معلومات
العضو |
|
إحصائية
العضو |
|
|
قال خرمي بن يونس: سمعت أبا يوسف الغولي يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة.
وكان أبو حنيفة خزازاً يبيع الخز, فروي أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا حنيفة قد احتجت إلى ثوب خز, فقال: ما لونه؟ قال: كذا وكذا, قال: اصبر حتى يقع, وآخذه لك, فما دارت الجمعة حتى وقع, فجاءه الرجل فقال له أبو حنيفة: قد وقعت حاجتك, ثم أخرج إليه ثوباً فأعجبه, فقال: يا أبا حنيفة كم أزن للغلام؟ فقال درهماً, فقال: أتهزأ بي قال: لا والله إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم, فبعت أحدهم بعشرين ديناراً, وبقى هذا بدرهم, وما كانت لأربح على صديق. فأخذه!([1]).
قال سفيان الثوري: انظر درهمك من أين هو, وصل في الصف الأخير([2]).
وقال محمد بن سيرين: كان يقال: المتعلم المسلم عند الدرهم([3]).
وغالب الناس اليوم ينطبق عليهم قول الشاعر:
نُرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقع
ولهذا قلت الدمعة في المآقي, وندر البكاء من خشية الله.
قال سهل رحمه الله: لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال([4]).
وعندما رأى عطاء بن يسار رجلاً في المسجد فدعاه فقال: هذه سوق الآخرة, فإن أردت البيع فأخرج إلى سوق الدنيا([5]).
وروي عن خالد البلوي قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال: أرشدت إليك تبيعني ثوبين أريدهما لأمي وزوجتي, وأحسن بيعي, فقال له, أي لون تريد؟ فوصف له. فقال: انتظرني جمعتين, قال: نعم. فذهب, ثم جاء بعد ذلك فدفع إليه ثوبين وديناراً واحداً وقال: إني لم أخسر عليك, إني جعلت لك بضاعة فرزقت من عند الله عز وجل, فأحمده فقلت له, أو قيل له: يا أبا حنيفة هل ذكرت بينكما معرفة قديمة؟ قال: لا. ألم تسمع إلى قوله: (وأحسن بيعي).
قال سعيد بن جبير: إذا قال الرجل للرجل: أحسن بيعي فقد ائتمنه, فلم أكن أبقي من الإحسان شيئاً إلا أتيته؛ لتسلم لي أمانتي([6]).
وعن علي بن حفص البزاز قال: كان حفص بن عبدالرحمن شريك أبي حنيفة, وكان أبو حنيفة يجهز عليه, فبعث إليه في رفقة بمتاع, وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً, فإذا بعته فبيِّن. فباع حفص المتاع ونسي أن يبيِّن ولم يعلم ممن باعه, فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كُلِّه([7]).
أخي الحبييب: أين نحن من هؤلاء:
قال مسلمة بن عبدالملك: دخلتُ على عمر بن عبدالعزيز بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر, فلا يدخل عليه أحدٌ, فجاءته جارية بطبق عليه تمرُ صيحاني, وكان يُعجبه التمر, فرفع بكفِّه منه, فقال يا مسلمة, أترى لو أن رجُلاً أكل هذا, ثم شرب عليه من الماء -على التمر طيب- أكان مُزجئه إلى الليل؟ قلتُ: لا أدري. قال: فرفع أكثر منه فقال: هذا؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين, كان كافيه دون هذا, حتى ما يُبالي أن لا يذوق طعاماً غيره. قال: فعلامَ يدخل النار؟ قال مسلمة: فما وقعتْ مني موعظة ما وقعتْ هذه([8]).
وعن مزمل قال: سمعت وهيباً (ابن الورد) يقول لو قمت قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام.
وعندما نظر حذيفة المرعشي إلى الناس يتبادرون إلى الصف الأول, فقال: ينبغي أن يتبادروا إلى أكل خبز الحلال, ولا يُتبادر إلى الصف الأول([9]).
والشيطان في صراع وجهاد لإغواء المسلم وصده عن سبيل الله.
قال يوسف بن أسباط: إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء, قال: دعوه, لا تشتغلوا به, دعوه يجتهد وينصب, فقد كفاكم نصيبه([10]).
وقد يجعل الله عز وجل نعمة المال استدراجاً لمن عصاه وخالف أمره, كما سمعنا ذلك عن أمم سابقة, ورأينا ذلك في أمم ودولٍ معاصرة, قال تعالى: } وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {[النحل: 112].
قال شعيب بن حرب: لا تحقرنَّ فلساً تطيع الله في كسبه, ليس الفلس يراد, إنما الطاعة تراد, عسى أن تشتري به بقلاً فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك([11]).
أرى حُللاً تُصان على أناس
وأخلاقاً تداس فلا تصانُ
يقولون الزمان به فساد
وهم فسدوا, وما فسد الزمان
قال بعض السلف: لترك دينار مما يكره الله, أحب إلي من خمسمائة حجة([12]).
ولهذا قال الحسن: رأيت سبعين بدريًّا كانوا فيما أحلَّ الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم([13]).
المال يذهب حلَّه وحرامه
طراً ويبقى في غدٍ آثامه
ليس المتقي بمتق لإلهه
حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما تحوى وتسكب كفه
ويكون في حسن الحديث كلامه([14])
أما صدق الحديث في البيع والشراء فإنك ترى العجب من حال أولئك!
حدثنا زياد بن الربيع عن أبيه: قال رأيت محمداً بن واسع يمر ويعرض حماراً له على البيع فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه([15]).
وجاء مجمع التيمي بشاة يبيعها, فقال: إني أحسب أو أظن في لبنها ملوحةً.
وجاء يوسف بن عبيد بشاةٍ, فقال: بعها وابرأ من ...................
... أنها تقلب المعلف, وتنزع الوتد, ولا تبرأ بعد ما تبيع, بيِّن قبل أن تبيع([16]).
أين نحن من هؤلاء؟!
عن السري بن يحيى قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفاً في شيء دخله([17]).
وعن ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه, وحتى يعلم من أين ملبسه, ومطعمه, ومشربه([18]).
وكانت الزوجة والابنة الصالحة تعين على الحلال واستطابة المطعم.
قالت ابنة العدوية لأبيها: يا أبتِ, لست أجعلك في حلٍ من حرام تطعمنيه. فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً. قالت: نصبر في الدنيا على الجوع, خير من أن نصبر في الأخرة على النار.
وقال المعافى بن عمران: كان عشرة فيمن مضى من أهل العلم, ينظرون في الحلال النظر الشديد, لا يدخلون بطونهم, إلا ما يعرفون من الحلال, وإلا استفُّوا التراب, ثم عد بشر, وإبراهيم بن أدهم, وسليمان الخواص, على بن الفضيل, وأبا معاوية الأسود ويوسف بن اسباط, ووهيب بن الورد, وحزيفة شيخ من أهل حران, وداود الطائي, فعد عشرة كانوا لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال, وإلا استفُّوا التراب([19]).
وكان بشرٌ يقول: ينبغي للرجل أن ينظر خبزه من أين هو؟ ومسكنه الذي سكنه أصله من أي شيء؟ ثم يتكلم([20]).
وقال علي بن شعيب, قال لي أبي: كنت قلْت عند فلان, قال: فقال لي: أكلت عنده؟ قلت: نعم قال: احْمِد ربك, أكلت ما لا تُسأل عنه, يعني عن كسبه([21]).
وقال أبو يوسف الغسولي: إنه ليكفيني في السنة اثنا عشر درهماً, في كل شهر درهم, وما يحملني على العمل إلا ألْسنَةُ هؤلاء القرَّاء, يقولون: أبو يوسف من أين يأكل؟
وكان يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة.
وسأل خلف بن تميم, إبراهيم بن أدهم فقال: منذ كم قدمت الشام؟ قال: منذ أربع وعشرين سنة, ما جئت لرباط ولا لجهاد, جئت لأشبع من خبزٍ حلال.
وقال ابن المبارك: رد درهمٍ من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم, ومائة ألف, حتى بلغ إلى ستمائة ألف([22]).
وتأمل في سؤال فقهي: ليس المراد الجواب.. بل في السؤال تحرز وبراءة للذمة!
سُئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم لا يعرفه. قال رحمه الله: لا يأكل منها شيئاً حتى يعرفه.
وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجل, وأمره أن يبيعه يوم يدخل لسعر يومه, فأتاه كتابه أني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصاً فحبسته, فزاد الطعام, فازددت كذا وكذا, فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا, وصلت بخلاف ما أمرناك به, فإذا أتاك كتابي فتصدَّق بجميع ذلك الثمن -ثمن الطعام- على فقراء البصرة, فليتني أسلم إذا فعلت ذلك([23]).
وكانوا يتواصون بالحرص على القليل من الحلال؛ ففيه غنية وبركة ..
قال بشر بن الحارث: ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال؛ لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام, فكيف على هذه الأقدار اليوم([24])؟!
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره
فسوف لعمري على قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً
وأن أقبلت كانت كثيرة همومها([25])
أخي المسلم:
كان عمرو بن قيس الملائي إذا نظر إلى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أُعد لهم([26])!
وكان يونس بن عبيد يشتري الإبرسيم في البصرة، فيبعث به إلى وكيله بالسوس، وكان وكيله يبعث إليه بالخز، فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبدًا، حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد([27]).
أخي الحبيب:
يريد المرء أن يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
جاء رجل من أهل الشام من سوق الخزازين, فقال المطرف بأربعمائة, فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين, فنادى المنادي بالصلاة, فانطلق يونس إلى بني قشير؛ ليصلي بهم, فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة, فقال يونس: ما هذه الدراهم؟ قال: ذاك المطرف بعناه من ذا الرجل, قال يونس: يا عبدالله هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم فإن شئت خذه, وخذ مائتين وإن شئت فدعه([28]).
حدث: أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن. يعني إسماعيل. والد إبراهيم عبدالله البخاري عند موته, فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام ولا درهماً من شبهةٍ.
قال أحمد: فتصاغرتْ إليَّ نفسي عند ذلك, ثم قال أبو عبدالله: أصدق ما يكون الرجل عند الموت([29]).
ورحم الله الصاحبي الجليل أبا الدّرداء إذ يقول: من فقه الرَّجل المسلم استصلاحه معيشته.
وقال رضي الله عنه صلاح المعيشة من صلاح الدين, وصلاح الدين من صلاح العقل.
وقال: ليس من حُبِّك الدُّنيا التماسُك بما يصلحك منها([30]).
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه موجِّهًا القرَّاء: يا معشر القرَّاء, استبقوا الخيرات, وابتغوا من فضل الله, ولا تكونوا عيالاً على الناس([31]).
ويحكى عن مبارك أبي عبدالله: أنه كان يعمل في بستان لمولاه, وأقام فيه زماناً, ثم أن مولاه صاحب البستان وكان أحد تُجار همذان جاءه يوماً, وقال له: يا مبارك, أريد رمانًا حلواً.
فمضى مبارك إلى بعض الشجر, وأحضر منها رمانا, فكسره مولاه, فوجده حامضاً, فحرد عليه, وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض! هات حلواً.
فمضى وقطع من شجرة أخرى, فلما كسره سيده وجده أيضاً حامضاً, فاشتد حرده عليه, وفعل ذلك مرة ثالثة, فذاقه, فوجد أيضا حامضاً, فقال له بعد ذلك:
أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟
فقال: لا.
فقال: وكيف ذلك؟
فقال: لآني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه.
فقال: ولِمَ لم تأكل؟
قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه.
فعجب صاحب البستان من ذلك, ولما تبين له صدق عبده؛ عظم في عينه, وزاد قدره عنده. وكانت له بنتُ خطبت كثيراً, فقال له: يا مبارك, من ترى تزوج هذه البنت؟
فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب, واليهود للمال, والنصارى للجمال, وهذه الأمة للدين.
فأعجبه عقله, وذهب فأخبر به زوجته, وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجاً غير مبارك.
فتزوجها, وأعطاهما أبوها مالاً كثيراً, فجاءت بعبدالله بن المبارك, العالم, المحدث, الزاهد, المجاهد, الذي كان أكرم ثمرة زواجٍ على أبويه في آفاق زمانه, حتى قال فيه الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى ويقسم على قوله: "وربَّ هذا البيت, ما رأت عيناي مثل ابن المبارك"([32]).
واليوم وقد كثر الغش, والخداع, في واقع حياة بعض الناس, ندر أن تجد الصادق الصدوق في أداء الامانة, المبتعد عن الغش والخديعة!
وإن كانت نتيجة المعصية واضحة معلومة في الآخرة, فإن مآلها في الدنيا أقرب!
ذُكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى في خلافته عن مَذق اللبن بالماء (أي مزجه به), فخرج ذات ليلة في حواشي المدينة, فإذا بامرأة تقول لابنةِ لها: ألا تمذُقين لبنك فقد أصبحت؟
فقالت الجارية: كيف أمذُق وقد نهى أمير المؤمنين عن المَذق؟
فقالت: قد مذق الناس فامذُقي, فما يدري أمير المؤمنين؟
فقالت: إن كان عمر لا يعلم, فإله عمر يعلم ما كنت لأفعله وقد نهى عنه.
فوقعت مقالتها من عمر, فدعا عاصماً ابنه, فقال:
يا بُني, اذهب إلى موضع كذا وكذا, فاسأل عن الجارية -ووصفها له-.
فذهب عاصم, فإذا هى جارية من بني هلال, فقال له عمر:
اذهب يا بُني, فتزوجها, فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب.
فتزوجها عاصم بن عمر, فولدت له أمُ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب, فتزوجها عبدالعزيز بن مروان بن الحكم, فأتت بعمر بن عبدالعزيز([33]).
([1]) مناقب أبي حنيفة للموفق 1/196.
([2]) حلية الأولياء 7/68.
([3]) الزهد للبيهقي ص 362.
([4]) الإحياء 40/170.
([5]) الورع للإمام أحمد بن حنبل ص51.
([6]) مناقب أبي حنيفة للموفق 1/241.
([7]) تاريخ بغداد 13/358.
([8]) الورع لأحمد ص63.
([9]) الزهد للبيهقي ص 253.
([10]) الزهد للبيهقي ص359.
([11]) صفة الصفوة 3/10.
([12]) الورع لابن أبي الدنيا.
([13]) حلية الأولياء 4/255.
([14]) حلية الأولياء 2/349.
([15]) الورع لابن أبي الدنيا ص104.
([16]) الورع لابن أبي الدنيا ص104.
([17]) صفة الصفوة 3/244.
([18]) السير 5/74.
([19]) الورع للإمام أحمد ص10.
([20]) الورع للإمام أحمد ص10.
([21]) الورع للإمام أحمد ص10.
([22]) الإحياء 2/103.
([23]) جامع العلوم والحكم ص132.
([24]) الورع للإمام أحمد ص 7.
([25]) الإحياء 3/221.
([26]) صفة الصفوة 3/124.
([27]) حلية الأولياء 3/15.
([28]) حلية الأولياء 3/15.
([29]) السير 12/447.
([30]) جامع بيان العلم وفضله 2/15.
([31]) جامع بيان العلم وفضله 2/15.
([32]) وفيات الأعيان 2/237 والتبر المسبوك ص85.
([33]) سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم ص22.
|