عند عودتها من زيارة بيت خالتها...مرت أسماء في طريقها على أحد المساجد القديمة و التي كانت تزين المدينة القديمة لتلمسان..كانت تحب المرور من هناك لتسمع تراتيل القرآن في ذلك المكان و تشم الروائح الزكية من العنبر الذي كان يعطره. غير أن الأصوات التي تسمعها و العبير الذي تشمه يأتيان من حقبة بعيدة في الماضي..فالمكان في عصرها كان قيد الترميم..تحيط به الصقالات من كل جانب. و في ذلك اليوم، لم يكن العمال في الموقع فاغتنمت الفرصة لتتسلل إلى الداخل..في صحن المسجد المهدم و الذي لم يبق منه إلا الأعمدة تتناثر حولها أدوات الترميم، كان المكان يصدح بالتراتيل. في هذا الركن...مجموعة من الأطفال تحفظ القرآن...بنما انتهى إليها صوت من بعيد...قرب بوابة قاعة الصلاة...درس في الفقه... في الجهة الأخرى حلقة في علم اللغة و فجأة...سكتت كل الأصوات و لم تعد أسماء تسمع شيئا...دارت في المكان..ربما هناك خطب و لكن لم يرتد إلى سمعها سوى الصمت...هذه أول مرة يحدث لها ذلك..."هل فقدت قدرتي على السمع؟؟" تقول ذلك في نفسها و الخوف يعتريها...لا...هي لم تفقد قدرتها..هاهي تسمع ما يدور من حديث في الحي بأكمله...يا ترى؟؟ لماذا توقفت أصوات الجامع ...و أين هي رائحة البخور التي لطالما استمتعت بها هنا.....البرودة تجتاح المكان فجأة....ثم...صوت طرق يصم الآذان يتناهى إلى سمعها بقوة فتصم إذنيها عنه . و لكن الطرق يستمر و كأن أحدهم يدق إسفينا كبيرا....لم يكن الصوت آتيا من مكان آخر بل و كأنه من داخل رأسها....تجول بنظرها حول المكان، لا أحد هنا....من أين يأتي هذا؟؟ تسرع إلى خارج الجامع و لكنه يظل يطاردها، لقد بدا قادما من داخل الجامع.....ما الذي يجري؟؟
تسرع مبتعدة عن هناك حتى تصل إلى إحدى المكتبات...تذكرت أن عليها المرور هناك فبل الرجوع إلى البيت..فقد وعدها صاحب المكتبة القديمة بأن يحضر لها كل الكتب الممكنة حول تاريخ مدينتها..لقد أرادت أن تدرسها لتفهم بعض الأسرار مما سمعته عندما تصلها أصوات الماضي....و اليوم هو موعده. كانت مكتبة قديمة تزخر بالكثير من الكتب القيمة و الأثرية..بعضها أصلي ،و كانت تحب الذهاب إلى هناك للقراءة أحيانا...تدخل عبر بابها الخشبي القديم...كل مرة تفعل ذلك تسمع أصوات العمال الذين صنعوه منذ زمن قديم..و كيف يثني الوالد النجار البارع على ولده في إتقانه الصنعة...
- السلام عليكم عمي أحمد
- و عليكم السلام يا بنيتي...
- هل أحضرت لي أمانتي...لا تقل لي أنك لم تجد شيئا...
- هاهاها....اصبري قليلا يا بنية...هناك...في آخر المحل ستجدين مرادك فاختاري منه ما تشائين....علي أن أرتب هذه الكتب في مكانها ...
- شكرا لك عمي.....سأرى ما يمكنني أن آخذه معي
- تفضلي ..تفضلي....
و تدخل المكان العبق برائحة الكتب القديمة...لطالما أحبتها و شعرت بنوع من راحة النفس....مرت على الرفوف الممتلئة كتبا و مجلدات....أخذت أحدها و أخذت تتصفحه. إنه يتكلم على الفترة الزيانية من تاريخ مدينة تلمسان..بدأت في تقليب صفحاته حينما سمعت أحدهم يقول...
- أنت.....أيتها الآنسة..
التفتت إلى مصدر الصوت لكنها لم تجد أحدا...أطلت على صاحب المحل و قالت
- عمي أحمد...هل ناديتني؟؟
- لا ...لم أفعل...
نظرت من حولها..تأكدت أن لا أحد غيرها و صاحب المكتبة في المكان...و لكنها متيقنة أن أحدا ما ناداها..استغفرت الله من الشيطان..علها كانت تتوهم و عادت لقراءتها و هنا أيضا...سمعت نفس الصوت ينادي
- أيتها الفتاة.....أنت...
نظرت إلى يمينها..ليس هنالك إلا الجدار المكسو برفوف تزدحم عليها الكتب...لا..لم تكن تتوهم...بقيت تنظر في ذلك الاتجاه طويلا حتى تجلى لها شكل ما....و نفس الصوت ينادي عليها
- أيتها الفتاة....ألا تستطيعين رؤيتي......
شيئا فشيئا ظهر لها الشبح تماما...كاد الدم يتجمد في عروقها من شدة الخوف و لكنه زال حينما تعرفت على مناديها .
شبح مر على جانب ياسين و هو في المكتبة استرعى انتباهه بالكامل، كان يمشي دون إحداث صوت. ثم توقف على يساره و أخذ كتابا من أحد الرفوف. تمعن ياسين في صورته فتبين له وجه فتاة...أحس ياسين انه رأى هذا الوجه في مكان ما...بل و كأنه يعرف صاحبه....اقترب قليلا منها و أخذ ينظر إليها بينما لم تتحرك الفتاة من مكانها و لم تعره اهتماما و كأنها لا تراه..."آه...إنها هي...الفتاة التي رأيتها في ذلك الحلم الغريب...أنا متأكد أنها هي" علائم الدهشة التي اجتاحت وجه ياسين و تمتمته لم تحرك في الفتاة شيئا...
"علي أن أعرف من هي...ذلك لم يكن حلما...أنا اعرف انه لم يكن حلما...و هاته الفتاة...(و بدأ ينظر إليها بتمعن) ليست هنا؟؟"...نظر من حوله و كأنه يريد التأكد من أن قدرته على الرؤية لا تزال سليمة...عاد و نظر إليها...كانت تبدو كالطيف و لكنه بدا حقيقيا جدا...." سأكلمها...ربما .."..
استجمع قواه و قال بصوت خفيض
- آآ عذرا.....السلام عليكم....
لم تلتفت الفتاة إليه.." لم تسمعني....لا...."
- أنت...أيتها الآنسة...
تحركت الفتاة و لكن في اتجاه آخر تماما...بدا له و كأنها اختفت...عاد و بحث عنها بين الرفوف.." يا إلهي...ألم تسمعني...هاه...هاهي..."
- أنت....أيتها الفتاة...ألم...
هنا نظرت الآنسة في اتجاهه...و بدا كأنها لا تراه..أخذت تمعن النظر فيه و هو متيقن أنها تلك الفتاة التي رآها في ذلك الحلم..هذه المرة لا مجال للشك..و لكن لماذا تبدوا أنها شبح فقط...لماذا لا تبدو له في هيئة حقيقية...أليست من ذلك العالم..أما أنها من مكان آخر تماما.....تغيرت نظرة الفتاة الحائرة إلى نظرة اندهاش....لقد بدا أنها تعرفت عليه أو أنها استطاعت رؤيته...فقالت:
- أنت.....أنت الفتى......سيدة النافورة....
في تلك اللحظة أحس ياسين كمن يخرج من عالمه إلى عالم آخر...بدا له كل شيء في الظلام بينما بقي هو و تلك الفتاة وجها لوجه في مكان بين الأمكنة...أحس ياسين بالزمن يتوقف و بشبح الفتاة يتجلى أكثر و أكثر و يصبح حقيقيا..اختفى الكتاب الذي كان يمسك به و ذلك الذي كان في يدها كذلك.....فجأة تتغير الصورة تماما ليجدا نفسيهما في مرج واسع فسيح ينبض اخضرارا و تزينه الأزهار من كل الألوان..بدا تماما كالمكان الذي وجدا نفسيهما يعدوان فيه في ذلك الحلم....تكلمت الفتاة أولا في محاولة لفهم ما يجري:
- أنت...ألست الفتى في.....
- في القصر...أمام النافورة...
- أجل...النافورة...و هذا السهل الذي كنا.....
رغم تعرف كل منهما على الآخر إلا أن ذلك لم يوقف دهشتهما. كيف جاءا إلى هذا المكان؟.
to be continued
jang-mi