منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مقالات الشيخ محمد الغزالي ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 2017-01-26, 19:44   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
رَكان
مشرف عـامّ
 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام المشرف المميّز لسنة 2011 وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي

المقالةالأولى
التربية الدينية أولا.. فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد، وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل. كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه فقد كبح جماحهم، وقلم أظافرهم، ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديبا مرهوبا... ويرجع ذلك إلى أمور عدة، أولها أن الحقائق الدينية عندنا لاتنفك أبدا عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها.. ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجرا، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولاسرى له شعاع "قيل يارسول الله: ما يعدل الجهاد فى سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه! ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام... حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله". وإذا كان فقدان الحياة أمرا مقلقا لبعض الناس، فإن ترك الدنيا بالنسبة إلى المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى إن النبى - صلى الله عليه وسلم - حلف يرجو هذا المصير "والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء؟ لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديما تجتذب الشباب والشيب، وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب في الميدان المشتعل، فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله، وتلقنهم درسا لاينسى..
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت، أم إنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب؟!! إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهودا هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعاني، أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة!! وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم عن الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلا وموضوعا عن كل مجال جاد، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة، وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين.. وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحا ملحوظا فى سبيل غايته تلك. ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم، واستباح مقدساتهم.. وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه؟ إن تجميع الأصفار لا ينتج عددا له قيمة!!وإن الجهد الأول المعقول يكمن في رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه في شئونهم، ما ظهر منها وما بطن... عندئذ يدعون فيستجيبون، ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف، فيبتسم لهم النصر القريب، وتتفتح لهم جنات الرضوان... إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شيء، أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة: حكوا أنهم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأسا ليقطع بها تلك الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه!! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أقطع تلك الشجرة التى تعبد من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح! فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئا، وظل كذلك ثلاثة أيام، فخرج مغضبا ومعه الفأس ليقطع الشجرة . فاستقبله إبليس قائلا: إلى أين أنت ذاهب؟ قال أقطع تلك الشجرة! قال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك. ص _007
لقد خرجت فى المرة الأولى غاضبا لله فما كان أحد يقدر على منعك!! أما هذه المرة فقد أتيت غاضبا للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ أربك فارجع عاجزا مخذولا.. إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيعة وترجيح المنافع العاجلة.. ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لايلقى عائقا ولا عنتا... وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة... إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، وإشباع نزوة خاصة قد يكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا وذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا). إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت - قديما - كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية السائدة رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة. وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبدا هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه. وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلا أجوف!! والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازورارا عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة، وجعل الإنسان مستعدا فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب.
كنت أقرأ مقالا مترجما فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة، التى يجهلها للأسف كثير من الناس. تأمل معى هذه العبارة "يقول جوته الشاعر الألماني: من كان غنيا فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شيء من خارجها! أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"! عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترى كثرة المال هو الغني؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب". واسمع هذه العبارة من المقال المذكور: النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة، فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح، هذا القوت شيء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة الفارغة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسد للنفس!! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكانا فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك أثرها، وتسلك بك أحد طريقين إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتدارا وأملا.. أليس هذا الكلام المترجم شرحا دقيقا لقول البوصيرى. وإذا حلت الهداية نفسا نشطت للعبادة الأعضاء! وتمهيدا حسنا لقول ابن الرومي: أمامك فانظر أى نهجيك تنهج طريقان شتي، مستقيم وأعوج واقرأ هذه الكلمة أيضا من المقال المترجم: رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئسا، وبينما هو كذلك انهارت قواه، وشق عليه الجهاد، وأسرعوا به إلى الطبيب... إن الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة. كل ما يحتاج إليه الرجل من أول أمره، ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجها لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة!
إن هذا الكلام ذكرنى بما روى عن جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق! قيل وما ذاك؟ قال: الراحة فى الدنيا. وأنشدوا: يطلب الراحة فى دار الفنا خاب من يطلب شيئا لا يكون! إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعا من التفكير الإنسانى الراشد إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق، وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان، ومغاضبة للرحمن... والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخري، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات، وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها، فأمست جسدا ونفسا لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها... بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير عندما تنقل المباذل، ومظاهر التفسخ فى الحضارة الأوروبية تنقلها بسرعة الصوت أما عندما تنقل علما نافعا، وخيرا يسيرا، فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة، وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة، وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها..!! وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به من الصفر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجورا، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة، والطرف الجديدة، والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة؟ ولا بأس بعد توفير هذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة! ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير!! ثم يسمى هذا السلوك التافه تدينا!! لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم، وإطراح آدابه، وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفرت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم، ومازال يرن فى أذنى قول الشاعر: قلت يوما لدار قوم تفانوا أين سكانك العزاز علينا؟ فأجابت هنا أقاموا قليلا ثم ساروا ولست أعلم أينا!!
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات.. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين، ولكنهم أخرجوا مطرودين. أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد..؟ لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين فكنت أترك الصحف جانبا ثم أهمس إلى نفسي: هناك خطوة تسبق هذا كله، خطوة لا غنى عنها أبدا. هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام.. إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعا إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والتعب، وإيثارا للسطوح عن الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم، فكيف تعيد مجدا تهدم، أو ترد عدوا توغل..؟!! ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم: "إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ". فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها - من قبلنا - المفرطون والجاحدون.!!










آخر تعديل رَكان 2017-01-26 في 19:46.
رد مع اقتباس