القرآن يخاطب الكينونة الإنسانية من جميع منافذها
يمكن للشاعر المتولّه أن يُلهب وجداناتنا ويحملنا على جناح قصيدته إلى عوالم أحلامه، ولكن لا يمكننا كبشر أن نظلّ محلّقين في عالم الأحلام؛ فالقصيدة كالفيلم الرومانسي الذي نشاهده مرة أو مرتين ثم نتجاوزه، ليبقى ذكرى جميلة غير قابلة للتكرار، ولنعود إلى نشاطنا الفكري والواقعي، لأنّ أرواحنا لا يمكن أن تظلّ طليقة من قيد الواقع!
ويمكن للمفكّر الألمعي أن ينحت لنا أفكاره وينظّمها بعبقرية تبعث على التهامها بنهم، ولكنْ سرعان ما سترسخ تلك الأفكار في أذهاننا لتصبح جزءًا من تفكيرنا لو أقنعتنا، ومن ثمّ تفقد النصوص التي حُمّلت بها ذلك الوهجَ الذي اجتاح لهفتَنا البِكرَ وأزّ عقولنا أزّا، فلا تعود هناك قيمة كبيرة لتكرارها، فنملّها!
ولكنّ القرآن شيءٌ آخر.. إنّه كلام الله الذي لو أُنزِل "عَلَى° جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ"، فكيف بالنفس الإنسانية؟ إنّ القرآن يخاطب النفس الإنسانية من جميع منافذ التلقّي فيها، فهو لا يخاطب عقولا محضة كما يفعل الفلاسفة، ولا وجداناتٍ هائمة كما يفعل الشعراء، بل شيءٌ من هذا وشيءٌ من ذاك، وأشياء أخرى لا يعرفها إلا المتدبّرون الخاشعون في حضرة النصّ القرآني.
في سورة الطور على سبيل المثال، تأتي هذه الآية الموجزة: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ". في سياق أدبي مزلزل من أول السورة إلى آخرها. في هذه الأجواء والمشاهد الخاطفة تأتي هذه الآية لتلخّص فكرة يطرحها الفلاسفة وعلماء الكلام بصورة باردة باهتة على النحو التالي: "هناك ثلاثة احتمالات لوجود الإنسان: 1) إما أن يكون قد خُلق من العدم. 2) أو أن يكون قد خَلق نفسه. 3) أو أن تكون هناك قوة ثالثة خلقته". هذه الفكرة التي قد يفصّل فيها أهل الفكر والفلسفة كثيرا، يوجزها القرآن في آية قصيرة في المبنى، ولكنها عميقة في المعنى، تجتاح النفس وتهزّها هزّا وهي تذكّرها بهذه البدهية العقلية المُحكَمة!
في القرآن البلاغة التامّة
للناس في البلاغة مذاهب شتّى وطرق متفرّقة؛ فمنهم من يحبّ الأسلوب السهل الممتنع، البعيد عن العبارات الرنانة والسجع المتواصل. ومنهم من يحبّ الأساليب الأدبية التي تُكثر من استخدام العبارات الفخمة الجزلة، وتكثر من التسجيع والتنميق. وهكذا، يُعجَب الناس بالأدباء ويفضّلونهم على من سواهم لشيء ما في أساليبهم. ولكنْ حتى لو بلغ الأديب الذروة في إثارة إعجاب قرّائه، وحتى لو حفظ التاريخ أسلوبَه كمدرسة يُشار إليها بالبنان؛ فإنّ ذلك كلّه لن يعصم نصوصه من الاكتفاء والملل، من قِبل أشدّ معجبيه قَبل غيرهم!
فها هي الكتب التي اقتناها أولئك المعجبون بتلهّف يعلوها الغبار بعد مضيّ سنوات طويلة، لا تمتدّ أياديهم إليها إلا نادرًا! والسرّ في ذلك -إلى جانب مطالعة مضامينها- أنّ التميّز الصارخ الذي كان في أسلوب الكاتب بات هو ذاته ما يدفع معجبيه عن قراءته؛ فالنفسُ تحبّ الأسلوبَ الفريد المميّز، ولكنها لا تحبّ تكراره!
ثم إنّك لن تجد في القرآن تكلّف الأدباء ولا إطنابهم الباهت، ولا استطراداتهم المملّة ولا أخطاءهم في إصابة المعنى بدقة. بل ستجد الخطاب القرآني ورسالته ومعانيه متلبّسة بألفاظه وتراكيبه، فلا يعود هناك مجال للتفكير في صياغة أخرى أكثر بلاغة في إيصال المعنى. قد يقوم المفسّرون بتيسير بعض عبارات القرآن التي لم يعتدْ عليها مَن ابتعدوا عن اللسان العربي الذي نزل به القرآن، ولكنّ هذه العبارات الميسّرة ستفقد خاصّية القرآن التي تميّزه عن جميع النصوص البشرية، وهي خاصّية إمكان تلاوته بشكل دوري دون أن يبعث ذلك على الملل.
إنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يُرتَّل بشكل يومي دون أن يشعر مَن يتلوه بشيءٍ من السآمة، اللهمّ إلا التعب حين يُطيل. وهو سرٌّ يكمن -إلى جانب مضامينه وقدسيّته- في بنيته اللغوية، تلك البنية التي تحمل من عناصر البلاغة والانتظام ما يجعل ترتيل آياته محبّبا إلى النفس، وفي نفس الوقت، تخلو من عناصر الرتابة التي تبعث على السآمة. ولعلّ ظاهرة التكرار في القرآن خير دليل على ما نقول، فمن يرتّل سورة الرحمن، ويعيد ترتيلها مرارا لا يشعر بشيءٍ من الرتابة مطلقًا رغم تكرار العبارة نفسها في 31 آية! وذلك لأنّ تلك العبارة في الآية "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" تحمل الشحنة التي في الآية أو الآيتين أو الآيات قبلها، فتأتي كاستجابةٍ لمشاهد الطبيعة والإنسان والقيامة المتعاقبة، وكفاصلٍ يستروح فيه الضمير الإنساني، فلا تتعاقب تلك المشاهد بزخمها دون فسحة للتدبّر بنعم الله وعظمته!