خامسا :
حياة الأنبياء بعد موتهم ، وخصائصها ، وكيفيتها ، وما يتعلق بذلك : كله أمر غيبي لا يرجع المرء من تكلف التنقير عنه بطائل ، فالتسليم أولى ، وتفويض العلم إلى الله هو الواجب ابتداء وانتهاء .
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة":
" كل ذلك حق يجب الإيمان به والتسليم له ، وإثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام في قبره يصلي ، ورآه أيضا في السماء ، والله على كل شيء قدير
ولا يجوز إنكار ما ثبت في النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لحيرة العقول فيه ، أو قياس عالم الغيب وعالم البرزخ على عالم الشهادة ، أو دعوى أن ذلك من مختلقات اليهود ، فكل ذلك خطأ وضلال ، وانحراف عن الصراط المستقيم " انتهى.
عبد العزيز بن باز – عبد العزيز آل الشيخ – عبد الله غديان – صالح الفوزان – بكر أبو زيد.
"المجموعة الثانية" (1/175)
وجاء في " الدرر السنية " (1/548):
" سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن أيضا - رحمهم الله - عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره ، ورآه يطوف بالبيت ، ورآه في السماء ، وكذلك الأنبياء .
فأجاب : هذه الأحاديث وأشباهها تُمَرُّ كما جاءت ويُؤمَن بها ، إذ لا مجال للعقل في ذلك ؛ ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك في جملة من هلك ; وقد غضب مالك بن أنس لمَّا سأله رجل عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، إلى آخر كلامه ، ثم قال : وما أراك إلا رجل سوء ، فأمر بإخراجه ; هذه عادة السلف " انتهى.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" قوله تعالى: ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ) الآية ، هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات , وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ )
والجواب عن هذا :
أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية ، فتورث أموالهم ، وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين , وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : ( بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين ,
أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها ) وقال : ( من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ) ، واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرآن ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه : فكلتاهما حياة برزخية ، ليست معقولة لأهل الدنيا .
أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ), وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم : ( تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك )
وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ( لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) و ( أن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته ) فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا ؛ لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى
فوق أرواح الشهداء ، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ، ولا يعلمها الخلق ، كما قال في جنس ذلك : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ )، ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات
ولما جاز دفنه ، ولا نصب خليفة غيره ، ولا قتل عثمان ، ولا اختلف أصحابه ، ولا جرى على عائشة ما جرى ، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده ، كالعول ، وميراث الجد ، والإخوة ، ونحو ذلك .
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى : ( بل أحياء ) ، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ), وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده ، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة
عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا , ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم ، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات ، مع أنه يدرك الرؤيا ، ويعقل المعاني والله تعالى أعلم " انتهى.
" دفع إيهام الاضطراب " (24-25)
والله أعلم .