تباع للبحث
وأبحث هذا في مسألتين اثنتين:
الفرع الأول: حكم اشتراط الشهود في عقد الزواج:
القول الأول:
اشتراط الإشهاد لصحة عقد الزواج، فلا ينعقد النكاح إلا بحضور شاهدين وإلا كان فاسداً. وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية(30) والشافعية(31) وفي المشهور عن الإمام
أحمد(32)، وروي ذلك عن عدد من الصحابة الكرام منهم عمر بن الخطاب وعلي، وهو قول ابن
عباس ïپ¹، وسعيد بن المسيب(33) والنخعي والثوري(34) وغيرهم(35).
القول الثاني:
عدم اشتراط الإشهاد كأحد شروط صحة عقد الزواج، وإن كان يندب عنده، إلا أنه يجب عند الدخول باعتباره واجباً مستقلاً وهو مذهب المالكية(36).
فإن تزوج ولم يشهد فنكاحه صحيح عند المالكية، ويشهد على العقد فيما يستقبل، لكن إن قصدا الاستسرار بالعقد فلا يصح(37) مما يعني اشتراطهم عدم الاستسرار بالعقد، حتى مع قولهم بعدم اشتراط الإشهاد كشرط صحة العقد.
وعلى ذلك "إن حصل الإشهاد عند العقد فقد حصل الواجب والمندوب، وإن لم يحصل عند العقد كان واجباً عند البناء"(38).
القول الثالث:
عدم اشتراط الإشهاد كشرط صحة (39) لعقد الزواج، لا شرط تمام، والاكتفاء بالإعلان لإخراج الزواج من حيز الاستسرار، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول أبي ثور (40) من الشافعية(41).
أدلة الجمهور:
استدل جمهور العلماء على اشتراط الإشهاد لصحة عقد الزواج بعدد من الأحاديث النبوية الشريفة ومن المعقول.
1- ما روي عن رسول ïپ¥ قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"(42).
ووجه الدلالة من: أن نفي الصحة يستلزم كون الإشهاد شرطاً لصحة عقد الزواج، كما هو ظاهر من عبارة الحديث.
2- واستدلوا أيضاً بحديث عائشة – رضي الله عنها- عن رسول الله ïپ¥: "لا بد في النكاح من أربعة: الولي والزوج والشاهدين"(43).
ووجه الدلالة منه ظاهر بإثبات الشاهدين مع الولي والزوج من ضمن ما يستلزمه عقد النكاح، مما يدل على اشتراطهما لصحته.
3- وحديث ابن عباس ïپ´ أن النبي ïپ¥ قال: "البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة"(44).
ووجه الدلالة: الوصف القبيح الدال على الوقوع في المعصية لمن تنكح نفسها بغير بينة التي هي بمعنى الإشهاد، مما يدل على أن هذا الفعل قد حمل معه معصية تعود بالتأثير على عقد الزواج وتخرجه عن الصحة، فاستلزم ذلك وجود البينة للخروج من المعصية ولإثبات صحة عقد الزواج.
ومع ما جاء في أسانيد هذه الأحاديث من قول(45) ، إلا أن حديث عائشة –رضي الله عنها- المرفوع إلى النبي ïپ¥: "لا نكاح إلاّ بولي وشاهدي عدل…" قد أخرجه ابن حبانفي صحيحه(46) وقال فيه: "… ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر"(47) ، وبنحوه قال ابن حزم: "… لا يصح في هذا الباب شيء غير هذا السند"(48).
ومن المعقول:
استدل الجمهور لاشتراط الإشهاد بما ارتبط به من تحقيق مقصد حفظ الحقوق المترتبة على عقد الزواج، وقدموا بالذكر حفظ حق الولد، فاشتراط الإشهاد على عقد الزواج يحول دون إسقاط حقه بحفظ نسبه وإثباته(49).
يعضده الاحتياط في الشرع في أمور النكاح خاصة لما فيها من إخراج من التحريم إلى الإباحة(50) ، ولا يخفى ما في الإشهاد من احتياط لصيانة عقد الزواج وحفظه، مما جعل جماهير المسلمين من لدن الصحابة الكرام حتى أيامنا هذه يحرصون على إجراء عقود الزوج بوجود الشهود(51).
أدلة القول: بعدم اشتراط الإشهاد لصحة إنشاء العقد، وإنما يكفي الإعلان عنه:
منها ما جاء في الصحيحين من قصة زواج النبي ïپ¥ بصفية بنت حيي – رضي الله عنها- عندما أعتقها وتزوجها، ففي رواية القصة يقول أنس بن مالك، رضي الله عنه: "… قال: وقال الناس، لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه قد تزوجها…"(52).
ووجه الدلالة من الحديث أن النبي ïپ¥ لو كان عقد عليها مع الإشهاد على العقد لما احتاج الناس إلى تعليق معرفتهم لكونها زوجة أم غير ذلك من حجبه ïپ¥، ولعرفوا من الشهود، فدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام قد تزوجها من غير إشهاد. وفي هذا دلالة على عدم اشتراط الإشهاد لصحة عقد الزواج، لأنه لو كان كذلك لفعله ïپ¥.
إلا أنه لا يبعد أن يكون زواجه ïپ¥ من غير شهود خصوصية من خصوصياته ïپ¥، وعندها لا يسلم لهم هذا الاستدلال(53).
إضافة إلى أن القصة ليس فيها تصريح بعقد النكاح من غير شهود، فتأخر معرفة عامة الناس لزواجه ïپ¥ من صفية –رضي الله عنها- حتى حجبه ïپ¥ لها، لا يعني بالضرورة عدم الإشهاد على نكاحه منها، هذا إن سلمنا أنها ليست من خصوصياته ïپ¥.
1- واستدلوا أيضاً بحديث عائشة – رضي الله عنها-: قال ïپ¥: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال"(54).
ووجه الدلالة من الحديث: أن الأمر جاء بإعلان النكاح، مما يعني وجوب مطلق الإعلان في النكاح من غير تعيين الإشهاد طريقاً له، وبالتالي إن تم الإعلان فقد تم الواجب وصح عقد النكاح، من غير ضرورة القول بوجوب الإشهاد لصحته.
إلا أن الحديث الشريف في غير موضع الخلاف إذ لا خلاف في ضرورة إخراج النكاح من حيز السرية والكتمان بالإعلان والإشهار، وإنما الخلاف – فيما يظهر- حول طريقة الإشهار المحققة للإعلان المطلوب، والله تعالى أعلم.
الرأي المختار:
بعد العرض السابق لما ورد من خلاف حول مسألة اشتراط الإشهاد في عقد الزواج نستطيع إدراك ما يلي:
1- إن جميع الأقوال الواردة لا تختلف على ضرورة الإعلان لعقد الزواج، وعلى بطلانه إذا خلا من الإعلان مطلقاً، إلا أن الذي يبدو هو اختلافها في طريقته: هل يتعين بالإشهاد على العقد أم بمطلق الإعلان، وفي وقته: هل يشترط عند العقد أم يجوز بعد العقد، ويتعين قبل الدخول.
يقول ابن الهمام"-رحمه الله تعالى- : "… فالتحقيق أنه لا خلاف في اشتراط الإعلان، وإنما الخلاف بعد ذلك في أن الإعلان المشترط هل يحصل بالإشهاد حتى لا يضر بعده توصية للشهود بالكتمان، إذ لا يضر بعد الإعلان التوصية بالكتمان، أو لا يحصل بمجرد الإشهاد حتى يضر…""(55).
2- إن المقصد من اشتراط الإشهاد أو الإعلان هو ما يلي:
الأول: صيانة عقود الزواج عند الجحود والإنكار، فيحفظ حقوق كلٍ من الزوج والزوجة"(56).
الثاني: حفظ حق غير المتعاقدين وهو الولد، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه"(57) .
الثالث: دفع تهمة الزنا، وإلى هذا أشار حديث رسول الله ïپ¥: "فصل بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح"(58).
1- في ظل الأحاديث النبوية التي استدل بها الجمهور لاشتراط الإشهاد كأحد شروط صحة عقد الزواج، ودلالتها على فساد هذا العقد وبطلانه من غير الإشهاد عليه، نلحظ أنه إن تم الإشهاد، فقد صح العقد وصح ترتب الآثار عليه معاً، بناءً على مذهب الجمهور، بينما على مذهب الإمام مالك –رحمه الله تعالى- فقد اشترط الإعلان عند العقد للحكم عليه بالصحة، واشترط الإشهاد عند الدخول، لصحة ترتب أثر العقد عليه، فهو أكثر تشدداً في موضوع إخراج عقد النكاح عن حدود السرية إلى حيز الإشهار و الإعلان، عند العقد وعند الدخول"(59).
2- بالنظر إلى المقاصد المراد تحصيلها من إشهار الزواج وإعلانه- سواء أكان عن طريق الإشهاد أم مطلق الإعلان والإشهار –من حفظ حقوق الزوجين وأولادهما، وتمايز النكاح عن السفاح، وإخراجه بصورة العقد الشرعي الصحيح لارتباط الرجل بالمرأة"(60)، بالنظر إلى الحرص على تحقيق هذه المقاصد، يمكن القول –ولو بوجه- إن الإشهاد على عقد الزواج، وتسجيل هذا الإشهاد وتوثيقه عند الجهات المختصة في نظام الدولة يصون العقد من الإنكار والجحود، ويكفل إخراجه من حيز السرية والكتمان، مما يعني تحقيق الإشهاد والإعلان معاً، لما يعنيه تسجيله في مكاتب التوثيق وسجلات الأحوال المدنية من معنى الإثبات والبينة.
ولاستكمال النظر في تحقق هذا الأمر في عقد الزواج المدني لا بد من دراسة صفات الشهود اللازمة: وهذا ما سأبحثه في المسألة التالية:
الفرع الثاني: الشروط الواجب توافرها في الشهود ذات الأثر في الزواج المدني:
اشترط العلماء عدة شروط في الشهود على عقد الزواج، اتفقوا على بعضها واختلفوا في البعض الآخر. فالشروط التي اتفق العلماء على اشتراطها في الشهود: البلوغ، والعقل، والإسلام، إذا كان الزوجان مسلمين. واختلفوا في اشتراط الذكورة، والعدالة، والحرية، والقرابة، واشتراط الإسلام إذا كان الزوج مسلماً، والزوجة كتابية"(61).
ومن معاينة واقع الأقليات المسلمة، ندرك الحاجة لتناول شرطين اثنين في البحث(62): الأول: الذكورة، والثاني: الإسلام إذا كان الزوج مسلماً والزوجة كتابية(63).
أولاً: اشتراط الذكورة:
اختلف الفقهاء في اشتراط الذكورة في الشاهدين على قولين:
القـول الأول:
اشتراط الذكورة في الشاهدين وهو قول عند الإمام الشافعي(64) وأحمد والإمام النخعي، والأوزاعي(65) ، فلا تصح الشهادة عندهم على عقد الزواج إلا بشاهدين ذكرين، فلا ينعقد بشهادة النساء ولا برجل وامرأتين.
ودليلهم: ما رواه الإمام الزهري: "مضت السنة من رسول الله ïپ¥ والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق"(66) ، فقالوا: لا يثبت عقد النكاح بشهادتهن"(67).
القول الثاني: أن الشهادة على عقد الزواج تكون برجلين أو برجل وامرأتين.
وهو مذهب الحنفية(68) ورواية عن الإمام أحمد، وهو القول عند إسحاق(69) والظاهرية(70).
أدلة هذا القول:
1- الاستدلال بالآية:
عموم الآية الكريمة الدالة على قبول شهادتهن في الأموال، قال سبحانه وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى  (سورة البقرة: 282).
ووجه الدلالة من الآية الكريمة:
أن الله تعالى قد جعل الشهادة لرجل وامرأتين شهادة على الإطلاق، فقد جعلهم الباري سبحانه من الشهداء، والشاهد المطلق من تكون له شهادة على الإطلاق، أي في سائر الأمور إلا ما قيد بدليل(71).
ولا يصح عندهم قول الزهري لتقييد عموم الآية الكريمة، فهو بالإضافة إلى كونه مرسلاً، ففي إسناده ضعف، والثابت من الرواية من قول الزهري ليس فيه زيادة: "ولا في النكاح ولا في الطلاق"(72).
2- الاستدلال بالقياس:
إذ قالوا بقبول شهادتهن في عقد الزواج قياساً على قبولها في الأموال، مستبعدين قياس الفريق الآخر، لشهادة النساء في الزواج على شهادتهن في الحدود(73).
إذ إن الحدود تدرأ بالشبهات وشهادة المرأة لا تخلو من شبهة النسيان ونحوه، أما في عقد الزواج، فالغرض من الإشهاد هو تحقق الإشهار وهذا يتحقق بالرجال والنساء معاً(74).
مدى تحقق شرط الذكورة في عقد الزواج المدني:
إن القانون المطبق في عقد الزواج المدني في الغرب لا يشترط الذكورة في الشاهد.
وبالتالي يجوز أن يكون الشاهدان امرأتين فقط، أو رجلاً وامرأة، وتقبل هذه الشهادة وفق القانون المدني المعمول به، وهذا خلاف الصورة التي اشترطها العلماء والتي تنحصر في كون الشاهدين إما رجلين أو رجلٍ وامرأتين، استناداً إلى الأدلة الشرعية المذكورة، إذ المعلوم أن شهادة النساء وحدهن لا تكفي عند الجمهور إلاّ في مسائل استثنائية(75) ليست هذه من ضمنها، فلا سبيل للقول بصحة الإشهاد في هاتين الحالتين لمخالفتها لصورة الشهادة المنصوص عليها في القرآن والسنة، ولعدم تحقيقها مقصد الإعلان على الوجه المطلوب، إذ لا بد أن يكون بأوساط الرجال والنساء معاً، وبالتالي الاقتصار فيه على النساء لا يحقق المطلوب، والله أعلم(76).
ثانياً: اشتراط إسلام الشاهدين:
اتفق العلماء على اشتراط إسلام الشاهدين، إذا كان عقد الزواج بين مسلم ومسلمة(77) إذ لا شهادة للكافر على المسلم؛ لأن الشهادة فيها معنى الولاية وهو تنفيذ القول على الغير ولا ولاية للكافر على المسلم، فلا شهادة له عليه(78).
ووقع خلاف في اشتراط إسلام الشاهدين إذا كان عقد الزواج بين مسلم وكتابية على الوجه التالي:
القول الأول: قبول شهادة كتابيين في عقد زواج مسلم بكتابية:
وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف – رحمهما الله تعالى- ودليلهم: أن شهادة الكتابي هنا إنما هي على الزوجة الكتابية، وليست على الزوج المسلم، وشهادة الكتابي على مثله جائزة ومقبولة، إذ جاء في بيان وجه الدليل عندهما: "… ولهما أن الشهادة شرطت في النكاح على اعتبار إثبات الملك لوروده على محل ذي خطر لا على اعتبار وجوب المهر، إذ لا شهادة تشترط في لزوم المال، وهما شاهدان عليها…"(79).
القول الثاني: اشتراط إسلام الشاهدين في هذه الحالة أيضاً فلا ينعقد الزواج بكون الشاهدين: مسلماً وكتابياً أو كتابيين.
وإليه ذهب محمد وزفر من الحنفية(80) ، وهو القول فيما يظهر عند المالكية(81) ومذهب الإمام الشافعي(82) والإمام أحمد(83).
أدلة هذا القول:
1- النصوص الشرعية الدالة على اشتراط العدالة في الشاهدين(84). ومن ذلك قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ (الطلاق: 2)، ومنه أيضاً حديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"(85).
ومعلوم أن العدالة فرع من الإسلام، فالكافر ليس من أهل العدالة، فلا تقبل شهادته من باب أولى.
2- من المعقول: قالوا: إن العقد يتعلق بالزوج والزوجة معاً، فإذا أجزنا شهادة الكافر على العقد، نكون قد أجزنا شهادة الكافر على المسلم، وهو الزوج في هذه الحالة، ومعلوم أنه لا شهادة للكافر على المسلم باعتبار أن الشهادة نوع من الولاية(86).
كما أن العبرة من الإشهاد شيوع أمر الزواج بين المسلمين، لأنه زواج مسلم وهذا لا يتحقق بإشهاد الكافر على العقد(87).
الرأي المختار: هو قول الجمهور بعدم قبول شهادة غير المسلم في زواج المسلم بالكتابية، بالإضافة للأدلة السابقة أرى أن الأصل في الشهادة على عقد الزواج -كما يظهر من المقاصد المرجوة من تشريعها- أن تكون شهادة على كلٍّ من الزوج والزوجة ولحفظ حقوقهما معاً، ولا يشيع أمر هذا الزواج بين أوساط المسلمين، والزوج هو الطرف الوحيد المسلم فيه، على اعتبار أن الزوجة ووليها – إن وجد- كتابيان، والشاهدين كتابيان أيضاً، وغني عن الذكر أن القانون المدني الغربي لا يشترط ديناً معيناً للشاهدين مما يعني انخرام هذا الشرط في الشاهدين على عقد الزواج وإن كان القانون لا يمنع من تحققه(88).
شروط أخرى في الشهود ذات تأثير في عقد الزواج المدني:
ومن الضروري في هذا المقام، التأكيد على ما اشترطه الكثير من الفقهاء من ضرورة فهم الشاهدين لكلام المتعاقدين للغة التي يعقدان بها العقد(89) حتى تتحقق صورة الإشهاد الفعلية من سماع الشاهدين وفهمهما للعقد الذي يريدان الشهادة عليه، وتتأكد الحاجة لهذه الصورة في ظل المجتمعات الغربية عندما تضيع كثير من الحقوق على الجاهلين بلغة البلد الرسمية وغير الناطقين بها.
وفي نهاية هذا الفرع الخاص بالإشهاد في عقد الزواج المدني، نستطيع القول: إنه حيث يشترط القانون المدني الإشهاد على العقد بشاهدين اثنين، فهذا يحقق أحد شروط صحة عقد الزواج على قول الجمهور، أما إذا أسقطه نهائياً فَقد العقد أحد شروط صحته، لكن بالنظر إلى صفات الشهود، فالعقد المدني حتى مع اشتراطه لشهادة الشهود لا يضمن تحقق الصفات المطلوبة.
لكن هذا لا يمنع من تحقق شروط الشهود، كما ذكرها الفقهاء في كثير من عقود الزواج المدنية، مما يعني عدم صواب إطلاق حكم واحد على جميع هذه العقود بالنظر إلى تحقق شرط الإشهاد فيها، والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث: الولي في عقد الزواج المدني:
يظهر جلياً من خلال عرض الكيفية التي يتم بها عقد الزواج المدني أنه لا اعتبار لوجود الولي فيه، فالعاقدان في هذا العقد هما الرجل والمرأة: الزوج والزوجة، وليس هناك اشتراط لوجود الولي أو إذنه مادامت الزوجة عاقلة بالغة للسن القانوني الذي يسمح لها أن تتزوج وفق القانون المدني المعمول به(90).
وتتولى عندها إبرام العقد مع الزوج، بكونها طرفاً أصيلاً في عقد الزواج، سواء وافق وليها –إن وجد- أم لم يوافق(91).
وبالتالي نحتاج في دراستنا لعقد الزواج المدني البحث في صحة عقد الزواج بعبارة المرأة البالغة العاقلة بحق نفسها بدون اعتبار لموافقة الولي أو إذنه.
بيان أقوال الفقهاء الواردة:
لقد بنى الفقهاء القول في موضوع عقد الزواج بعبارة المرأة –على القول في مدى اعتبار الولي في هذا العقد، ويمكن بيان ذلك فيما يأتي:
القول الأول: صحة إنشاء عقد الزواج بعبارة المرأة البالغة العاقلة، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف في ظاهر الرواية، وهو قول زفر والشعبي والزهري(92).
وذلك بناءً على قولهم بجواز زواجها من غير اشتراط الولي كشرط لصحة العقد مع استحباب تفويض الأمر إليه، من غير اشتراط مباشرته للعقد؛ إذ رضاه بالزوج كاف(93) وقال الإمام أبو حنيفة: أن للولي حق الاعتراض على العقد إذا كان الزوج ليس بكفء لموليته – ما لم تحمل- وكذا إذا زوجت نفسها بمهر قاصر(94).
القول الثاني: عدم انعقاد النكاح بعبارة النساء، حتى لو أذن الولي بذلك، فلا بد أن يباشر العقد ولي المرأة.
وهو ما ذهب إليه الإمام مالك – رحمه الله تعالى- كما هو وارد في رواية عنه(95) والإمام الشافعي(96) وفي رواية عن الإمام أحمد، وهو القول الأصح عند الحنابلة(97).
وكذا القول في رواية عن أبي يوسف من الحنفية(98) وروي هذا القول عن عدد كبير من الصحابة الكرام منهم: عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة والسيدة عائشة –رضي الله عنهم أجمعين- ومن التابعين و تابعيهم: سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز
والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وغيرهم(99) ، وذلك تخريجاً على قولهم باشتراط الولي كشرط لصحة عقد الزواج. وإلى عدم صحة عقد الزواج بعبارة المرأة، ذهب أيضاً داوود الظاهري، إلا أنه فرّق بين البكر والثيب في اشتراط الولي، فالبكر عنده لا يزوجها إلا وليها، أما الثيّب فتولي أمرها من شاءت من المسلمين ويزوجها وليس للولي في ذلك اعتراض، أي أنه مع عدم اشتراطه الولي في زواج الثيب إلا أنه لم يجعل لها أمر عقد زواجها بنفسها، فلا بد من أن تولي أمرها لأحد من المسلمين، إن لم يكن الأمر لوليها(100).
وفي المذهب المالكي تفريق بين المرأة الشريفة العفيفة الملتزمة بدينها، والمرأة الوضيعة، وذلك باشتراط الولي في الأولى دون الثانية، فهذه تولي أمرها لمن شاءت من المسلمين(101). أي أنه حتى مع عدم اشتراط الولي في زواج المرأة الوضيعة لم يُجعل لها أمر مباشرتها للعقد بعبارتها.
القول الثالث: جواز مباشرة المرأة البالغة العاقلة لعقد نكاحها, فيقع صحيحاً موقوفاً على إجازة الولي على قول محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية(102).
وفصّل بقوله: "أما إذا كان الزوج كفؤاً، وامتنع الولي عن الإجازة، يجدد القاضي العقد، ولا يلتفت إليه"(103).
بينما يذهب أبو ثور من الشافعية إلى الجواز بشرط إذن الولي لها أن تعقد لنفسها، وإن لم يأذن لم يجز(104).
أدلة القول بصحة عقد الزواج بعبارة المرأة البالغة العاقلة:
كان أبرز ما احتج به من قال بصحة عقد الزواج بعبارة المرأة البالغة العاقلة ما يلي:
من القرآن الكريم:
1. قوله تعالى: : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالمَعْروفِ (البقرة: 234). وقوله تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ (البقرة:230).
ووجه الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين: إضافة الفعل إلى المرأة: ففي الآية الأولى: "فيما فعلن في أنفسهن" والآية الثانية "حتى تنكح زوجاً غيره" بمعنى أن المرأة هي الفاعل الذي أُسند إليه فعل النكاح والزواج، مما يدل على صحة العقد بعبارتهن(105).
2. واستدلوا بقوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (البقرة: 232).
ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أنها نهت الأولياء عن عضل النساء أي نهتهم عن منع النساء من تزويج أنفسهن ممن يخترن من الرجال ويردن عقد نكاحهن معهم.
قال أبو بكر الجصاص في قوله تعالى: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: "معناه: لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج"(106) ، يقول ابن رشد: "… وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد… بل قد يمكن أن يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم"(107).
من السنة النبوية:
1. ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما- أن النبي ïپ¥ قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صمتها"(108).
ووجه الدلالة: أنه قد أثبت للمرأة من الحق في تزويج نفسها أكثر مما هو ثابت لوليها، ويتجه مع هذا الحق لها، صحة تصرفها فيه دون توقف على رضا من هو أقل أحقية منها في أمر زواجها(109).
2. حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ïپ¥: "ليس للولي مع الثيب أمر"(110) ، ودلالته واضحة في إثبات الحق للمرأة في أمر زواجها، وقد خصه الحديث الشريف هنا بالثيب دون البكر، إلا أنه يمكن القول بأنه قد أفاد صحة العقد بعبارة المرأة.
3. استدلوا أيضاً بما روي من رده ïپ¥ لأنكحة بسبب الإكراه وعدم اعتبار موافقة المرأة فيها، ومن ذلك:
- ما روته السيدة عائشة –رضي الله عنها- أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي ïپ¥، فجاء
رسول الله ïپ¥ فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء من الأمر شيء (111).
- وقريب منه أيضاً ما رواه ابن عباس –رضي الله عنهما- أن جارية بكراً أتت النبي ïپ¥ فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي ïپ¥ (112).
ووجه الدلالة من هاتين الروايتين:
أن رد الأنكحة لعدم اعتبار موافقة المرأة فيها ورضاها بها يفيد إثبات أحقيتها في عقد زواجها، وهذا يحتمل فيما يحتمل القول بصحة العقد بعبارتها اعتباراً لأحقيتها فيه.
من المعقول:
قالوا: إن تولي المرأة لعقد زواجها ومباشرته بنفسها يستوي قياساً مع القول بصحة العقود الأخرى التي تجريها كالإجارة والبيع ونحوه، والتي تنبني في جملتها على اعتبار أهلية المرأة الكاملة في إجراء العقود وإمضائها فيما يتعلق بخالص حقها، ولا تعارض في تقرير هذا مع إثبات حق الأولياء في أمر زواجها، إذ جعل لهم حق الاعتراض فيما إذا أسيء لهم بزواجها من غير كفءٍ أو نحوه(113).
أدلة القول بعدم انعقاد الزواج بعبارة المرأة:
استدل من قال بعدم انعقاد الزواج بعبارة المرأة بعدد من الأدلة أهمها:
- من القرآن الكريم:
استدلوا بعدد من الآيات الكريمة كان الخطاب فيها موجهاً للأولياء في شأن الزواج.
1. قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ( سورة النور: 32).
وقوله تعالى: وَلَا تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (سورة البقرة: 221).
ووجه الدلالة في الآيتين الكريمتين: أنه مادام الخطاب قد وُجّه للأولياء في شأن الزواج، إذن لا ينعقد هذا الزواج إلا بعبارة الولي؛ لأن شأن الزواج والإنكاح قد أسند إليه(114).
2. قال تعالى:  وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (سورة البقرة: 232).
ووجه الدلالة: هذا قائم على اعتبار أن نهي الأولياء عن عضل مولياتهم يتجه عندما يكون أمر زواجهن بيد أوليائهن(115).
- من السنة النبوية:
1- ما رواه أبو موسى ïپ´ أن رسول الله ïپ¥ قال: "لا نكاح إلا بولي"(116).
ووجه الدلالة: ما ورد فيه من نفي الصحة عن النكاح من غير ولي، وما كان هذا شأنه دلّ على اشتراطه لصحة عقد الزواج وإلا كان باطلاً.
- استدلوا أيضاً بما روته السيدة عائشة –رضي الله عنها-: أن رسول الله ïپ¥ قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"(117).
ووجه الدلالة: التصريح ببطلان النكاح، وتأكيد هذا البطلان بتكرار العبارة، إذا كان بغير إذن الولي، اعتباراً أن موضع إذن الولي لتصحيح عقد النكاح يتنزل هنا منزلة مباشرته للعقد.
- ومما استدلوا به ما رواه أبو هريرة ïپ´ عن النبي ïپ¥ أنه قال: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"(118).
ووجه الدلالة أن وصف المرأة التي تزوج نفسها بالزانية، يحمل وصف هذا الفعل بغاية القبح الدال على تحريمه والنهي عنه، فتكون مباشرة المرأة لعقد زواجها سبباً للقول ببطلان عقد النكاح هنا، دفعاً لهذه المعصية البالغة، ومنعاً للوقوع في المحرم(119).
إلا أن الدارقطني قد رجح وقف هذا الجزء من الحديث على أبي هريرة ïپ´(120).
من المعقول:
استدلال الجمهور على قولهم من المعقول قائم على ضرورة مراعاة الحياء الفطري في المرأة، وبعدها عن مجالس الرجال ومخالطتهم، وغلبة جانب العاطفة فيها، مما يجعل أمر تولي وليها لعقد زواجها من الأهمية بمكان – بحيث لا يُتنازل عنه تحقيقاً لمقاصد الزواج من منفعة وإصلاح، وبعداً به عن أي مضرة وإفساد قد يلحق بالزوجة أو بأوليائها، لتأثر كلا الطرفين بتوابع الزواج وآثاره، مما يؤكد عدم صحة انفراد المرأة بعقد زواجها، سواء للحرص على تحقيق مصلحتها فيه، أم مراعاة لحق وليها وتأثره المباشر بزواج موليته(121).
أدلة القائلين بأن العقد بعبارة المرأة موقوف على إذن الولي وإجازته:
أ- من السنة النبوية: ما روته السيدة عائشة –رضي الله تعالى عنها-: أن رسول الله ïپ¥ قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"(122).
ووجه الدلالة من الحديث الشريف: أن الحكم فيه على عقد النكاح بالبطلان، إنما كان لأن المرأة قد تزوجت بغير إذن وليها، فيفيد بمفهومه أنها إن تزوجت بإذنه كان العقد صحيحاً، وهذا الحكم يحتمل أن تعقد زواجها بعبارتها وبإذن وليها، فيكون صحيحاً كذلك.
من المعقول:
قالوا: اعتباراً ومراعاةً لحق الولي في نكاح موليته، لا بد من وقف العقد على إجازته لما تباشره المرأة بعبارتها(123).
وبالقياس على نكاح العبد، حيث يراعى إذن المولى، فإذا أذن زال المنع(124).
القول المختار:
من خلال العرض السابق لأهم ما استدل به الفقهاء نستطيع ملاحظة ما يلي(125):
1- إن الآيات الكريمة المستدل بها، أفادت في ظاهرها إسناد النكاح إلى النساء أحياناً، وأحياناً أخرى إلى الأولياء، وليس ثمة دليل مرجح – فيما يبدو- يقطع بأن المراد إسناد مباشرة العقد إلى النساء أو إلى الأولياء بشكل خاص، أو حتى حصره بأحدهما دون الآخر، مما يعني تطرق الاحتمال إلى هذا الوجه من الاستدلال.
2- إن ما استدل به الجمهور من أحاديث شريفة – وإن كان صريحاً في دلالته على نفي صحة النكاح بغير ولي- إلا أن هذه الأحاديث الشريفة قد تطرق الضعف والإعلال إلى أسانيدها، مما يجعلها أدلة محتملة.
وفي المقابل، لم يقطع ما استدل به الحنفية من أحاديث شريفة على إسقاط الولي من عقد الزواج، فالحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- يثبت أحقية المرأة في زواجها أكثر من وليها، ولا يدل على استئثارها بالعقد دونه.
أما الأحاديث الشريفة التي ثبت فيها رد النبي ïپ¥ لعدد من الأنكحة، فتؤكد ضرورة اعتبار موافقة المرأة في عقد زواجها، وليس استئثارها بالعقد دون وليها.
3- مع اتجاه قول الجمهور بضرورة مباشرة الولي لعقد زواج موليته، حرصاً على تحقق المصالح المرجوة من عقد الزواج بحق الزوجة، وبحق أوليائها معاً –إلا أنه ليس ثمة نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة يمنع تحقق هذا الوجه من المصلحة بمباشرة المرأة للعقد بعبارتها مع موافقة وإذن وليها. فإن إنزال الولي موضع الأهمية للقول بصحة عقد النكاح لا يمنع الجمع بين إذن الولي ومباشرة المرأة للعقد، إلا إذا قيل إن الغالب في شأن عقد الزواج عندما تباشره المرأة بعبارتها أن يكون بغير إذن الولي، وإلا لباشره بنفسه.
4- إن هذا الخلاف القائم قديماً وحديثاً حول مدى اشتراط الولي في عقد الزواج وهل تتوقف على مباشرته للعقد، صحته، أم يكفي إذنه لإجرائه صحيحاً، وللمرأة مباشرة العقد بعبارتها – على الرغم من قيام هذا الخلاف الذي يورث شبهة في الحكم ببطلان النكاح لغياب الولي- نظراً لشبهة الاختلاف بين العلماء، لوجود الاحتمال في الاستدلال، لكن على الرغم من وقوع هذا الخلاف المعتبر نظراً لقيام أسبابه –لا نجد إسقاطاً كلياً للولي من ابتداء عقد الزواج وحتى الحكم بوقوعه صحيحاً نافذاً دون اعتبار موافقته، وحقه في كفاءة الزوج حتى ولو عن طريق حقه في الاعتراض على العقد، كما هو القول عند أبي حنيفة- إذ غاية ما تقطع به الأدلة عند الحنفية الحرص على رضا المرأة وموافقتها على هذا الزواج والبعد عن استئثار الولي بالعقد دون أدنى اعتبار لموليته البالغة العاقلة، دون القطع باستئثارها بالعقد دون وليها – أو عن طريق توقف صحة العقد بعبارة المرأة على إذنه أو إجازته، كما هو القول عند محمد بن الحسن الشيباني وأبي ثور من الشافعية.
5- مع التسليم بتطرق الاحتمال لأدلة الجمهور حيناً، وضعف الأسانيد في الأحاديث منها حيناً آخر، إلا أنه يصعب القول بصحة عقد الزواج المدني –الذي نحن بصدد دراسته- مع غياب الولي مطلقاً، وبعبارة المرأة، إلا من حيث ابتداء العقد تخريجاً على قول أبي حنيفة، ويمكن الحكم بوقوعه صحيحاً نافذاً على قوله أيضاً إذا كان الزوج كفؤاً فعلاً، أو لم يكن للمرأة ولي أصلاً، فيسقط حقه في الكفاءة لعدم وجوده(126).
6- إن من الأهمية بمكان ملاحظة أنه ليس في القانون المدني المعمول به –في مجال هذه الدراسة- ما يضمن حق الولي في الاعتراض أو ما شابه، لسقوط اعتباره كلياً، فحتى مع القول بأن مباشرة عقد الزواج أمر شكلي، سواء باشرته المرأة بعبارتها، أم باشره وليها بعبارته، وإنما المهم والمعتبر في تحقيق المقصد من اشتراط الولاية مراعاة مصلحة المرأة، وحق وليها في هذا العقد –حتى مع القول بشكلية الأمر، إلا أن الصورة التي نحن بصددها هنا تُسقط اعتبار الولي في المظهر والجوهر معاً.
هذا وقد جاء ضمن قرارات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعد دراسته لموضوع الولاية في النكاح ما نصه "… وقد ذهب المجلس بعد مداولاته إلى أن الحرص على موافقة الولي عند إجراء العقد (عقد الزواج) مطلوب دينياً واجتماعياً، لكن إن اقتضى الحال تزويج المرأة بدون ولي لظروف معينة كتعذر إذنه أو كعضله، فلا بأس من العمل بقول من لا يشترط الولي لابتداء العقد، وأما إذا تم العقد دون ولي، فإنه عقد صحيح مراعاة لقول المخالف"(127).