منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - حكايا المملكة البيضاء
عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-08-13, 12:21   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
jang-mi
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية jang-mi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أصوات الأطفال تملأ أزقة مدينة عنابة القديمة، بين مجموعات تلعب و تلهوا..أو تلك التي لم يسعفها الحظ فتجدها تنادي القوم ليشتروا منها ما ينقصهم...و هاهو رياض جالسا على محفظته المدرسية و يسامر شبانا أكبر منه سنا على لعب الورق...إنها الحياة التي يحبها ،لهو مع الأصدقاء دون تقريع أو تأنيب من هذا المعلم أو ذاك....كل ما كان عليه فعله هو اللعب بالزمن و المكان مثلما يفعل كل مرة يجد نفسه فيها في ورطة....ورطته اليوم هو الواجب المدرسي الذي لم ينجزه، وأي واجب ....الرياضيات. غير أن سرعة عمل عقله المذهلة و استطاعته الخارقة تحديد أبعاد الزمن و المكان أعطياه قدرة هائلة على التعامل معهما و تحويرهما حينما يتناسب المعلمان...أي في أوقات معينة. و منها ذلك اليوم الذي نجا فيه من عقوبة أستاذ الرياضيات. كل ما عليه فعله هو قلب المعالم، فيخرج من الزمن و المكان الذي يتواجد فيهما إلى زمن و مكان آخرين و يقوم بكل ما يريده ثم العودة في فارق زمني لا يتجاوز أجزاء قليلة من الثانية....غير أن المتسع الزمني الذي أحس به و هو ينهي وظيفته و مروره على الشبان المتحلقين حول طاولة الورق جعله يتوقف هنيهة ليلعب قليلا معهم.
أصوات الشباب تتعالى و تختلط بأصوات الأطفال و الباعة المتجولين :
- هه...نلت منك...ضع أوراقك الآن فلعبتك مكشوفة هيا...
- يااااه ...كيف تفعل ذلك...لن ألعب...لا فائدة...
و يقوم الفتى الأسمر الطويل غاضبا.....و يترك المكان رغم توسلات الأصدقاء له بالعودة...بينما رياض مزهو بنفسه، هذه ثالث لعبة يفوز فيها في ظرف قياسي...لكنهم لا يعلمون انه لم يكن بينهم سوى لبضع لحظات و انه لا ينبغي أن يكون هناك.
سعادة رياض بتمكنه من حل واجبه المنزلي و العودة دون أن يميز أحد اختفاءه لم تمنع عقله المذهل في إعادة ترتيب المعالم كما كانت قبل أن ينقضي وقته و إلا أصبح سجينا في اللازمان و اللامكان..عملية دقيقة لا ينبغي له أن يهمل أي تفصيل فيها و إلا قضي عليه...و هذا ما تعلمه منذ أول يوم اكتشف في نفسه تلك المقدرة الخارقة.
في القسم لا يزال التلاميذ لم ينتبهوا ، لم يلمحوا حتى ، اختفاء الظل الضوئي لرياض عنهم. سرعة العملية تمكنه من الحفاظ على تواجد ظله الضوئي في مكانه الأول و العودة دون ان يتغير شيء في وضعيته. لقد كان يسميها عملية التوقف اللحظي، و كأن كل شيء يتجمد بين العالمين و الزمنين. يربت خالد على كتفه قائلا:
- رياض...أراهن أنك نسيت واجب الرياضيات مثل المرة الأولى...هل تريد نسخ إجابتي؟؟ ( و يتبعها بضحكة تهكم و سخرية)
- وفر على نفسك عناء إخراج ورقتك...وظيفتي معي و محلولة بالكامل ..لا تقلق. و يضيف في سره( أحمق)
يعم الهدوء شيئا فشيئا قاعة الدراسة مع دخول أستاذ الرياضيات و الذي كان يطلق عليه التلاميذ (المتحجر) نظرا لتصلبه و حزمه الشديد. كان رجلا طويل القامة و نحيفا، يضع نظارات و يحمل حقيبة كبيرة تخرج منها الأوراق من كل جانب( جملته المفضلة:" أنا الأقدم، انأ أول أستاذ هنا..."). عندما يدخل القسم تتوقف الحركة و الكلام و كل شيء...حتى التنفس.
يستقيم الشبان في جلستهم و يحيون أستاذهم بصوت واحد...و مباشرة يخرج كل تلميذ أدواته وواجبه و يضعه على جانب الطاولة، فيمر الأستاذ ليلقي نظرة على كل ورقة قبل أخذها. هنا كان كل شيء على ما يرام...غير أن شيئا غريبا حدث لرياض. كان الأستاذ على بعد طاولتين من مكانه عندما بدأت ورقة رياض بالاختفاء أمامه...أصيب الفتى بالذعر و هو يرى واجبه المنزلي يتلاشى " يا إلهي...ما الذي يحصل...لماذا؟؟" حاول الفتى أن يمسك بورقته و يمنعها من الاختفاء و لكنه لم يفلح حتى في لمسها...و كأنها كانت سرابا و اختفى.
وصل الأستاذ إليه ليجده في حالة من الفزع و الرعب، وجهه كان أبيضا كأنه قطعه من قماش...كان منظرا طبيعيا بالنسبة للأستاذ نظرا للرهبة التي يتمتع بها. هلع رياض و عدم وجود الورقة أمامه فتح أبواب الجحيم في وجهه. ليس مجرد التقريع و التأنيب الذي جعل منه غبي القسم، بل خصم النقاط و استدعاء الولي و تحميله بواجب أقسى...لم تكن تلك المشكلة التي جعلت رياضا يحس بالرعب..بل اختفاء الورقة من بين يديه و اختلال درجات البعد الزمني الذي كان فيه هو الذي أصابه بالقلق...ما الذي يحدث؟؟ ماذا جرى في ذلك المكان؟؟
و في أثناء تواجده بالرقابة، بعد طرده من الحصة، حاول الفتى أن يستجمع ذكرياته حول ما يمكن أن يكون قد حصل أثناء تواجده في المدينة القديمة. حاول أن يتذكر كل شيء حتى المرة الأولى التي اكتشف فيها مقدرته على تغيير الإبعاد....منذ زمن ، كاد رياض أن يغرق في البحر عندما كان يسبح و رفاقه...حاول أن يتحدى نفسه بقدرته على التحمل ، فسبح مبتعدا على الشاطئ مسافة ما لبث بعدها إن أصابه الإعياء، حاول أن يبقى طافيا على سطح الماء ،لكن إحساسا بفقدان الوعي أخذ ينزل به إلى الأعماق...كان عقل رياض يفكر أنه ربما تلك نهايته، حاول أن ينطق بالشهادتين لكن و هناك، داخل الماء فتح عينيه ليجد نفسه و كأنه يطفو في عالم من المعالم تظهر له صور الأماكن فيها تباعا...دون أن يحس وجد نفسه يمد اليد إلى إحدى الصور، الشاطئ الذي كان عليه. تسارعت عملية تطابق المعالم ليجد نفسه في النهاية يقف على اليابسة خلف أصحابه الذين كان الرعب يفتك بهم و هم ينظرون في الاتجاه الذي ظنوا انه غرق فيه...و عندما نادى عليهم بهت الجميع لرؤيته بينهم...حاول أن يشرح لهم الأمر لكنه رأى أنه مستحيل التصديق....عاود التفكير فيه ليجد انه لا يفكر في كيفية نجاته العجيبة...بل كأن رأسه أصبح حاسوبا تتمظهر فيه المعالم الزمكانية و تتلاحق فيه الصور...و بالتدريج و التدريب، وجد أن تلك قدرة خارقة على التحكم في الأزمنة دون تغييرها...بل مجرد العبور، و إن حالفه الحظ تناسبت المعالم يمكنه فعل شيء ما و العودة دون الاختفاء الضوئي من الحاضر....و أهم ميزة لقدرته الخارقة هو إدراكه للإشعاع اللامرئي الذي تصدره كل الأشياء من حوله و حتى الذي يصدره الناس...كان يحس بقيمة الأشياء و بالتأثير الذي يطلقه الناس بمجرد المرور أمامهم. غير أن اختفاء وظيفته بتلك الطريقة جعله يحس بخطر داهم.
في طريق عودته إلى البيت، أخذ رياض طريق المدينة القديمة..أراد أن يعود إلى المكان الذي كان فيه و التأكد من حقيقة ما حصل. مر على الشارع البحري و صادف الأطفال الذين رآهم تلك الصبيحة في نفس وضعيتهم..مر على الشبان الذين كانوا يلعبون الورق فيرفع أحدهم رأسه إليه و يرمقه بنظرة و كأنها تقول" و كأني رأيتك في مكان ما؟؟"...لم يبقى له إلا أن يعود إلى أطلال القلعة القديمة حيث كتب وظيفته...مر على الأحجار التي كانت تطلق إشعاعا متألقا ينبئ عن قيمتها الكبيرة غير انه توقف فجأة أمام إحدى الصخور. كانت عبارة عن عمود رخامي كبير ذو تاج منقوش برسوم لأوجه من عصر الرومان...كان جميلا جدا و في حالة ممتازة بالنظر إلى المكان و الحالة المهملة فيها. لقد تذكر أنه جلس هناك ووضع ورقته على المكان المسطح فيه ....كان يشع بريقا متلألئا لما أتى إلى هناك، و لكن الآن، ذلك العمود نفسه في مكانه غير انه لا بريق له...هالة سوداء تحيط به...اقترب رياض منه ووضع يده عليه و لكنها غاصت في الظلام... سحب يده و الرعب يتملكه: يا الهي ...ما الذي حدث هنا؟؟.


to be continued

jang-mi









رد مع اقتباس