إذا كان كل شيء بقدر فلماذا ندعو الله تعالى ؟
السؤال
لماذا يجب علينا أن ندعو إذا كان الله يفعل ما يريد ، ويعطي من يريد ، حتى أولئك الذين لم يسألوه ، وماذا نفعل إن دعوناه فلم يستجب لنا ؛ لأننا بشر في النهاية ، وعدم إعطائنا ما نريد أمر يؤثر في النفس .
.. إن كل شيء بقدر ، سواء دعونا أم لم ندع ، فلماذا إذن لا نقتصر على العبادة دون أن نتعرض للطلب والدعاء . هل في هذا إشكال أو بأس ؟
الجواب
الحمد لله
يمكننا أن نجيبك باختصار ووضوح بأننا ندعو الله تعالى رغم علمنا بأن كل شيء بقدر ، وأن كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ ، وذلك لأسباب ثلاثة رئيسية ، وكل سبب منها يحتمل الشرح والتطويل بمؤلف خاص :
أولا : ندعو الله تعالى لأنه عز وجل يحب أن يرانا على بابه متذللين ، نسأله ونتضرع إليه
فالسؤال والتضرع أحد مظاهر فقر الإنسان للغني الكامل عز وجل ، يرافقها الحب والتعظيم له سبحانه ، تماما كما يحب سبحانه منا أن نركع ونسجد لعظمته
وأن نصوم امتثالا لأمره ، ونحوها من العبادات ، كذلك يحب منا سبحانه وتعالى أن نطلب منه حاجاتنا ، ونأوي إلى ركنه الشديد
يقول الله عز وجل : ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) النساء/32
ويقول سبحانه : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف/55 ، ويقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر/15 .
ثانيا : لا أحد يختلف معك أن كل شيء مقدر عند الله سبحانه ، ومكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
ولكن الذي فاتك أن تتعرف عليه في سؤالك : أن الله سبحانه وتعالى لم يكتب لك أنه يعطيك أو لا يعطيك فحسب
بل إذا قدر لك العطاء ، فسيقدره مقرونا بسببه ، بمعنى أن الله إذا قدر لك الزواج مثلا ، فسيكون مكتوبا عنده أنك تبذل من الأسباب ما يوصلك لهذا الشيء المقدر .
ولو سألك أحدهم فقال لك : إذا كان الطعام والشراب مقدرا لي أيضا ، فلن أسعى لرزقي ، فما هو مكتوب علي سيأتيني لا محالة ، سواء سعيت له أم لا !! فبماذا تجيبه ؟!!
نظنك ستجيبه فتقول : إنك إذا أكلت أو شربت فذلك مقدر مكتوب عليك ، ولكنه مكتوب مع سببه
وهو أنك ستقوم مثلا لتحضر الطعام أو تشتريه أو تعمل لتكسب الرزق لتحصيله ونحو ذلك من الأسباب ، كلها تؤدي إلى المسبب ، وكل ذلك بقدر الله سبحانه .
فالكتابة ليست للنتائج فحسب ، بل للأسباب أيضا ، فإذا لم تبذل السبب لن تتأتى النتيجة أبدا .
وهكذا أيضا جوابنا على سؤالك حول الدعاء ، فالدعاء أحد الأسباب التي أمرنا الله بها ، بل ورغبنا فيها وحثنا عليها ، وجعلها موصلة إلى مسببها ، كغيرها من الأسباب ، بل هو من أنفع الأسباب للمطالب الدينية والدنيوية .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات : إن كان مقدرا حصل بدون ذلك ، وإن لم يكن مقدرا لم يحصل بذلك
هؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ( أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟
فقال : لا . اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ) وفي السنن أنه ( قيل : يا رسول الله ؛ أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى نسترقي بها ؛ وتقاة نتقيها ؛ هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : هي من قدر الله ) .
ولهذا قال من قال من العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل ؛ والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ..
والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات ؛ وجعل هذا سببا لهذا .
فإذا قال القائل : إن كان هذا مقدرا حصل بدون السبب ، وإلا لم يحصل ؟!
جوابه : أنه مقدر بالسبب ، وليس مقدرا بدون السبب ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ؛ وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم )
وقال صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة . وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) "
انتهى من " مجموع الفتاوى " (8/138-139) .
ويقول – أيضا - رحمه الله :
" الصواب أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة ، والمعاصي سبب ، وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع ، فإذا حصل ذلك ، حصل المسبب بلا ريب "
انتهى من " مجموع الفتاوى " (14/ 143) .
ثالثا : نحن ندعو الله عز وجل – رغم أن كل شيء بقدر – كي يمنحنا مزيدا من فضله ، وذلك أنه ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا . قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ
قَالَ : اللهُ أَكْثَرُ ) رواه أحمد في " المسند " (17/213) ، وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة ، وجود إسناده المنذري في " الترغيب والترهيب " ، وصححه الألباني في " صحيح الأدب المفرد " (547) .
فتأمل كيف أن فقه الصحابة الكرام قادهم إلى العزم على الإكثار من الدعاء ، لما سمعوه من الفضل الجزيل مطلقا للدعاء ، سواء تحقق في الدنيا أم لا ، وسواء كُتب القدر بخلافه أم لا .
وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" أنكر بعضهم الدعاء ... محتجا بحديث ( فرغ ربك من ثلاث رزقك وأجلك وشقي أم سعيد) فهل هو كذلك ؟
فأجاب بقوله :
ليس الأمر كما زعم هذا المنكر ، ويلزمه إبطال الدعاء من أصله ، لأن كل ما سيقع لك قد فرغ منه ، وبذلك قال بعض المبتدعة ، فأبطلوا الدعاء من أصله
وقالوا لا فائدة له ؛ لأنه إن سبق وصول المدعو به للداعي ، فالدعاء بوصوله عبث ، وإلا فهو عبث أيضا .
وردَّ عليهم أهل السنة بأن المطلوب من الدعاء التذلل والخضوع
ولذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) وفي بعض الآثار أن الله قال لموسى عليه الصلاة والسلام : ( يا موسى اسألني كل شيء حتى ملح عجينك ) .
على أن له فائدة ، وهي أن تلك المقدرات على قسمين :
منها ما أُبرم ، وهو المعبر عنه بما في أم الكتاب الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا .
ومنها ما عُلق على فعل شيء ، وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ القابل للتغيير والتبديل
وأصل ذلك قوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) [الرعد: 39] .
فمن ذلك حديث أن زيارة الرحم تزيد في العمر ...
وكذلك الدعاء : قد يكون المدعو به معلقا على الدعاء ، فكان للدعاء فائدة أي فائدة .
على أن الدعاء لا يخيب أبدا ؛ لأنه إن كان بما علق على الدعاء ، فواضح وجود الفائدة فيه ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) .
وإن كان بما لم يعلق على ذلك ، ففائدته الثواب ؛ لأن الدعاء من العبادة .
وأيضا : فيبدل الله الداعي بدل ما دعا به ، مما لم يقدر له ، بما هو مثل ذلك ، أو أفضل منه ، كما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله وحلمه
ومن ثم أطلق سبحانه وتعالى الاستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيء
فقال عز وجل : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) [غافر: 60]
وقال : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [البقرة: 186]
والفعل وإن كان في حيز الإثبات فلا عموم له ، لكنه في مقام الامتنان للعموم ، كما قالوا به في النكرة في سياق الامتنان ، إذ الفعل والنكرة المثبتة من واد واحد
عموما وعدمه ، فتأمل ذلك كله ، فإنه ظهر لي بحمد الله ولا مزيد على حسنه وتحقيقه .
ثم رأيت بعضهم أشار لبعض ذلك فقال :
لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن ؛ لأن الله تعالى تعبد عباده به في غير ما آية ، ووعدهم بالاستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما ورد في الحديث : استجابة ، أو ادخار ، أو تكفير عنه "
انتهى من " الفتاوى الحديثية " (ص/92) .
والخلاصة : أننا ندعو لأن الدعاء من أسباب حصول المطلوب ، تماما كما أن الأكل والشرب من أسباب الشبع ، والمسلم يأخذ بالسبب ويتوكل على الله سبحانه ، فضلا عما في الدعاء من ثواب وأجر جزيل .
وللفائدة ينظر في جواب السؤال القادم
والله أعلم .