المطلب الأول :
الحكم على الناس بالظاهر
من القواعد المهمة التي ينتهجها أهل الحق والعدل في الحكم على الناس، الحكم عليهم بما أظهروا من إسلام أو سنة أو طاعة، من غير إعمال لسوء الظن ولا تفتيش عن البواطن أو تلمس للعثرات أو امتحان، وفي هذا يقول الشيخ الألباني رحمه الله : «فهذا المنتمي إلى السلف الصالح على نسبة قربه وبعده في تحقيق انتسابه إلى السلف الصالح يقال فيه إنه مع السلف الصالح ، ولذلك فلا يصح أن يطلق القول بإخراج من كان يعلن ولو بلسانه على الأقل، لا يصح أن نقول أنه ليس سلفيا ما دام يدعو إلى منهج السلف الصالح، ما دام يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة وعدم التعصب لإمام من الأئمة، فضلا عن أن يتعصب لطريق من الطرق فضلا عن أن يتعصب لحزب من الأحزاب، لكن له آراء يشذ فيها في بعض المسائل الاجتهادية ، وهذا لابد منه …لكن (يعني ينظر إلى) القاعدة هل هو مؤمن بها؟ هل هو داع إليها؟»
فمن كان منتسبا إلى منهج السلف وداعيا إليه بلسانه على الأقل، لا يجوز أن يحكم عليه بخلاف ما أظهر ما لم ينقضه بنواقض بَيِّنة، لأننا كلفنا الحكم بالظاهر.
وهذا الذي قرره الألباني ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ قال ردا على أحدهم: « وإن أردت بالتستر أنهم يجتنون به ويتقون به غيرهم ويتظاهرون به حتى إذا خوطب أحدهم قال أنا على مذهب السلف، وهذا الذي أراده والله أعلم فيقال له لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق ، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا، فإن كان موافقا له باطنا وظاهرا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنا وظاهرا، وإن كان موافقا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا أن نشق بطونهم»
ومن دلائل هذه القاعدة الاتفاق الذي نقله شيخ الإسلام ابن تيمية وقد نقله قبله ابن عبد البر-رحمه الله- فقال :« وقد أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وإن السرائر إلى الله عز وجل »، وفي ذلك نصوص شرعية كثيرة، قال الشافعي: «الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب، ومن حكم على الناس بالإزكان، جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسوله ، لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب، لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه، وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله ، وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم، فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن؟ قيل: كتاب الله ثم سنة رسول الله، ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :] إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [ قرأ إلى ] فصدوا عن سبيل الله [ فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناكحون ويتوارثون ويسهم لهم إذا حضروا القسمة ويحكم لهم أحكام المسلمين وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم وأخبر رسول الله أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان وقال رسول الله :« إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ به فإنما أقطع له بقطعة من النار»، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر»
ومن النصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»([]). ومنها حديث أسامة بن زيد لما قتل ذاك الذي قال لا إله إلا الله وزعم أنه قالها خوفا من السلاح فقَالَ صلى الله عليه وسلم: « أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا »([])، ومنها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:« وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ»([13]).