وأما القرب الذي تبحث عنه وتنشده في عبادتك لربك عز وجل ، فنعم مقام العابدين هو :
( أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك !! ) .
غير أن هذا المقام العظيم الجليل لا يحتاج منك أن تجهد نفسك ، وتشتت قلبك في البحث عن شيء لن تدركه ، وهو تخيل صورة الله عز وجل ؛ وإنما يحتاج منك أن تستحضر من صفات الجلال والكمال والجمال لله عز وجل ما يعينك على حضور القلب في عبادته سبحانه ، والإقبال عليه بكليتك . قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ( وقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه .. ، يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة ؛ وهي استحضار قربه ، وأنه بين يديه ؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ، كما جاء في رواية أبي هريرة :
" أن تخشى الله كأنك تراه " [ رواه بهذا اللفظ : مسلم (10) ] .
ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها ) جامع العلوم والحكم 1/104
وقال ابن القيم – رحمه الله - : ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب الحياء و الإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوسواس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله .
فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد .
" رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه " ( ص 38 ، 39 )
وانظر أيضا : جامع العلوم والحكم ، لابن رجب ( 1/103) وما بعدها ، ط دار ابن الجوزي ، معارج القبول ، للشيخ حافظ الحكمي ( 3 / 999 ، 1000 ) .
وقد أشار أهل العلم إلى جملة من الأعمال والأحوال ، متى اجتهد العبد في تحقيقها كانت له عونا على القرب من ربه عز وجل ، وبحسب سعي العبد في القرب من ربه عز وجل ، يكون قرب الله تعالى منه ؛ فأقلَّ إن شئت أو استكثر !!
ومن هذه الأمور :
1. تحقيق التوحيد وترك الشرك الأكبر والأصغر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله ، وهو تحقيق كلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " .
الاستقامة " ( ص 195 ) .
2. معرفة صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله .
قال ابن القيم – رحمه الله - : ( مشهد الإحسان ، وهو مشهد المراقبة ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه ، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ، حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستوياً على عرشه ، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة ؛ فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه ، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه ؛ فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته ويشهد قيوماً حيّاً سميعاً بصيراً عزيزاً حكيماً آمراً ناهياً ، يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم ، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ( ص 38 ) .
3. تحقيق الولاية ، ويكون تحقيقها بالإيمان والتقوى ، كما قال تعالى : ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يونس/62،63 .
قال ابن القيم رحمه الله : ( الولاية هي القرب من الله عز وجل ، فولي الله هو القريب منه ، المختص به ، والولاء هو في اللغة : القرب . )
بدائع الفوائد ( 3 / 621 ) .
4. المداومة على الصلاة ، وبخاصة استشعار القرب من الله تعالى في السجود ؛ فإنه أقرب ما يكون العبد فيه قرباً لربه تعالى ، وكذا الصلاة في آخر الليل . قال تعالى : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) العلق/19 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) رواه مسلم ( 482 ) .
وعن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) .
رواه الترمذي ( 3579 ) والنسائي ( 572 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " ( 1173 ) .
5. تحقيق التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها ) .
مجموع الفتاوى " ( 15 / 55 ) .
6. ذكر الله تعالى على كل حال ، من أذكار وأدعية وتسبيح وتحميد وتهليل :
قال ابن القيم رحمه الله : ( والذِّكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه ، وهذه هي المنزلة ) .
" الوابل الصيب " ( 1 / 96 ) .
7. تحقيق الخوف منه عز وجل :
قال ابن القيم رحمه الله : ( هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده ، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد ؛ لأنه يطالَب بما لا يطالَب به غيره ، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره ، ونظير هذا في الشاهد أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له ، أشد خوفاً منه من البعيد عنه ؛ بحسب قربه منه ومنزلته عنده ، ومعرفته به وبحقوقه ، وأنه يطالب من حقوق الخدمة وأدائها بما لا يطالب به غيره ، فهو أحق بالخوف من البعيد ، ومَن تصور هذا حق تصوره فهم قوله ( إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية )
طريق الهجرتين ( 1 / 427 ، 428 ) .
والله أعلم