انكسيمانس: لم يوافق انكسيمانس رأي انكسيمندر على أن الجوهر الأول لامتناه، وقال بل العكس من ذلك بأنه مبدأ محدود معين هو الهواء. ومن هذا المبدأ تصدر الأشياء جميعاً بما في ذلك الآلهة والموجودات الإلهية. وهذا الهواء ليس مرئيا لنا، ولكن البرودة والحرارة والرطوبة تجعل من الممكن رؤيته. والهواء في حركة دائمة لأنه لو كان ساكناً لما حدث تغير ما، واختلافه في الموجودات المتكثرة يكون بفعل التكاثف والتخلخل Coudensation and rarefaction فعندما يتمدد يخلخل ويصبح ناراً، وعندما يتكاثف يصبح رياحاً، وعندما يتبدد يصبح سحباً وإذا ازدادت درجة تكاثفه فوق هذا أصبح الماء تراباً، وإذا تكاثف هذا التراب فوق ذلك أصبح صخراً، وإذن فالتغيرات التي تطرأ على المبدأ الأول هي تغيرات كمية ( ).
والعنصر الرئيسي عنده هو الهواء، فالروح هواء، والنار هواء مخلخل، وإذا ما تكثف الهواء انقلب بادئ الأمر ماء، ثم إذا مضيت في تكثيفه، انقلبت تراباً، وبعدئذ يكون صخوراً، ولهذه النظرية حسنة هي أنها تجعل الفوارق كلها بين العناصر المختلفة اختلافاً في الكمية، يعتمد كل الاعتماد على درجة التكثف.
ومن رأيه أن الأرض تشبه المنضدة المستديرة، وأن الهواء يحيط بكل شيء (فكما أن روح الإنسان لكونها هواء تمسك جسده، فكذلك ترى النفس والهواء يحيطان بالعالم كله، فقد يظهر أن العالم يتنفس)( ).
الفيثاغورية 532 ق.م
الفيثاغورية فلسفة رياضية كونية وطريقة صوفية تؤمن بتطهير الروح من البدن، وتعد اتباعها لحياة التأمل والرياضة الروحية.
والفيثاغورية جاءت في موضعها الصحيح من حلقات تطور الفكر الفلسفي عند اليونان، وذلك أن العقل اليوناني بعد أن اتجه إلى المحسوس الخارجي يتلمس الحقيقة في ثناياه، اكتشف أن هذا المحسوس إنما يخضع لنظام معين، وأن الرياضة هي التي تترجم عن هذا النظام، وكان على الفيثاغوريين أن يقوموا بهذا الدور، وأن يكشفوا ما تنطوي عليه المحسوسات من نظام وترتيب تمثله الأعداد والخطوط، وهنا نجد أن الفلسفة تجاوزت المحسوس إلى نوع من التجريد الوسط وهو التجريد الرياضي.
لقد اختلطت تعاليم الفيثاغوريين الروحية بأرائهم العلمية ونظرياتهم الرياضية، ولكن غلبة الاتجاه الرياضي على اتباع هذه المدرسة جعلت المؤرخين يطلقون اسم (فيثاغوري) على المشتغلين بالرياضيات منهم فحسب، أما التعاليم أو الوصايا الروحية التي عرفت عن هذه المدرسة فأهمها اعتقادهم بوجود نوع من القرابة بين الإنسان والحيوان، ومن ثم فهم يحرمون تقديم القرابين الدموية ويمتنعون عن أكل اللحم، ويذكر بعض المؤرخين أنهم كانوا يمتنعون فقط عن أكل لحم الحملان وثيران الحرث، وما ذبح على النصب من قرابين مقدمة للآلهة.
ومن وصاياهم: امتنع عن أكل البقول – لا تقطف زهرة من إكليل لا تلمس ديكاً أبيض – لا تأكل من رغيف بأكمله – لا تعبر فوق عارضة طريق.
ويبدو من هذه الوصايا أن الفيثاغوريين قد ضمنوا تعاليمهم الكثير من آراء اللاهوتيين ومحترفي السحر في عصر ما قبل الفلسفة.
وكانت الطريقة التي أسسها فيثاغورث تجمع بين حياة التقشف والرياضة الروحية والفكر الرياضي، وكانت عقيدة التناسخ محور تعاليم فيثاغورس وعليها تدور مجاهدات الفيثاغوريين وطقوسهم الدينية ومبادئهم الأخلاقية( ).
ويستهدف الفيثاغوريون من التناسخ تحرير النفس وخلاصها إلى المقام الأعلى حيث السعادة التامة، وذلك بعد سلوك طريق التطهر من الحس.
وقد أشار هرقليطس إلى أن فيثاغورث هو أول من ميز بين أنواع ثلاثة من الحياة: الحياة النظرية، والحياة العملية وحياة التأمل والعكوف على الذات. ومهما كانت صور الحياة التي نحياها إلا أننا يجب أن نسلم بأننا غرباء في هذه الدنيا وأن الجسم الذي يربطنا به إن هو إلا مقبرة النفس ( ).
ويرى الفيثاغوريون أن الحياة مرحلة صعبة ويتعين على كل من يريد أن يجتازها بنجاح، أن يتلقى تدريباً منظماً، وأن يطيل فترات الصمت وأن يستبطن نفسه يومياً ليختبر جوانبها وأطوارها ويقول أفلاطون إن فيثاغورث وأتباعه يرون أن المجهود العقلي هو أسمى صور التطهر، وهو أضمن الطرق لتحرير النفس في حياتهما هذه قبل الموت البدني، وكان الفيثاغوريون يستخدمون الموسيقى والرياضة لشد أزر النفس، وقمع نزوات البدن، ومقاومة المؤثرات الخارجية حتى تسيطر القوى الروحية على الفرد، وتتغلب على كل ما له علاقة بالحس والمحسوس. وقد رتب المتأخرون من الفيثاغوريين لكل من النفس والبدن أساليب خاصة للتطهر من المؤثرات الخارجية. فتطهير النفس يتم بالموسيقى والعكوف على الدراسات العلمية، أما تطهير البدن فإنه يتم بممارسة الرياضة ويلاحظ أن فكرة (الأخوة) التي نادى بها الفيثاغوريون مستمدة من عقيدتهم في التناسخ، ذلك إنهم يرون أن الموجودات كلها بما في ذلك النبات والحيوان والإنسان ترتبط فيما بينها برباط وثيق، وإنه في مرحلة الولادات قد تتقمص النفس جسم حيوان آخر أو إنسان آخر أو نبات مثلاً، وكان من نتائج مذهبهم هذا أن اعتبرت المرأة في جماعتهم مساوية للرجل ولها نفس حقوقه، معاملة العبيد معاملة إنسانية، ومن الناحية الاجتماعية أيضاً نجد أن الفيثاغوريين كانوا لا يميزون بين الأفراد إلا من حيث مواهبهم، فهم يصنفون الناس حسب طباعهم ومميزاتهم، وقد تحقق هذا التدرج بين الناس في التناسخ ( ).
وتميل المذاهب التي أوحى بها فيثاغورس إلى البحث في العالم الآخر، إذ تجعل القيمة كلها لوحدة الله التي لا تراها العيون، وتتهم العالم المرئي بالبطلان والخداع.
وقد أوضح فيثاغورس أن الروح خالدة، وأنها تتحول ضروباً أخرى من الكائنات الحية، وكل ما يظهر في الوجود يعود فيولد في دورة معلومة فلا شيء جديد كل الجدة، وأن كل ما يولد وفيه دبيب الحياة، ينبغي أن ينظر إليه جميعاً نظرتنا إلى أبناء الأسرة الواحدة.
نحن في هذا العالم غرباء، والجسم هو مقبرة الروح، ومع ذلك فلا يجوز لأحد منا أن يلتمس الفرار بالانتحار، لأننا ملك الله، هو راعينا، والناس في هذه الحياة ثلاثة ضروب تقابل الضروب الثلاثة من الناس الذين يفدون إلى الألعاب الأوليمبية فأحط الطبقات جماعة جاءت تبيع وتشتري ويتلوها ارتفاعاً أولئك الذين يتنافسون في المضمار، وخير الناس جميعاً هم أولئك الذين جاءوا ينظرون إلى ما يجري وحسبهم ذلك، وعلى ذلك فأعلى درجات التطهير النفسي هو العلم الذي لا يجعل الهوى أساسه، وإن من يستطيع تكريس نفسه لذلك هو الفيلسوف الحق.
ولذلك فإن التأمل العاطفي الوجداني عند فيثاغورس هو الفهم العقلي الذي يتمثل في المعرفة الرياضية. فالفيلسوف التجريبي عبد لمادته، أما الرياضي البحت فهو كالموسيقى يخلق عالمه بتنسيقه الجميل خلقاً حراً.
فالتأمل العقلي قد أدى إلى خلق الرياضة البحتة، وذلك أدى إلى نجاح الفيلسوف في اللاهوت والأخلاق والفلسفة وهو نجاح لم يكن ليظفر به لولا ما أظهره من نفع في عالم الرياضة( ).
فالرياضة هي المصدر الأساسي الذي عنه تفرع الاعتقاد في حقيقة أبدية مضبوطة، وفي عالم معقول فوق مستوى الحس، فالفكر أسمى منزلة من الحواس، وإن ما ندركه بالتفكير أقرب إلى الحق مما ندركه بالحواس. وكان تأثير فيثاغورس بأن العالم الأزلي ينكشف للعقل ولا ينكشف للحواس ( ).
هرقليطس 540/ 475 ق. م
يرى هرقليطس أن الأشياء في تغير مستمر، وأن القانون العام الذي ينظم الوجود هو التغير وعدم الثبات، والتجدد المستمر، فكل شيء في سيلان مستمر، ولا يوجد شيء باق على الإطلاق، فالإنسان لا يستطيع أن يضع قدمه في نهر واحد مرتين لأن النهر يكون قد تغير بين الخطوتين، ونحن موجودون وغير موجودين، وكما يوجد الواحد من الأشياء جميعاً، كذلك الأشياء تصدر عن الواحد، والله هو النهار والليل، والصيف والشتاء، والسلام والحرب، وهي ماهية الأشياء جميعاً، وهذا العالم لم تصنعه الآلهة أو البشر، ذلك أنه وجد هكذا، وسيستمر هكذا، وهو نار حية. والسبب الذي دعاه إلى القول بأن النار هي العنصر المكون للوجود هو أنها أقل العناصر ثباتا. وهو لا يقصد بالنار هنا اللهيب فحسب، بل أيضاً الدفء والحرارة على وجه العموم، ولذلك فقد سماها (البخار المتصاعد).
وتتكون الأشياء من النار ثم تعود إليها، وهكذا، ولما كان لا يوجد شيء ثابت على الإطلاق، فلا توجد إذن أي صورة باقية، إذ كل شيء في تحول مستمر من حالة إلى ضدها، فالشيء الواحد يتضمن في ذاته الأضداد جميعاً، والصراع قانون العالم، والتنازع أبو الأشياء، وكل ما يتفرق ويتحطم يعود ليلتئم من جديد، ويتحكم القانون الإلهي والقدر والحكمة والبقاء الكلي في كل شيء، ولو أن هناك تغيراً دائماً إلا أن هذا التغير يتم حسب قوانين ثابتة، إذ تتغير الأشياء ثم تعود ثانية. وتمر العناصر الأولية في تحولاتها بثلاثة مراحل أساسية: فمن النار يتكون الماء، ومن الماء يتكون التراب، وعلى العكس يعود التراب فيصبح ماء ثم يصبح الماء ناراً، وجميع الموجودات عرضة لهذا الأسلوب في التغير.
ولكن الموجودات تبدو لنا في الظاهر كما لو كانت ثابتة، ذلك لأنها تتلقى من جانب نفس المقدار الذي تفقده من جانب آخر، ويضرب لنا هرقليطس مثلاً بالشمس فإنها تتجدد كل يوم، فما تفقده بالنهار تتلقاه في الليل نتيجة للأبخرة المتصاعدة من البخار، إلا أنه إذا ما انتهت الأشياء جميعاً إلى النار الأصلية بحيث لا يبقى في العالم سوى النار، فإنه يكتمل دور من أدوار الوجود المتعاقبة، وتتكرر هذه الأدوار إلى مالا نهاية.
والنفس الإنسانية جزء من النار الإلهية، وكلما كانت هذه النار أكثر جفافاً، كانت أقرب إلى الكمال، وإذن فالنفس الأكثر جفافاً هي أحكم النفوس وأفضلها، وعندما تترك النفس الجسم تعود من حيث أتت، إلى عالم النار، ومن ثم فإن المذهب لا يعترف بخلو فردي للنفس مادام هناك تغير مستمر ( ).
أي أن النار هي العنصر الرئيسي، فكل شيء مثل لهب النار يولد بموت غيره، (إن أصحاب الفناء خالدون، والخالدين هم أصحاب الفناء، وكل واحد يعيش بموت غيره ويموت بحياة غيره). وفي العالم وحدة واحدة لكنها وحدة مؤلفة من اجتماع الأضداد (إن الأشياء جميعا ًتخرج من الواحد، والواحد يخرج من الأشياء جميعاً) لكن الكثرة أقل واقعية من الواحد الذي هو الله.
ونزعته الخلقية ضرب من التقشف، فيذهب إلى أن النفس مزيج من نار وماء، والنار منها جانب شريف، والماء جانب وضيع، ويسمى النفس التي رجمت فيها النار نفساً (جافة) إن النفس الجافة أحكم النفوس وأفضلها.
إنه من العسير على الإنسان أن يحارب رغبات قلبه، فكل ما يشتهيه القلب إنما يشترى على حساب النفس، ليس من الخير للناس أن يحصلوا على كل ما يريدون الحصول عليه، أي أن هيرقليطس يقدر القوة إن ظفر بها الإنسان، من سيطرته على نفسه، ويحتقر العواطف التي تصرف الناس عن مطامحهم الأساسية.
ويوضح هيرقليطس فكرة التغير، فكل شيء في تحول دائم، (إنك لا تستطيع أن تخطو مرتين في نهر بعينه، لأن ماءا ًجديداً سيظل دفاقاً عليك)، (إن الشمس تتجدد كل يوم) (إن كل الأشياء تتحول إلى نار والنار تتحول إلى أي شيء)، (إن النار تحيا بموت الهواء والهواء يحيا بموت النار، والماء يحيا بموت التراب، والتراب يحيا بموت الماء).
كما اهتم هيرقليطس بمذهب امتزج الأضداد، فهو يقول: (إن الناس لا يعرفون كيف يعود ما هو متباين التكوين إلى الاتفاق مع نفسه، والأمر هنا عبارة عن اتساق الأنغام الصادرة من أوتار متضادة لنغم القيثارة. إن في العالم وحدة، ولكنها وحدة نتجت عن تباين، فالأضداد تشترك لتنتج حركة الانسجام.
أزواج الأشياء هي أشياء كاملة وأخرى غير كاملة، هي ما ينجذب بعضه إلى بعض، وما ينفصل بعضه عن بعض، هي المتناغم والناشز، إن الواحد متألف من كل الأشياء، وكل الأشياء صادر عن الواحد)، ونراه أحياناً يتحدث كأنما الوحدة أصل التباين؛ (الخير والشر واحد).
(كل الأشياء بالنسبة لله عادلة وخيرة وصحيحة، أما الناس فيرون بعض الأشياء خطأ وبعضها صواباً). (الطريق الصاعد والطريق الهابط هما طريق واحد بعينه).
الله هو النهار والليل والشتاء والصيف والحرب والسلام، والشبع والجوع، لكنه يتخذ أشكالاً عدة، (فإذا لم يكن هناك أضداد يلتئم بعضها مع بعض لما كان هناك اتحاد) (إنه الضد الذي يكون مصدر الخير لنا)( ).
بارمنيدس: 450 ق.م
وإذا كان هرقليطس قد رأى أن الأشياء في حركة دائمة، وأن الأضداد تتمدد لتؤلف الانسجام في الكثرة فإننا نرى على العكس من ذلك أن بارمنيدس كان يقف على النقيض من هذه الآراء فينفي بارمنيدس ومدرسته الكثرة والتغير، ويقول بالثبات والوحدة، ويذهب إلى أن وراء التغيرات الظاهرية توجد ضرورة وقانون ثابت، وأن هناك وحدة ووجود ثابت، وعلى هذا، فالحركة والكثرة ليستا إلا عرضين ظاهريين. وليس ثمة قانون للوجود الحقيقي، غير الوحدة الشاملة والثبات الدائم.
ويرى بارمنيدس أن الوجود موجود ويستحيل ألا يكون موجود، وقد فهم من فكرة الوجود أنها ليست مجرد تصور منطقي بل إنها تشير إلى كتلة الموجودات ذاتها في الماء، أما اللاوجود فلا وجود له في الواقع أو في التصور، فاللاوجود غير موجود ولا يمكن تصوره، ومن هذه القاعدة استمد بارمنيدس مذهبه في طبيعة الوجود، فليس للوجود مبدأ ولا نهاية، لأنه لا يمكن أن يخلق من العدم، أو اللاوجود، وكذلك لا يمكن أن ينتهي إلى العدم، فلم يكن الوجود غير موجود في الماضي ولن ينقطع عن الوجود، بل هو موجود الآن وفي كل وقت بصفة مستمرة، وهو أيضاً غير منقسم لأنه هو في كل مكان، ولا يمكن أن يوجد ما يقسمه، ولا حركة فيه ولا تغير، متشابه الأجزاء، شبيه بشكل كري مستدير له أبعاد متساوية من مركزه إلى جميع جوانب سطحه، والفكر لا يختلف عن الوجود، لأنه ليس إلا فكر الوجود، والإدراك الوحيد الغير متغير في كل شيء. أما الحواس التي ندرك عن طريقها ظواهر الكون والفساد والتغير، هذه الحواس هي مصدر الخطأ. فالحواس تخدعنا، إذ أنها لم تظهر لنا الأشياء كما لو كانت في تغير مستمر، وأنها إلى فناء محقق، بينما الواقع بخلاف ذلك، إذ الوجود واحد ثابت غير متغير ( ).
ويقوم مذهب بارمنيدس على أن الحواس خادعة، ويعتبر كثرة الأشياء المدركة بالحواس أوهاماً لا أكثر، والكائن الحقيقي الوحيد هو (الواحد) الذي هو لا نهائي ولا يقبل الانقسام، وليس هذا الواحد –كما ارتأى هرقليطس- وحدة قوامها الأضداد، لأنه ليس هناك أضداد، فالظاهر أنه رأى مثلاً أن (بارد) معناها غير حار و(مظلم) معناها (غير ذي ضوء) ولا ينظر بارمنيدس إلى (الواحد) نظرتنا نحن إلى الله، إذ الظاهر أنه يتصوره مادياً وله امتداد لأنه يتحدث عنه على أنه كري الشكل، لكنه مع ذلك لا يقبل الانقسام لأنه بأسره موجود في كل مكان.
ويقسم بارمنيدس تعاليمه قسمين يسميها على التوالي (طريق الحقيقة) و(طريق الظن)، ويقول عن طريق الحقيقة (إنك لا تدري ما ليس بموجود –لأن ذلك مستحيل- بل لا يمكنك أن تنطق به، لأن ما يمكن التفكير فيه وما يجوز وجوده في شيء واحد في كلتا الحالتين.
إذن فكيف يمكن لما هو موجود فعلاً أن يصير موجوداً في المستقبل؟ أو كيف يمكن له أن يجيء إلى عالم الموجود؟ إنه لو كان قد جاء إلى عالم الموجود، إذن فليس هو بالموجود، وليس هو بالموجود أيضاً لو كان سيصير موجوداً في المستقبل، وعلى ذلك فالصيرورة تنمحي، وانقضاء الشيء في عالم الماضي يزول الكلام فيه).
(إن الشيء الذي يمكن أن يكون موضوعاً للتفكير، والشيء الذي من أجله يوجد التفكير، هو هو بعينه شيء واحد في كلتا الحالتين، لأنك لن تجد تفكيراً بغير