من روائع الذكاء وبدائع القضاء
روى الشعبي أن كعب بن سور كان جالسًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاءت امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله؛ إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا، فاستغفر لها، وأثنى عليها، واستحيت المرأة، وقامت راجعة([1]).
فقال كعب: يا أمير المؤمنين! هلا أعديت ([2]) المرأة على زوجها؛ فلقد أبلغت إليك في الشكوى.
فقال لكعب: «اقض بينهما؛ فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم».
قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة.
فقال عمر: «والله؛ ما رأيك الأول بأعجب من الآخر! اذهب؛ فأنت قاض على البصرة، نعم القاضي أنت»([3]).
قيل في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾([5]): «ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك؛ لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم».
وكان عبدالله ولد الإمام أحمد رحمهما الله تعالى يقول: سألت الإمام أحمد عن الرجل يكون في بلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه، وصاحب رأي؛ فمن يسأل منهما عن دينه؟ فقال: «يسأل صاحب الحديث، ولا يسأل صاحب الرأي».
وكان الإمام أحمد رحمه الله يتبرأ كثيرًا من رأي الرجال، ويقول: «لا ترى أحدًا ينظر في كتب الرأي غالبًا؛ إلا وفي قلبه دخل»([6]).
وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: «أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم».
وقال أيضًا: «إذا رأيت صاحب حديث؛ فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وكان أبو بكر بن عياش يقول: «أهل الحديث في كل زمان كأهل الإسلام مع أهل الأديان».
وقال أحدهم: «كفى خادم الحديث فضلاً دخوله في دعوته صلى الله عليه وسلم حيث قال: «نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره...»([7]).
قال سفيان بن عيينة: «ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث».
([1]) رضي الله عن نساء ذلك الجيل، وماذا لو سمعن أقوال النساء اليوم أمام القضاة؟!
([2]) أي: هلا أعنتها.
وفي «مختار الصحاح»: «استعنت الأمير على فلان فأعداني؛ أي: استعنت به عليه فأعانني، والاسم منه العدوى، وهي المعونة».
([3]) أورده الحافظ في «الإصابة» في ترجمة كعب بن سور وغيره، وصححه شيخنا حفظه الله تعالى في «الإرواء» رقم 2016.
([4]) من كتاب «قواعد التحديث» (شرف علم الحديث).
([5]) الإسراء: 71.
([6]) أي: هو الفساد والمكر والخديعة.
([7]) أخرجه أصحاب «السنن» وغيرهم، وصححه ابن حبان والعراقي؛ كما في كتاب «السنة» لابن أبي عاصم (رقم 94).