منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - حقيقة التوكل. للحافظ ابن رجب من كتاب "جامع العلوم والحكم"
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-10, 11:06   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
موسى عبد الله
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية موسى عبد الله
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثوقه به ، فدخل المفاوز بغير زاد ،
فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة ، وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل - عليه السلام - ، حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع ، وترك عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، فلما تبعته هاجر ، وقالت له : إلى من تدعنا ؟ قال لها : إلى الله ، قالت : رضيت بالله ،

وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه ، فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحق ما يعلمون أنه حق ، ويثقون به . قال المروذي : قيل لأبي عبد الله : أي شيء صدق التوكل على الله ؟ قال : أن يتوكل على الله ، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء ، فإذا كان كذا ، كان الله يرزقه ، وكان متوكلا .
..........
وقد روي عن أحمد أنه سئل عن التوكل ، فقال : قطع الاستشراف باليأس من الخلق ، فسئل عن الحجة في ذلك ، فقال : قول إبراهيم - عليه السلام - لما عرض له جبريل وهو يرمى في النار ، فقال له : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك ، فلا .
وظاهر كلام أحمد أن الكسب أفضل بكل حال ، فإنه سئل عمن يقعد ولا يكتسب ويقول : توكلت على الله ، فقال : ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله ، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب .

وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قيل له : لو أن رجلا قعد في بيته زعم أنه يثق بالله ، فيأتيه برزقه ، قال : إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه قد وثق به ، لم يمنعه شيء أراده ، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم ، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر ، ولم يقولوا : نقعد حتى يرزقنا الله - عز وجل - ، وقال الله - عز وجل - : { وابتغوا من فضل الله } ، ولابد من طلب المعيشة .

...............
.......

ومعنى هذا الكلام أن المتوكل على الله حق التوكل لا يأتي بالتوكل ، ويجعله سببا لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره ، فإنه لو فعل ذلك ، لكان كمن أتى بسائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها ، وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل .


وإنما المتوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده رزقه وكفايته ، فيصدق الله فيما ضمنه ، ويثق بقلبه ، ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به ، والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر ، ومؤمن وكافر ، كما قال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ، هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق ، قال تعالى : { وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } .

فما دام العبد حيا ، فرزقه على الله ، وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب ، فمن توكل على الله لطلب الرزق ، فقد جعل التوكل سببا وكسبا ، ومن توكل عليه لثقته بضمانه ، فقد توكل عليه ثقة به وتصديقا ، وما أحسن قول مثنى الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد : لا تكونوا بالمضمون مهتمين ، فتكونوا للضامن متهمين ، وبرزقه غير راضين .

واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء ، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ، ويختاره ، فقد حقق التوكل عليه ، ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا .

قال ابن أبي الدنيا : بلغني عن بعض الحكماء قال : التوكل على ثلاث درجات : أولها : ترك الشكاية ، والثانية : الرضا ، والثالثة : المحبة ، فترك الشكاية درجة الصبر ، والرضا سكون القلب بما قسم الله له ، وهي أرفع من الأولى ، والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به ، فالأولى للزاهدين ، والثانية للصادقين ، والثالثة للمرسلين . انتهى .

فالمتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره ، فهو صابر ، وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه ، فهو الراضي ، وإن لم يكن له اختيار بالكلية ولا رضا إلا فيما يقدر له ، فهو درجة المحبين العارفين ، كما كان عمر بن عبد العزيز يقول : أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر .










رد مع اقتباس