ثانياً:
مثل هذا الكلام القبيح يدرج في أمثال بعض البلاد ، وتتناقله الألسن ، دون أن يعي أحدهم أنه وقع بقوله في مخالفات شرعية ، تتعلق بصفات الله تعالى ، وأسمائه ، وأفعاله ، ففي هذا القول الوارد في السؤال اعتراض على أفعال الله تعالى ، وتقديراته ، وعلمه ، وحكمته ، وعدله .
ومن تلك الأمثال الدارجة " يعطي الحلَق للذي ليس له أُذُن ! " و " يعطي اللحم للذي ليس له أسنان " ، ويعنون به : الله تعالى .
وفي هذا الكلام ما لا يخفى من سوء الأدب مع الله تعالى ، وسوء الظن به ، فيقال فيه :
1. في كلام السوء هذا يعني أن الله تعالى أعطى النعمة من لا يستحقها ، وأن هناك مَن هو أولى بهذه النعمة مِن هذا المُعطَى ! وهذا من أعظم الطعن في حكمة الله ، وعدله .
وليس أحدٌ في غنى عن فضل الله وعطائه ، وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر/ 15 .
والله تعالى يقدِّر ما يشاء لحكَم جليلة ، فمن أغناه الله فلحكمة ، ومن أفقره الله فلحكمة ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لحكَمة ، قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة/من الآية 28 ، وقال تعالى : ( فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الحجرات/ 8 .
ولله خزائن السموات والأرض ، وما يهبه تعالى لخلقه : فهو بقدَرٍ معلومٍ ، قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحِجر/ 21 .
2. وما يظنه الإنسان القاصر في فهمه وإدراكه أن الخير له هو في غناه ، وسلطانه ، وجاهه : خطأ ، وقصور ، يتناسب مع طبيعة الإنسان القاصرة ، فقد يكون الخير في نزع تلك الأشياء منه ، كما قد يكون الذل خيراً له ! نعم ، فلربما ذلُّه قاده إلى إسلام بعد كفر ، أو طاعة بعد معصية ، كما أن المال ، والملك ، والجاه ، والعز قد يكون شرّاً له ، فيكون هذا المسكين يعترض على قدر الله وحكمته ، ويسعى لما فيه تلفه ، وهلاكه .
قال تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) آل عمران/ 26 .
ومن تأمل حديث الأقرع والأبرص والأعمى : علم أن القَرَعَ والبَرَصَ كانا خيراً لصاحبيهما من المال الذي طلباه ، فلما طلب الأول شعراً حسناً فأُعطيه ، وطلب الثاني جلداً حسناً فأُعطيه ، بل وأُعطي كل واحد منهما مالاً وفيراً : كان ذلك سبباً في فتنتهما ، وسخط الله عليهما ، حيث أنكرا نعمة الله عليهما ، وبخلا بما أعُطيا من مال .
والحديث رواه البخاري ( 3277 ) ومسلم ( 2964 ) .
3. ثم إن الله تعالى هو المتفرد بالملك ، والخلق ، والرزق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولم يحصل الاعتراض على هبة النعمة من الله إلا من المشركين وإخوانهم .
قال ابن كثير – رحمه الله – تعليقاً على آية ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ) - :
أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعَّال لما تريد ، كما ردَّ تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره ، حيث قال : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) الزخرف / 31 ، قال الله تعالى ردّاً عليهم : ( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) الآية ، الزخرف/ 32 ، أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ، ولا مدافع ، ولنا الحكمة ، والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) الأنعام/ 124 ، وقال تعالى : ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) .
" تفسير ابن كثير " ( 2 / 29 ) .
ولما ذكر الله تعالى اعتراض بعض الناس على مُلكٍ آتاه الله بعض خلقه : أرجع الله تعالى الأمر إلى علمه ، وحكمته ، وفضله ، وأن الأمر لا يرجع إلا إليه عز وجل ، وذلك في قوله تعالى : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة/ 247 .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
قوله تعالى : ( والله يؤتي ملكه من يشاء ) أي : يُعطي ملكَه من يشاء ، على حسب ما تقتضيه حكمته ، كما قال تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) آل عمران/ 26 .
قوله تعالى : ( والله واسع ) أي : ذو سعة في جميع صفاته : واسع في علمه ، وفضله ، وكرمه ، وقدرته ، وقوته ، وإحاطته بكل شيء ، وجميع صفاته وأفعاله .
و ( عليم ) أي : ذو علم بكل شيء ، ومنه : العلم بمن يستحق أن يكون ملِكاً ، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء .
" تفسير سورة البقرة " ( 3 / 213 ، 214 ) .