كالخميرة)
وفي نص آخر يتحدث عن هيمنة الشريعة الجديدة على سائر الشرائع السابقة ونسخها لها، فيقول: ( أيضاً يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفيًّا في حقل وجده إنسان، فأخفاه، ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له، واشترى ذلك الحقل.
أيضاً يشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له، واشتراها) (متى 13/44-46).
وقد قال المسيح مبشراً بالقادم الذي ينسخ الشرائع بشريعته: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) (متى 5/17- 18)،

فمن هو هذا الذي له الكل، إنه ذات النبي الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها (وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض) (كورنثوس (1) 12/8-10).
وكما تحدث المسيح عن هذا النبي تحدث عن تأخر زمان ظهوره عن النبوات السابقة، لكن ذلك لن يمنع عظيم الأجر والثواب لأمته، فضرب هذا المثل وقال: ( فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح؛ ليستأجر فَعَلة لكرمه، فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم، فمضوا.
وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل ذلك.
ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين، فقال لهم: لماذا وقفتم ههنا، كلَّ النهار بطالين ؟
قالوا له: لأنه لم يستأجرنا أحد. قال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم.
فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين.
فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً، فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر، فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً، وفيما هم يأخذون تذمَّروا على رب البيت قائلين: هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر.
فأجاب وقال لواحد منهم: يا صاحب، ما ظلمتك، أما اتفقت معي على دينار ؟ فخذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك. أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي أم عينك شريرة لأني أنا صالح!
هكذا يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين؛ لأن كثيرين يُدعَون، وقليلون ينتخبون ) (متى 20/1- 16).

وهكذا فاز الآخرون بالأجر والثواب.فالآخرون هم الأولون السابقون، كما قال المسيح، وأكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((نحن الآخرون السابقون)) وقوله: ((مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: مالنا أكثر عملاً وأقل عطاءً ؟ قال: هل نقصتكم من حقكم ؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء))

النبي دانيال يتنبأ بزمان الملكوت:

وقد نقل الكتاب المقدس بعض نبوءات الأنبياء عن زمن ظهور هذا الملكوت، ومن ذلك أن بختنصر رأى رؤيا أفزعته ولم يعرف العرافون ولا المنجمون تعبيرها،
ففسَّرها له النبي دانيال فقال: (أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم، هذا التمثال العظيم البهي جدًّا وقف قبالتك، ومنظره هائل، رأس هذا التمثال من ذهب جيد، وصدره وذراعاه من فضة، بطنه وفخذاه من نحاس، ساقاه من حديد، قدماه بعضها من حديد، والبعض من خزف. كنت تنظر إليه إلى أن قطع حجرا بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أنت أيها الملك ملك ملوك؛ لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتداراً وسلطاناً وفخراً، وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء... فأنت هذا الرأس من ذهب.
وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض، وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد؛ لأن الحديد يسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء، وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فبعض المملكة يكون قويًّا والبعض قصماً، وبما رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين، فإنهم يختلطون بنسل الناس.....
وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً، ومَلِكها لا يُترك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد؛ لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب. الله العظيم قد عرف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق وتعبيره يقين ) (دانيال 2/21 - 45).
يقول (هودجكن) في كتابه (المسيح في كل الكتب): (وأما الحجر الذي قطع بغير يدين ويسحق التمثال العظيم فكناية عن مملكة (المسيا): أي: المسيح المنتظر).وفي التفسير التطبيقي: (وأما الحجر المقطوع من الجبل فيشير إلى ملكوت الله الذي يحكمه المسِيَّا ملك الملوك إلى الأبد ).
فالرؤيا كما يظهر هي عن الممالك التي ستقوم بين يدي بني الملكوت، فأولها مملكة بابل التي يرأسها بختنصر، والتي يرمز لها في الحلم بالرأس الذهبي.
ثم مملكة فارس التي قامت أقامها خسرو، وتسلط ملكها قورش على بابل سنة (593 ق. م)، ورمز لها في المنام بالصدر والذراعين من فضة.
ثم تلتها مملكة مقدونية والتي قضت على مملكة الفرس، وأسَّسها الإسكندر المقدوني (336 ) ق. م، ويرمز لها في المنام بالبطن والفخذين من النحاس.ثم تلتها إمبراطورية الرومان، والتي أسَّسها الإمبرطور بوفبيوس (63 ) ق. م، ورمز لها في المنام بساقين من حديد وقدمين: إحداهما من خزف، وأخرى من حديد، ولعله أراد دولتي فارس والروم أو انقسام الإمبراطورية الرومانية

(وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً )، فقد جاء الحجر الذي رذله البناؤون وقد قطع بغير يدين، إذ جاء من السماء ليقضي على الفرس والروم، وأقام الملكوت الموعود في الدنيا قروناً طويلة، ولم ينقطع بأس هذه الأمة إلا في هذا القرن الأخير.
ولعل في هذه النبوءة ما يبشِّر بكون هذا الكسوف عرضاً زائلاً ما يلبث أن يزول، فتشرق شمس أمة الإسلام من جديد.
وقريباً من رؤيا بختنصر رأى دانيال رؤيا الحيوانات الأربع قال : كنت أرى في رؤياي ليلاً، وإذا بأربع رياح السماء هجمت على البحر الكبير، وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة هذا مخالف ذاك، الأول كالأسد... وإذا بحيوان آخر ثان شبيه بالدب... وإذا بآخر مثل النمر... وإذا بحيوان رابع هائل وقوي وشديد جدًّا، وله أسنان من حديد كبيرة، أكل وسحق وداس الباقي برجليه، وكان مخالفاً لكل الحيوانات الذين قبله وله عشرة قرون...
كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى، وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً؛ لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض) (دانيال 7/3-18).
ويوافق النصارى على أن الممالك الأربعة هي البابلية ثم الفارسية ثم اليونانية ثم الرومانية، ويرون الملكوت متحققاً في ظهور دين المسيح، وتأسيس الكنيسة في يوم الخمسين عندما نزل الروح القدس على التلاميذ المجتمعين في أورشليم.
لكن المملكة الروحية التي أسَّسها الحواريون لا يمكن أن تكون الملكوت الموعود؛ لأن دانيال يتحدث عن أربع ممالك حقيقية، سحق آخرَها ملكٌ حقيقي، لا روحي ( وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً، وملكها لا يترك لشعب آخر، وتسحق وتفني كل هذه الممالك) (دانيال 2/44).
وقال عن المملكة ونبيها: ( لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة ) (دانيال 7/14).
وقد فهم التلاميذ من المسيح أن هذه المملكة القادمة زمنية لا روحية، فسألوه وهم يظنون أنها تقوم على يديه، لذلك تساءلوا بعد حادثة الصلب: ( هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل ؟ ) (أعمال 1/6)،
وقد اجتهد المسيح في إفهامهم أن مملكته روحية، بينما المملكة القادمة مملكة حقيقية.
ثم إن مملكة التلاميذ لم تقهر الدولة الرومانية، بل إن الرومان قهروا المسيحية بعد حين، حين أدخلوا وثنياتهم فيها.
وكيف للنصارى أن يقولوا بقهر الرومان، وهم يزعمون أن المسيح مات على أعواد صليب روماني.
أما المسلمون فهم الذين قضوا على الدولة الرومانية، واقتلعوها من أرض فلسطين، ثم بقية بلاد الشام ومصر، ثم أضحت عاصمتها القسطنطينية عاصمة للإسلام دين الملكوت..

البشارة بـ(محماد) مشتهى الأمم:

وبعد عودة بني إسرائيل من السبي، وتخفيفاً لأحزانهم، ساق لهم النبي حجي بشارة من الله فيها: (لا تخافوا؛ لأنه هكذا قال رب الجنود، هي مرة بعد قليل، فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة، وأنزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم، فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود.... مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود) (حجي 2/6 - 9).
وهذه النبوءة لا ريب تتحدث عن القادم الذي وعد به إبراهيم، وبشَّر به يعقوب وموسى ثم داود عليهم الصلاة والسلام.
وقبل أن نلج في تحديد شخصية هذا المشتهى من كل الأمم نتوقف مع القس السابق عبد الأحد داود، وهو الخبير باللغات القديمة،
إذ يسوق لنا النص بالعبرانية: ( لسوف أزلزل كل الأرض، وسوف يأتي (محماد) لكل الأمم... وفي هذا المكان أعطي السلام )،
فقد جاء في العبرية لفظة (محماد ) أو ( حمدت ) كما في قراءة أخرى حديثة، ولفظة ( محِمْادْ ) في العبرانية تستعمل عادة لتعني: ( الأمنية الكبيرة ) أو (المشتهى)، والنص حسب الترجمة العبرانية المتداولة: (فباؤا حمدات كول هاجوييم).

لكن لو أبقينا الاسم على حاله دون ترجمة، كما ينبغي أن يكون في الأسماء ، فإنا واجدون لفظة ( محماد ) هي الصيغة العبرية لاسم أحمد، والذي أضاعها المترجمون عندما ترجموا الأسماء أيضاً.يقول المؤرخ (ول ديورانت): ( ولفظ محمد مشتق من الحمد، وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشِّر به)
وجاء في تمام النبوءة الحديث عن البيت الأخير لله، والذي هو أعظم مجداً من البيت الأول، ثم يقول: ( في هذا المكان أعطي السلام )، وقد استخدمت الترجمة العبرية لفظة (شالوم ) والتي من الممكن أن تعني الإسلام، فالسلام والإسلام مشتقان من لفظة واحدة
وقوله: ( في هذا المكان أعطي السلام )،

قد تتحدث عن عقد الأمان الذي عم تلك الأرض والذي أعطاه عمر بن الخطاب لأهل القدس عندما فتحها، فتكون النبوءة عن إعطاء السلام، ولم تنسبه إلى المشتهى، ذلك أن الأمر تمَّ بعد وفاته في أتباعه وأصحابه الكرام.
ولا ريب أن النبوءة لا تتحدَّث عن المسيح؛ إذ لا تقارب بين ألفاظ النبوءة واسمه، أو بين معانيه وما عهد عنه عليه السلام؛ إذ لم يستتب الأمن في القدس حال بعثته، بل بشر اليهود بخراب هيكلهم بعد حين، كما كان رسولاً إلى بني إسرائيل فحسب، وليس لكل الأمم، والقادم هو مشتهى الأمم جميعاً، وليس خاصًّا ببيت يعقوب، كما جاء في وصف المسيح مراراً.
وهذا الاستعمال لكلمة ( السلام ) بمعنى ( الإسلام ) يراه عبد الأحد داود لازماً في موضع آخر من (الكتاب المقدس)، فقد جاء في (إنجيل لوقا) أن الملائكة ترنموا عند ميلاد المسيح قائلين: (المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة ) (لوقا 2/14).
ويتساءل القس السابق عبد الأحد داود أي سلام حلَّ على الأرض بعد ميلاد المسيح، فقد تتابع القتل، والحروب ما تزال تطحن، وإلى قيام الساعة، ولذلك فإن الترجمة الصحيحة لكلمة (إيرينا ) اليونانية في العبرانية: ( شالوم )، وهي في العربية ( الإسلام ) كما ( السلام ).
وإن أصرَّ النصارى على تفسير كلمة ( إيرينا ) بالسلام، فقد جعلوا من عيسى مناقضاً لنفسه،
إذ قال: ( جئت لألقي ناراً على الأرض... أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض. كلا أقول لكم، بل انقساماً... ) (لوقا 12/49 - 51)، وفي متى: ( لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً ) (متى 10/34).
وتبعاً لهذا يرى عبد الأحد داود أن صانعي السلام هم المسلمون، وذلك في قول المسيح: (طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم يدعون أبناء الله ). (متى 5/9) فيرى أن الترجمة الدقيقة هي (طوبى للمسلمين )، وليس صانعي السلام الخيالي، الذي لم ولن يوجد على الأرض.
كما لا يستطيع أحد ينتمي إلى فرق النصارى المختلفة والمتباغضة طوال تاريخ النصرانية، لا يستطيع أن يقول بأن السلام قد تحقق في نفوس المؤمنين؛ إذ الأحقاد المتطاولة بينهم تكذب ذلك كله.
وجاء في تمام الأنشودة المزعومة للملائكة: ( وبالناس المسرة )، واستخدم النص اليوناني كلمة (يودوكيا ) وهي كلمة مشتقة من الفعل اليوناني ( دوكيو )، ومعناها كما في القاموس الإغريقي: (لطيف، محسن، دمث... ) ومن معانيها أيضاً السرور - المحبة - الرضا - الرغبة، الشهرة...
فكل هذه الإطلاقات تصح في ترجمة كلمة ( يودوكيا ) التي يصح أيضاً أن تترجم في العبرانية إلى (محماد، ما حامود) المشتقة من الفعل ( حمد ) ومعناه: المرغوب فيه جدًّا، أو البهيج، أو الرائع أو المحبوب أو اللطيف، وهذا كله يتفق مع المعاني التي تفيدها كلمة (محمد وأحمد)، واللتان تقاربان في الاشتقاق كلمتي (حمدا ومحماد) العبرانيتين، ومثل هذا التقارب يدل على أن لهما أساسا واحدا مشتركا، كما هو الحال في كثير من كلمات اللغات السامية.
وينبِّه الأب السابق عبد الأحد داود إلى وجود هذا النص في (إنجيل) لوقا اليوناني، في الوقت الذي كانت فيه العبارات سريانية حين مقالها، ولا يمكن- حتى مع بذل الجهد وفرض الأمانة في الترجمة- أن تترجم كلمة ما من لغة إلى أخرى، وتفيد نفس المعاني الأصلية للكلمة، ومع ضياع الأصول لا يمكن التحقق من دقة هذه الترجمة.والترجمة الصحيحة للترنيمة- كما يرى عبد الأحد داود- هي: ( الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد ).










رد مع اقتباس