ثانياً:
ليس في الرواية ما يدل على أنه كان في بطن اليهودية جنين ، ومَن فهم ذلك مِن السياق فقد أخطأ ، وأما قوله في بعض ألفاظ الروايات : ( فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم
: فلا يدل على هذا بوجه من الوجوه ؛ بل الظاهر أنه طفل من طفليها الذين وصفهما بقوله :
( مثل اللؤلؤتين ) ، جاء إلى أمه مشفقا عليها فتلطخ بالدم ، والدليل على ذلك أن لفظ رواية الطبراني للحديث فيه : ( فَأَصْبَحَ طِفْلَيْهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا مُلَطَّخَيْنِ بِالدَّمِ ) – كذا بالياء : " طفليها " -
وأيضا في لفظ رواية البيهقي : ( فَوَقَعَ طِفْلاَهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا مُتَضَمِّخَانِ بِالدَّمِ ) .
ويدل على ذلك : ما جاء في " سؤالات الآجري أبا داود السجستاني " ( ص 201 ) :
قال أبو داود : سمعت مصعبا الزبيري يقول : عبد الله بن يزيد الخطمي : ليس له صحبة ، قال : وهو الذي قتل الأعمى أمه ، وهو الطفل الذي سقط بين رجليها ، التي سبَّت النبي صلى الله عليه وسلم .... .انتهى .
إذاً فليس هناك جنين مقتول ، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بأخذ الجنين بجريرة أمه ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، على أن اختلاف ألفاظ الحديث ورواياته ، ومجيئها مرسلة أحيانا عن عكرمة
كما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في " الأموال " ( رقم 416 )
ونقد بعض الحفاظ لمرويات عثمان الشحام بوجود المناكير فيها ، كما قال يحيى القطان : تعرف وتنكر ، ولم يكن عندي بذاك ، وقال أبو أحمد الحاكم : لم يكن بالمتين عندهم . وقال الدارقطني : بصري يعتبر به : كل ذلك يوجب الشك والتوقف في بعض التفاصيل المذكورة في القصة
لكنه لا يرقى إلى رد أصل الرواية ونفي قيام الحادثة ، فقد جاءت لها شواهد أخرى سبق ذكرها ، وقبلها أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين .
ثالثاً:
في هذه القصة دليل على العدل الذي كان المسلمون يعاملون به أهل الكتاب ، والذي جاءت به الشريعة رحمة للعالمين ، فحقوق اليهود المعاهدين مصونة محفوظة ، ولا يجوز التعرض لهم بشيء من الأذى والضرر
لذلك لما وجد الناس يهودية مقتولة ضجوا ورفعوا أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطاهم العهد والأمان ، ولم يكن يأخذ منهم الجزية
فغضب وناشد المسلمين بالله تعالى أن يظهر من فعل تلك الفعلة ، لينظر في عقابه ويقضي في أمره ، ولكن لَمَّا عَلِمَ أنها نقضت العهد مرات ومرات ، بأذاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعها فيه
حُرِمَت جميعَ حقوقها ، واستحقت حد القتل الذي توجبه الشريعة على كل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء كان مسلما أو ذميّاً أو معاهداً ، فإن التعرض لمقام الأنبياء كفر بالله العظيم ، ونقض لكل حرمة وحق وعهد ، وخيانة عظمى توجب أشد العقوبات .
انظر " أحكام أهل الذمة " ( 3 / 1398 )
وأما أن " المختص بتوقيع حد الردة هو السلطان أو نائبه " ، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال ، فقال :
" يبقى أن يقال : الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه ؟ "
ثم قال رحمه الله :
" و جوابه من و جوه :
أحدها : أن السيد له أن يقيم الحد على عبده ، بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) [ رواه أحمد (736) وغيره ، وحسنه الأرناؤوط لغيره ، ومال الألباني إلى أن هذه الجملة من كلام علي ، كما في الإرواء (2325) ] ، و قوله : ( إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ) [
رواه أبو داود (4470) وهو في الصحيحين بلفظ : " فليجلدها الحد " ]
و لا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد ، مثل حد الزنا و القذف و الشرب ، ولا خلاف بين المسلمين أن له أن يعززه ، واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا
مثل قتله لردته ، أو لسبه النبي صلى الله عليه و سلم وقطعه للسرقة ؟
وفيه عن الإمام أحمد روايتان : إحداهما : يجوز ، وهو المنصوص عن الشافعي ، والأخرى : لا يجوز ، كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ، وهو قول مالك ، وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق
وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر ، وكان ذلك برأي ابن عمر ؛ فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقا ...
الوجه الثاني : : أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام ، والإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه .
الوجه الثالث : أن هذا ، وإن كان حدا ، فهو قتل حربي أيضا ؛ فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله ، وهذا يجوز قتله لكل أحد ...
الوجه الرابع : أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لم يرض بحكمه ، فنزل القرآن بإقراره
ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل ، حتى سماه النبي صلى الله عليه وسلم ناصر الله ورسوله ؛ وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين و يفسده ، ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته من زنا و نحوه . "
انتهى من الصارم المسلول (285-286) .
والله أعلم
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين