ظُهور آثارِ رحمةِ اللهِ سُبْحَانَهُ على الخَلْقِ بجلاءٍ:
قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله:
"إِنَّ ظهورَ هذه الصِّفةِ في الوجودِ كظهورِ أثرِ صفةِ الرّبوبيةِ والمِلْكِ والقُدرةِ، فإِنَّ ما للهِ على خَلْقِهِ من الإحسانِ والإِنعامِ شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ، كما أَنَّ الموجوداتِ كلَّها شاهِدةٌ له بالرّبوبيةِ التامةِ الكاملةِ.
وما في العالمِ مِنْ آثارِ التدبيرِ والتَّصريفِ الإلهيِّ شاهدٌ بمُلكِهِ سُبْحَانَهُ.
فجَعْلُ صفةِ الرَّحمةِ واسمِ الرَّحمةِ مجازًا كجعْلِ صفةِ المِلكِ والرُّبوبيةِ مجازًا ولا فرقَ بينهما في شرعٍ ولا عقلٍ ولا لُغةٍ.
وإذا أردْتَ أَنْ تعرِفَ بُطلانَ هذا القولِ، فانظرْ إلى ما في الوجودِ من آثارِ رحمتهِ الخاصَّةِ والعامَّةِ.
فبرحمتِهِ أرسلَ إلينا رسولَهُ صلى الله عليه وسلم، وأنزلَ علينا كتابَهُ وعلّمَنا مِن الجَهالَةِ، وهدانا مِن الضلالةِ، وبصَّرَنَا مِنَ العَمى، وأرشدَنَا من الغيِّ.
وبرحمتهِ عرَّفَنا مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ ما عَرفْنَا به أَنَّه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكنْ نعلَمُ، وأرشدَنا لمصَالحِ دينِنا ودُنيانا.
وبرحمتِهِ أطلعَ الشَّمسَ والقمرَ، وجعلَ الليلَ والنهارَ، وبسطَ الأرضَ وجعلها مِهادًا وفِراشًا وقَرارًا وكِفاتًا للأَحياءِ والأَمواتِ.
وبرحمتِهِ أنشأَ السَّحابَ، وأمطرَ المطرَ، وأطلعَ الفواكِهَ والأقواتَ والمرْعَى.
ومِن رحمتِهِ سخَّر لنا الخيلَ والإِبلَ والأَنعامَ، وذلَّلها مُنقادةً للركوبِ والحَمْلِ والأكلِ والدَّرِّ.
وبرحمتِهِ وَضعَ الرَّحمةَ بين عبادِهِ ليتراحموا بها، وكذلك بين سائِرِ أنواعِ الحيوانِ
فهذا التراحمُ الذي بيْنهم بعضُ آثارِ الرَّحمةِ التي هي صفتُه ونعمتُه، واشتقَّ لنفسِهِ منها اسمَ (الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، وأوصلَ إلى خلْقِهِ معانيَ خطابِهِ برحمتِهِ، وبصَّرَهُم ومكَّنَ لهم أسبابَ مصالِحهم برحمتِهِ.
وأوسعُ المخلوقاتِ عَرْشُه، وأوسعُ الصِّفاتِ رحمتُه، فاستوى على عرشِهِ الذي وَسِعَ المخلوقاتِ بصفةِ رحمتِهِ التي وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ.
ولما استوى على عرشِهِ بهذا الاسمِ الذي اشتقَّه مِن صفتِه وتسمَّى به دُونَ خلْقِهِ، كتبَ مقتَضاه على نفسِه يومَ استوائِهِ على عرشِهِ حين قَضَى الخَلْقَ كتابًا فهو عندَهُ وضعَهُ على عرشِهِ: "إِنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ"
وكان هذا الكتابُ العظيمُ الشأْنِ كالعهدِ منه سُبْحَانَهُ للخليقَةِ كلِّها بالرَّحمةِ لهم، والعفْوِ عنه
والصَّفْحِ عنهم والمغفرةِ والتجاوزِ والسّترِ والإِمهالِ والحِلْمِ والأَناةِ، فكان قيامُ العالمِ العُلويِّ والسُّفليِّ بمضمونِ هذا الكتابِ، الذي لولاه لكان للخلقِ شأنٌ آخرُ.
وكان عن صفةِ الرَّحمةِ الجَنَّةُ وسكَّانُها وأعمالُهم، فبرحمتِه خُلقَتْ، وبرحمتِهِ عَمَرَتْ بأهلِها، وبرحمتِه وصلوا إليها، وبرحمتِه طابَ عيشُهم فيها.
وبرحمتِه احتجبَ عن خلقِه بالنّورِ، ولو كشَفَ ذلك الحجابَ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما انتهى إليه بصرُه مِن خلقِهِ.
ومِنْ رحمتِه أَنَّه يُعيذُ مِنْ سَخْطِه برضَاه، ومِنْ عُقوبَتِهِ بعفوهِ، ومِنْ نفسِهِ بنفسِهِ.
ومِنْ رحمتِه أَنْ خلقَ للذَّكَرِ منَ الحيوانِ أُنثى مِن جنْسِهِ، وأَلقى بينهما المحبةَ والرَّحمةَ، ليقعَ بينهما التواصلُ الذي به دوامُ التناسلِ وانتفاعُ الزوجين، ويُمتعُ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبِه.
ومِنْ رحمتِه أَحْوجَ الخلْقَ بعضَهُمْ إلى بَعْضٍ لتتمَّ مصالِحُهم، ولو أغنى بعضَهم عن بعضٍ لتعطَّلَتْ مصالِحُهم
وانحلَّ نظامُهم، وكان مِنْ تمامِ رحمتِه بهم أَنْ جعل فيهم الغنيَّ والفقيرَ، والعزيزَ والذَّليلَ، والعاجِزَ والقادِرَ، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقرَ الجميعَ إِليه، ثُمَّ عمَّ الجميعَ برحمتِهِ.
ومِنْ رحمتِه أَنَّه خلقَ مائَة رحمةٍ كلَّ رحمةٍ منها طِباقُ ما بين السَّماءِ والأرضِ
فأنزل منها إلى الأرضِ رحمةً واحدةً نشرها بين الخَليقةِ ليتراحموا بها، فبها تعطفُ الوالدةُ على ولدِها والطيرُ والوحْشُ والبهائمُ، وبهذه الرَّحمةِ قِوامُ العالمِ ونِظَامُه.
وتأملْ قولَهُ تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4]
كيف جعلَ الخَلْقَ والتعليمَ ناشِئًا عن صفةِ الرَّحمةِ، متعلقًا باسم (الرَّحمن)، وجعل معانيَ السورةِ مرتبطةً بهذا الاسمِ، وختَمَها بقولِهِ: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 78]
فالاسمُ الذي تبارك هو الاسمُ الذي افتتحَ به السُّورةَ، إِذْ مجيءُ البركَةِ كلِّها منه، وبه وُضِعَتِ البركةُ في كلِّ مُبَارَكٍ فكلُّ ما ذُكِرَ عليه بُورِكَ فيه، وكلُّ ما أُخْلِي منه نُزِعَتْ منه البركةُ" اهـ
مختصر الصواعق (2/ 121 - 124).
ولذلك قال ابنُ القيِّم رحمه الله عن اسم "الرَّحمن": ولما كان هذا الاسمُ مختصًّا به تعالى
حَسُنَ مجيئُه مفردًا غيرَ تابعٍ كمجيءِ اسمِ اللهِ كذلك، ولم يَجِئْ قطُّ تابعًا لغيرِه بل متبوعًا وهذا بخلافِ العليمِ، والقديرِ، والسّميعِ، والبصيرِ، ونحوِها، ولهذا لا تَجِيْءُ هذه مفردةً بل تابعةً، فتأملْ هذه النُّكْتةَ البديعةَ
بدائع الفوائد (1/ 24).
ربُّكم ذو رحمةٍ واسعةٍ
النور الأسنى (1/ 46 - 68) للأنصاري.
قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]
وقال تعالى إخبارًا عن حَملةِ العَرْشِ
ومَنْ حَوْله أَنَّهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7].
رحمةُ اللهِ تغلبُ غضَبَهُ:
قال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54].
قال ابنُ كثيرٍ
في هذه الآية: أوجبَها على نفسِه الكريمةِ تفضُّلًا منه وإحسانًا وامتنانًا
تفسير ابن كثير (2/ 130).
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال
: "إِنَّ اللهَ لما قَضَى الخلْقَ كتبَ عندَهُ فوقَ عرشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"
وفي رواية: "لمَّا خلقَ اللهُ الخلقَ كتبَ في كتابِهِ وهو يكتبُ على نفسِه، وهو وضْعٌ عنده على العرشِ: إِنَّ رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي"
رواه البخاري (7404، 7453، 7553، 7554)، ومسلم (2751).
إِنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ:
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ، فبها يَتَعَاطَفُونَ، وبها يَتَرَاحَمُونَ
وبها تعطِفُ الوحشُ على ولدِها"، وفي روايةٍ: "حتى تَرفعَ الدَّابةُ حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه
وأخَّر اللُه تسعًا وتسعين رحمةً يَرحمُ بها عبادَهُ يومَ القيامةِ"
وفي رواية: "إِنَّ الله خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقها مائةَ رحمةٍ"، وفي رواية: "كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السماءِ والأرضِ، فأمسَكَ عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسلَ في خلقِهِ كلِّهم رحمةً واحدةً
رواه البخاري (9469)، ومسلم (2752/ 18 - 19، 2753/ 21).
هذه رحمةُ اللهِ المخلوقَةُ، فكيف برحمةِ اللهِ التي هي مِن صفاتِهِ وليستْ مخلوقَةً ولا تنفَدُ أبدًا وليس لها حدٌّ
ولا نهايةٌ
قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]
ولذلك فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لو يَعلمُ الكافرُ ما عند الله مِن الرَّحمةِ ما قَنطَ من جنَّتِه أحدٌ"
أخرجه مسلم (2755).
إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى بيده الرَّحمةُ وَحْدَهُ:
ومِنْ رحمتِهِ: أَنَّ أحدًا مِن خلْقِهِ لا يستطيعُ أن يحجُبَ رحمتَه أو يمنعَها عن أحبابِهِ
قال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 2].
فرحمةُ اللهِ لا تعزُّ على طالبٍ في أي زمانٍ أو مكانٍ: وجدَها إبراهيمُ وَسْطَ ألْسنةِ النَّارِ، ووجدها يوسفُ في غيابةِ الجُبِّ وغياهبِ السِّجنِ
ووجدها إسماعيلُ وأمُّه هاجرُ في صحراءَ جرداءَ لا زرعَ فيها ولا ماءَ، ووجدها يونسُ في بطنِ الحوتِ، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفلٌ وفي قصرِ فرعونَ وهو مُترَبِّصٌ به
ووجدها أصحابُ الكهفِ حين افتقدوها في القصورِ بين أقوامِهم، ووجدَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصاحِبُه في الغارِ وهما مطاردانِ
من كتاب: "لهذا أحب ربي"، للدكتور خالد أبو شادي.
اللهُ أرحمُ بعبادِهِ من الأمِّ بولدِهَا:
وذلك لأنَّ رحمةَ والديك بِكَ مهما بلغَتْ فهي جزءٌ مِن جزءٍ مِن المائةِ جُزءٍ التي خلقَها اللهُ
فكيف برحمتِه هو الواسعةِ جلَّ جلالُه وتقدست أسماؤه، عن عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه؛ أنه قال: قدِم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسَبْيٍ، فإذا امرأةٌ مِن السَّبْي تبتغي -
وفي رواية البخاري: تسعى إذا وجدَتْ صبيًّا في السَّبْي أخذتْه فألصقتْهُ ببطنها وأرضعتْه
فقال لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أترَوْنَ هذه المرأةَ طارحةً وَلَدَها في النار؟" قلنا: لا والله، وهي تقْدِر على أَنْ لا تَطْرحَهُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الُله أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"
أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754)
وقال حمَّادُ بنُ سلمة: "ما يسُرُّني أَنَّ أمْري يومَ القيامةِ صارَ إلى والديَّ؛ إنَّ ربي أرحمُ بي مِن والديَّ".
صُورٌ مِن رحمةِ اللهِ بخلقِهِ:
إِنَّ آثارَ وعلاماتِ رحمةِ اللهِ أظهَرُ مِنْ أَنْ تُبيَّنَ
وأكثرُ مِن أَنْ تُحْصَى
قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]
ففي كلِّ نعمةٍ رحمةٌ يستَدِلُّ عليها كلُّ ذي عقلٍ صحيحٍ، ويعرِفُها كلُّ ذي قلبٍ سليمٍ، ولا يُنكِرُها إلا كلُّ ظلومٍ كَفَّارٍ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليلٍ، كما قال الشاعرُ:
وكيف يَصحُّ في الأذهانِ شَيْءٌ
إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دَليلِ