هل هناك تعارض بين الآيات الدالة على كروية الأرض
والآيات التي تدل على أن الأرض مسطّحة؟
السؤال:
في قوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) ، ( والأرض مددناها ) ، ( نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) .
فما هي أطراف الأرض ؟
وهذه الآيات تدل على أن الأرض مسطحة ، فهل تتعارض مع الآيات التي تدل على أن الأرض كروية ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
أجمع أهل العلم على كروية الأرض ، ودل على ذلك كتاب الله تعالى ، كما في قوله عز وجل : ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) الزمر/5 .
ولكنها في أعين الناظرين مسطحة ؛ لأنها كبيرة الحجم ، وظهور كرويتها لا يكون في المسافات القريبة ، فهي بحسب النظر مسطحة ، لكنها في جملتها كروية .
سئل علماء اللجنة :
هل الأرض كروية أو مسطحة ؟
فأجابوا : " الأرض كروية الكل مسطحة الجزء " .
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (26/ 414) .
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
" لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، قال: ( وإلى الأرض كيف سطحت) الغاشية/ 20 ، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة ، فكيف يكون خبره خلاف الواقع ؟
فجوابه : أن الآية لا تخالف الواقع ، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره ، فالأرض مكورة مسطحة ، وذلك لأنها مستديرة ، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها ، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه، حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية "
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (8/ 644) .
ثانيا :
قال الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الرعد/ 41 .
وقال تعالى : ( أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الأنبياء/ 44 .
اختلف العلماء في تفسير هذا النقصان المذكور لأطراف الأرض ، على عدة أوجه :
قال ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ لَمْ يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الْأَرْضَ بَعْدَ الْأَرْضِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ : ( نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) ، قَالَ: خَرَابُهَا ، وَقَالَ الْحُسْنُ وَالضَّحَّاكُ : هُوَ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُقْصَانُ أَهْلِهَا وَبَرَكَتُهَا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُقْصَانُ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَخَرَابُ الْأَرْضِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ لَضَاقَ عَلَيْكَ حُشُّكَ ، وَلَكِنْ تَنْقُصُ الْأَنْفُسُ وَالثَّمَرَاتُ ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ : لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ لَمْ تَجِدْ مَكَانًا تَقْعُدُ فِيهِ ، وَلَكِنْ هُوَ الْمَوْتُ ، وَقَالَ ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَهُوَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ قَرْيَةً بَعْدَ قرية ، كقوله: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ... ) الآية الأحقاف/27 . وهذا اختيار ابن جرير "
انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/406) ، وينظر "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 501) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
" أَيْ: نَأْتِي أَرْضَ الْكُفْرِ كَمَكَّةَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بِالْفُتُوحِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ بَيَانَ مَا وَعَدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَهْرِهِمْ قَدْ ظَهَرَ، يَقُولُ:
أولم يَرَوْا أَنَّا فَتَحْنَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرْضِ مَا قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ ، فَكَيْفَ لَا يَعْتَبِرُونَ؟ وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : مَوْتُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : الطَّرَفُ : الرَّجُلُ الْكَرِيمُ ،
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ : أَنَّا أَرَيْنَاهُمُ النُّقْصَانَ فِي أَمْرِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ عَنْهُمْ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَوْتِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ : خَرَابُ الْأَرْضِ الْمَعْمُورَةِ حَتَّى يَكُونَ الْعُمْرَانُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: هَلَاكُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ وَقِيلَ : الْمُرَادُ : نَقْصُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: جَوْرُ وُلَاتِهَا حَتَّى تَنْقُصَ "
انتهى من "فتح القدير" (3/ 108) .
وما اختار الإمام ابن جرير رحمه الله ، وتابعه عليه ابن كثير ، هو أيضا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره
.
قال السعدي رحمه الله :
" والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله يفتحها ويجتاحها، ويحل القوارع بأطرافها، تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص، ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يرده أحد، ولهذا قال: ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري والجزائي " انتهى من " تفسير السعدي" (ص 420) .
واختاره ـ كذلك ـ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
كما في "لقاء الباب المفتوح" (167/ 22) بترقيم الشاملة .
وعلى ذلك : فيكون معنى أطراف الأرض : نواحيها وجوانبها .
قال الأزهري رحمه الله في "التهذيب" (13/219) :
" أطرافُ الأَرْض : نَوَاحِيهَا ، الْوَاحِد طَرَف ، وَمِنْه قَول الله جلّ وَعز: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) ، أَي: من نَوَاحِيهَا نَاحيَة نَاحيَة " انتهى .
والله أعلم .