فَإِنْ تَعَارَضَفِيمَا نَرَى نصَّان فَالْوَاجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا مَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }
وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ:
· بِأَنْ يُسْتَثْنيَ الأَخَصُّ مِنْ الأعَمِّ.
· فَإِنْ لَمْ نَقْدِرْ أَخَذنا بالحكم الزَّائِدِ على ما كُنَّا عليه قبل ذلك.
أوجه ما يُظَنُ به التعارض من النصوص
(1) الوجه الأول
أن يكون أحد النصَّيْن أخصّ من الآخر.
فواجب ههنا أن يستثنى الأخصّ من الأعمّ فنكون بهذا قد استعمانا النصين.
أمثلــــــــــــــــــــــــــــــــة
(1) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ:"كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا أَخَاهُ فِي حَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ" [البخاري:كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ؛ بَاب { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }]
وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:"كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 24]"[البخارى: كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ]
فَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِشَارَةٌ إِلَى استثناء الأخصّ من الأعمّ فآية سورة الأنفال أخصّ من آية سورة البقرة.
(2) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ" [مسلم كتاب الحج باب وجوب طواف الوداع]
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:"رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ" [البخارى: كتاب الحج؛ بَاب إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ]فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين؛ ولهذا عنون مسلم فى صحيحه الباب بقوله [بَاب وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَسُقُوطِهِ عَنْ الْحَائِضِ]
(3) قال الله عز وجل: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]
وقال عليه السلام :«لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»[مسلم: كتاب الحدود؛ باب حد السرقة]
فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع، وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه.
(4) قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [البقرة:221]
وقال تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة:5]
فأباح الله سبحانه وتعالى المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات، وبقي سائر المشركات على التحريم.
(5) قال عليه السلام:«دِماؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» [البخارى: كتاب الحج؛ باب الخطبة أيام منى]
وأمر الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم بقتل من ارتد بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً، وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات، فكان هذا وغيره مما هو مذكور فى الأحاديث الصحيحة مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض، وبقي سائرها على التحريم.
ولا نبحث في هذا الوجه أي النصين ورد أولاً ولكن يستعملان معاً.
(2) الوجه الثاني
أن يكون أحد النصين موجباً بعض ما أوجبه النص الآخر،أو محرِّماً بعض ما حرَّمه النص الآخر؛ فليس في شيء من ذلك تعارض.
أمثلــــــــــــــــــــــــــــــــة
(1) قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى }[الإسراء 32]
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ قُلْتُ لَهُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" [مسلم كتاب الإيمان باب كون الشرك أقبح الذنوب]
فليس ذكر امرأة الجار معارضاً لعموم النهي عن الزنى، بل هو بعضه.
(2) فى البخارى فى حديث أبى بكر رضى الله عنه"....
وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ..." [البخاري: كِتَاب الزَّكَاةِ؛بَاب زَكَاةِ الْغَنَمِ]
وفى صحيح وضعيف سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه "... وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ...." [صحيح وضعيف سنن أبي داود - (4 / 68)حقيق الألباني :صحيح]
فالغنم السائمة هى بعض الغنم ففى هذه زكاة وفى تلك زكاة.
(3) قال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]
وقال تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ }[البقرة:241]
فالمطلقة غير الممسوسة فى الآية الأولى داخلة في جملة المطلقات فى الآية الثانية.
فليس في شيء من النصوص نهي عما في الآخر، ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة، ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة، ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير الممسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة، ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر.