ثالثا :
قد يقول قائل ما هو الشيء الذي عارض الحديث فجعله لا يحتج به مع صحته ؟
والجواب : إنه الإجماع الثابت أن الصحابة ومن بعدهم تركوا العمل به ، وهذا إجماع ، وما كان لهم مع سعة علمهم ودينهم وورعهم أن يتركوا العمل بالحديث المعين
إلا لعلة أخرى راجحة ، قد تكون في الحديث نفسه ، أو في غيره ، والأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يجوز أن تتفق الأمة على ترك الحق ، وهذا هو وجه الاستدلال في هذه القضية .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات" (3/252 ، 280 )
:" كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، دَائِمًا ، أَوْ أَكْثَرِيًّا ، أَوْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا ، أَوْ فِي وَقْتٍ مَا ، أَوْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ...
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَارِيَةٌ هُنَا بِالْأَوْلَى .
وَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمُوا : لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلَاءِ .
فَعَمَلُ الْأَوَّلِينَ - كَيْفَ كَانَ - مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا الْمَفْهُومِ ، وَمُعَارِضٌ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ تَرْكَ الْعَمَلِ؛ فَمَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ : مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ ؛ وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ .
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَة ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ وَالْأَمْرُ الْمُعْتَبَرُ ، وَهُوَ الْهُدَى ، وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ ؛ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ ، وَهَذَا كافٍ ". انتهى .
وقال الجويني في "البرهان" (2/761)
إن تحققنا بلوغ الخبر طائفة من أئمة الصحابة ، وكان الخبر نصا لا يطرق إليه تأويل ، ثم ألفيناهم يقضون بخلافه ، مع ذكره والعلم به = فلسنا نرى التعلق بالخبر ، إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب
وترك المبالاة ، أو العلم بكونه منسوخا ، وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال .
وقد أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول ؛ فيتعين حمل عملهم، مع الذكر والإحاطة بالخبر، على العلم بورود النسخ .
وليس ما ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر ، وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ، فكأنا تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث .
وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر : غض من قدره عليه السلام ، وحط من منصبه ، وقد قدمنا في كتاب الإجماع : أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ، ولكن إجماع أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه عن حجة ". انتهى
رابعا :
يجب التنبه إلى أمر مهم ، متعلق بتحقق الإجماع على ترك العمل ، إذ إنه كثيرا ما يُنقل الإجماع على أمر ما ويكون الإجماع منتقدا ، ويثبت أن الحديث معمول به ، وأن غاية الأمر عند من نقل الإجماع ، هو عدم العلم بالمخالف .
وهذا ابن حزم قد صنف كتاب مراتب الإجماع ، وهو من أقوى الكتب في بابه كما هو معلوم ، إلا أنه قد تتبعه شيخ الإسلام ، فوافقه على كثير وعارضه في بعضها .
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "نقد مراتب الإجماع" (ص302)
:" وقد ذكر رحمه الله تعالى إجماعاتٍ من هذا الجنس في هذا الكتاب ، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرف انتقاضها ، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه ، لا نعلم فيه نزاعا
وإنما المقصود : أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء ، وتبرزه في ذلك على غيره ، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه = يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة
وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع .
وسبب ذلك: دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به ، ودعوى أنَّ الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره .
فهاتان قضيتان لا بد لمن ادعاهما من التناقض ، إذا احتج بالإجماع ". انتهى
خامسا :
فإن قال قائل : فإن لم يكن قد جرى العمل بهذا الحديث فلماذا رواه أهل السنن ؟
وجواب ذلك ما ذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/45)
عن ابن الماجشون أحد أكابر علماء المالكية ، فقال :" قال ابن المعذَّل : سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون : لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليُعْلَم أنا على علم تركناه ". انتهى
سادسا :
يتعلق بهذه المسألة خطأ شائع عند بعض طلاب العلم، من العمل بالحديث فور ثبوته عندهم حتى لو لم يقفوا على عمل أحد من أهل العلم به قبلهم ، وهذا غلط .
فهذا الإمام الذهبي ذكر في "سير أعلام النبلاء" (16/405)
في ترجمة الدَّارَكِي عَبْد العَزِيْزِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ قال :" قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ ، وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى ، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُوْلُ: وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ
عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا وَكَذَا ، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ .
قُلْتُ ( أي الذهبي ) : هَذَا جَيِّدٌ . لَكِنْ بِشَرْطِ :
أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ ، أَوْ سُفْيَانَ ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ
وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ .
وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ.
أَمَّا مَنْ أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ ، وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ : فَلاَ .
كَخَبَرِ:" فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ " ، وَكَحَدِيْثِ :" لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ ". انتهى
وختاما :
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل عندما قال ناصحا أحد طلابه :" إِيَّاكَ أَنْ تَتَكلّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيْهَا إِمَامٌ ".
انظر "سير أعلام النبلاء" (11/296) .
والله أعلم .