عندما يكون الحديث عن الاسلام وموقفه من العروبة والقومية العربية وموقفه من الوحدة العربية فلابد من التنبيه والتنبه الى أننا بازاء أكثر من ( اسلام ) !
* فهناك ( الاسلام : الدين ) كما تمثل ويتمثل في النص القرآني الموحى به من الله سبحانه وتعالى ، الى الرسول عليه الصلاة وأزكى التسليم ، وفي السنة النبوية التشريعية ، التي جاءت تفصيلا لمجمل القرآن وشرحا لموجزه ، وفتاوى في قضايا الدين .... وهذان المصدران هما اللذان تجسدا ثمرة للاجتهاد في علوم الوحي أي العلوم الشرعية .هذا هو الاسلام : الدين .
* وهناك (الاسلام : الحضارة) ، كما تمثل ويتمثل في ثمرات العقل المسلم وتجربة المسلمين في مختلف مناحي الحياة الدنيا ، التي يستطيع العقل الانساني أن يدرك حسنها أو قبحها ، نفعها أو ضررها ، دون عجز أو قصور يضطره الى أن يستلهم فيها رأي الوحي وكلمة السماء .
ولقد عرف العرب المسلمون ( الاسلام : الحضارة ) منذ تأسيس دولتهم الأولى ، دولة المدينة ، تلك التي كانت بيعة العقبة عقدا تأسيسا لها ، والتي تبلورت " مؤسساتها " تدريجيا منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة .
فلم تكن الدولة هدفا من أهداف الوحي ، ولا مهمة من مهام النبوة والرسالة ، ولا ركنا من أركان الدين ، وانما أقتضتها ضرورة حماية الدعوة الجديدة ، والدفاع عن الدعاة المؤمنين ضد اضطهاد المشركين ، فكان تأسيسها وتدعيمها انجازا سياسيا وحضاريا وقوميا ، حفظ الدين ودافع عنه وساعد على انتشاره ، على الرغم من أنه ليس جزءا أصيلا من مهام النبوة والرسالة ولا هو أصل من أصول الدين .
وفي ظل هذه الدولة ، وعلى مر التاريخ تبلورت الحضارة الاسلامية في المحيط العربي أولا ، ثم في محيط الشعوب التي أسلمت ولم تتعرب ، وكانت العلوم العقلية وثمرات التجربة الانسانية من كل ما يستطيع العقل المسلم ادراك حسنه أو قبحه ، نفعه أو ضرره ، البناء الذي تجسدت فيه هذه الحضارة ، التي هي : ( الاسلام : الحضارة ).... أو ما نسميه الحضارة الاسلامية ، وفي محيطنا العربي نسميها الحضارة العربية الاسلامية .
* وهناك ( الاسلام : التاريخ ) الذي عاش المسلمون في ظله بعد جمود حضارتهم وتوقفها عن النمو والازدهار والابداع والعطاء ، وعلى وجه التحديد منذ سيطرة الجند الترك المماليك المجلوبين على مقاليد الأمور في الدولة العباسية ، تلك السيطرة التي ظهرت آثارها الأولية منذ عهد الخليفة العباسي المتوكل .فمنذ ذلك التاريخ تراجعت - تدريجيا - القسمات الجوهرية ( للاسلام : الدين ) وبرزت الزوائد والشوائب والبدع والخرافات ، وشهد المجتمع الاسلامي مرحلة اجترار الجوانب المتخلفة من تراثه الديني ، وساد ( النصوصيون ) وعبدة المأثورات ، وأخذ " الجامعون والململمون والمصنفون " يوجزونها في المتون ويفصلونها في الحواشي والشروح والتعليقات وشروح الشروح والتهميشات على التعليقات " وتراجعت كذلك القسمات الجوهرية ( للاسلام : الحضارة ) وفي مقدمتها قسمة العقلانية وقسمة العروبة اللتين مثلتا وجهي عملة الحضارة العربية الاسلامية في عصر العطاء والازدهار .
ولقد كان وراء هذا التراجع ( للاسلام الدين ) و ( الاسلام الحضارة ) غربة السلطة العسكرية الحاكمة عن حضارة الأمة ، الأمر الذي انتكس بقسمة العروبة ، وأيضا -جهلها - بسبب من طبيعة أهتماماتها ، واساليب تربيتها كجند مماليك - جهلها بحقيقة جوهر الاسلام .
فعندما تقصر المدارك عن أن تعي الاسلام ببراهين العقل ، فلن تستطيع هذه المدارك أن تدرك دينا جعل العقل حاكما في شريعته حتى على النصوص والمأثورات .
* ان هناك وبالأحرى هنا ( الاسلام : المعاصر ) ذلك الذي تمثل ويتمثل في حركة البعث والتجديد والنهضة والاحياء التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهي الحركة التي أستنفرتها الهجمة الأستعمارية الأوروبية الحديثة .ولقد تجسد هذا الاسلام المعاصر في تيار عريض ، هو تيار البعث الاسلامي ، وان تكن قد تميزت في محيط هذا التيار العريض الدعوات والحركات والمذاهب الى حد ما ، حينا ، والى حد كبير في بعض الآحايين ... فمن الوهابية الى السنوسية الى المهدية الى الجامعة الأسلامية التي بلور تيارها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ...الخ
وثمرات هذا التجديد والبعث ، ان في العقائد أو في الحضارة ، هي التي نسميها ( الاسلام : المعاصر )...
واذا كان الأمر كذلك ، فلابد لنا كي نعي حقيقة موقف الاسلام من العروبة و القومية العربية وحقيقة موقفه من الوحدة العربية من أن نبحث عن الموقف من هذه القضية لدى ( الاسلام الدين ) و ( الاسلام الحضارة ) و ( الاسلام التاريخ ) و ( الاسلام المعاصر ) .. وذلك حتى لا نقع في الغموض والتعميم !