هل واقع المسلمين اليوم مع قول الله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ؟
السؤال
قال الله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ، على ضوء هذه الآية الكريمة كيف نفسر ظهور عكسها في أيامنا هذه ، حتى على عباد الله تعالى الصالحين
كما حدث مع إخواننا المؤمنين في أفغانستان والشيشان ؟ وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها من قبل عباد الله تعالى المؤمنين تحت ضوء القرآن والسنة الصحيحة - في الحروب مثلا -
حتى تتحقق هذه الآية في حياتنا فعلا - إن شاء الله تعالى - ؟
خاصة بعد أن أوضحتم لنا بأن آثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الأمور ( في سؤال رقم : (204176) غير صحيحة عنه .
الجواب
الحمد لله
الآية الكريمة الواردة في السؤال هي قول الله تعالى –
في معرض ذكر المنافقين وبيان وصفهم -
: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) النساء/141.
وقد ظن بعض الناس أنها تتعارض مع واقع المسلمين اليوم ، بل وعبر التاريخ ، حيث تسلط الكفار في كثير من العقود على المسلمين ، ونالوا منهم قتلا واحتلالا وغصبا .
وهذا خطأ ظاهر في فهم الآية ، سببه عدم الاعتماد على أقوال المفسرين
وعدم التأمل في الدلالات اللغوية والسياق الذي وردت فيه ، فقد قال المفسرون في توجيه الآية الكثير من الأقوال ، يصلح كل منها جوابا على هذا الإشكال .
القول الأول :
أن شرط الإيمان المذكور في قوله تعالى ( على المؤمنين ) لم يتحقق في فترات تسلط الكفار ، فبحسب النقص من الإيمان كان العدوان ، والله عز وجل لا يخلف وعده ، إلا أن يكون عباده هم الذين نكثوا وقصروا .
وهذا القول هو الذي وجدناه يميل إليه أكثر المحققين من المفسرين .
يقول القرطبي رحمه الله –
في معرض ذكر الأقوال في الآية -:
" الثالث : أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا
إلا أن يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو من قبلهم ، كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) . قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا .
قلت [ أي القرطبي ] : ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان :
( حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا ) ، وذلك أن (حتى) غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم ، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض
وسبي بعضهم لبعض ، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكافرين ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله
فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه " .
انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (5/419)
وانظر " أحكام القرآن " لابن العربي (1/640) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى :
" الآية على عمومها وظاهرها ، وإنما المؤمنون : يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة
فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم ، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته
والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا ، حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به
فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "
انتهى من " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان " (1/ 101) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" التحقيق : أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل ، فإذا ضعف الإيمان ، صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم ، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى .
فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي ، مدفوع عنه بالذات أين كان ، ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ، ظاهرا وباطنا
وقد قال تعالى للمؤمنين : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 139]
وقال تعالى : ( فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) [محمد: 35] .
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله ، يحفظهم بها ، ولا يفردها عنهم
ويقتطعها عنهم ، فيبطلها عليهم ، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم ، إذ كانت لغيره ، ولم تكن موافقة لأمره "
انتهى من " إغاثة اللهفان " (2/182) .
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" فإن قلت : إذا كان وعدا لم يجز تخلفه . ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصارا بينا ، وربما تملكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد .
قلت : إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصة
: فالإشكال زائل ؛ لأن الله جعل عاقبة النصر أيامئذ للمؤمنين ، وقطع دابر القوم الذين ظلموا ، فلم يلبثوا أن ثُقفوا وأخذوا وقتلوا تقتيلا ، ودخلت بقيتهم في الإسلام ، فأصبحوا أنصارا للدين .
وإن أريد العموم : فالمقصود من المؤمنين : المؤمنون الخُلَّص الذين تلبسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه
ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا "
انتهى من " التحرير والتنوير " (5/ 238) .