باب التوبة (3-4)
وأصبح رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قادما وكان إذا قدم مِنْ سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعا وثمانين رجلا فقبل مِنْهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إِلَى اللَّه تعالى حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال (تعال) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟).
قال قلت: يا رَسُول اللَّهِ إني واللَّه لو جلست عند غيرك مِنْ أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج مِنْ سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكني واللَّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن اللَّه [أن] يسخطك علي وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ واللَّه ما كان لي مِنْ عذر واللَّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي اللَّه فيك) وثار رجال مِنْ بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: واللَّه ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا! لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بما اعتذر به إليه المخلفون. فقد كان كافيك ذنبك استغفار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لك.
قال: فواللَّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي مِنْ أحد؟
قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك.
قال: قلت من هما؟
قالوا: مرارة بن ربيعة العمري وهلال بن أمية الواقفي. قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنْ كلامنا أيها الثلاثة مِنْ بين مِنْ تخلف عَنْه قال فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا عَلَى ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان.
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟
ثم أصلي قريبا مِنْه وأسارقه النظر فإذا أقبلت عَلَى صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي مِنْ جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فواللَّه ما رد علي السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك باللَّه هل تعلمني أحب اللَّه ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟
فسكت، فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال: اللَّه ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي مِنْ نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل عَلَى كعب بن مالك؟
فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا مِنْ ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك اللَّه بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك.
فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء! فتيممت بها التنور فسجرتها، حتى إذا مضت أربعون مِنْ الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يأتيني فقال: إن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟
فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها وأرسل إِلَى صاحبي بمثل ذلك.
فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقالت له: يا رَسُول اللَّهِ إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: (لا ولكن لا يقربنك)
فقالت: إنه واللَّه ما به حركة إِلَى شيء وواللَّه ما زال يبكي منذ كان مِنْ أمره ما كان إِلَى يومه هذا.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟
فقلت لا أستأذن فيها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وما يدريني ماذا يقول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا استأذنته وأنا رجل شاب؟
فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة مِنْ حين نهي عَنْ كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة عَلَى ظهر بيت مِنْ بيوتنا.
فبينا أنا جالس عَلَى الحال التي ذكر اللَّه منا قد ضاقت عَلَى نفسي و ضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى عَلَى سلع يقول بأعَلَى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج فآذن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الناس بتوبة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ علينا حين صلى صلاة الفجر.